خرجت إحدى المدرسات الأجنبيات من جامعة البعث في مدينة حمص السورية، مطرودة العام 2004، وحين حاول أحد الطلاب تخفيف صدمتها، قالت له "عندما أردت القدوم إلى سوريا منذ عدة سنوات، سألتني أمي: أحقاً تريدين الذهاب إلى تلك البلاد؟! إنها بعيدة وليس فيها مسرح! بعد فترة من وصولي إلى هنا، اتصلتُ بأمي وقلت لها: هذه البلاد كلها مسرح، كلما رأيت شيئاَ، أضحك".
بالتغاضي عن فكرة أن المسرح ليس مكاناً للضحك فقط، لا تكف هذه الحادثة عن القفز إلى ذاكرتي عقب كل مضحكٍ مبكِ يحدث، والآن أبلغ ما يمكن أن نفعله عندما نقرأ أو نسمع آراء البعض حول العرض المسرحي "يا كبير" الذي لم يشاهدوه أصلاً، هو أن نضحك ونبكي في آن واحد على حالنا.
لا تُثِير حفيظة مجتمعاتنا كل الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان، من جوع واعتقالات وموت تحت التعذيب، وإهانة للكرامة، بل أثارها ظهور الممثل حسين مرعي عارياً على خشبة المسرح في مهرجان أيام قرطاج، في مشهد أراد منه تعرية الواقع العربي، وذلك لأن القتل والقمع صارا أمراً اعتيادياً في حياتنا، أما العري حتى لو كان لأغراض درامية وإنسانية، فهو فضيحة أخلاقية ومشهد مؤذٍ للنظر، لأننا لم نعتد هذه المشاهد من قبل، ولأن الجنس والعري يجب أن يتما في الخفاء، عكس القتل وقطع الرؤوس، اللذين يمكن أن يتما بالعلن.
طعن عري هذا الممثل عفتنا التي نباهي بها، وانتهك تقاليدنا الدينية والاجتماعية، أما صور ضحايا الحروب وفيديوهات الأطفال الذين يموتون من الجوع في اليمن، والذل الذي يتعرض له السوريون في مخيمات اللجوء لم تجرح أبصارنا، ولم يحرك مشاعرنا خروج آلاف الأطفال من المدارس، وتشردهم واغتصابهم، ولا حتى تزويج القاصرات والمتاجرة بالنساء في مخيمات اللجوء واستخدامهن كدروع بشرية، ولا اغتصابهن في المعتقلات أو على يد التنظيمات الإرهابية وأحياناً بحضور أزواجهن أو آبائهن لإذلالهم.
هذه الديكتاتوريات من خلقها؟ هل المجتمعات العربية أوجدتها أم أن الديكتاتوريات هي التي خلقت المجتمعات العربية بشكلها الحالي؟ اثنان من مجموعة أسئلة طرحها العمل المسرحي "يا كبير" على حسب قول مخرجه رأفت الزاقوت الذي شارك أيضاً بكتابة السيناريو مع أمل عمران، التي تمثل في العمل نفسه إلى جانب حسين مرعي، كما عالج العمل السلطة الأبوية في العائلة، ومفهوم (الكبير) أي صاحب السلطة والمعتقلين في السجون السورية.
تبدأ المسرحية بلقاء الأخت (أمل عمران) بأخيها (حسين مرعي) في الغربة بعد غياب، من خلال زيارة تزامنت مع وفاة والدهما، يحاول الأخ اقناع اخته بعدم الذهاب إلى سوريا لحضور الجنازة متعللاً بالحرب هناك، ويتطور الحدث ليصوّر الجحيم التي نعيشها في ظل الأنظمة الديكتاتورية، ويصور الأب وهو رجل مخابرات شارك في سفك الدماء ومتورط في تدمير وطنه وعائلته أيضاً، ولكن الأخت تصر على السفر، فينتهي الأمر بأن يغتصب الأخ اخته وتقوم هي بقتله والانتحار بعدها.
العديد، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي لم يلتفت إلى رسالة العمل، وانحصر الحديث عن الصدمة التي أثارها ظهور أحد الممثلين عارياً، بعد انتشار فيديو من العرض، فتباينت ردود الأفعال وانقسمت بين من أشاد بجرأته وصرخته في وجه الظلم والديكتاتوريات، ومن اعتبرها حريته الشخصية في اختيار الطريقة التي يريد فيها التعبير عن قهره وإيصال صوت السوريين، وقسم آخر استحضر الحكم الأخلاقي واستنكر، واعتبر المشهد مبتذلاً أساء للعمل. كما تم تداول معلومات غير صحيحة، منها أن مشهد العري كان ارتجالياً من الممثل، غير متفقٍ عليه، وأن غالبية الحضور غادروا العرض اعتراضاً على المشهد، في حين أن الذين خرجوا هم فقط ثلاثة أو أربعة أشخاص، ورد فعل باقي الجمهور كان إيجابياً، كما قارن الإعلامي كمال الشارني العري في المسرحية "بالأوبرا التي تقوم على جمال وتناسق الجسد الراقص ولم تسمح بتعريه إطلاقاً"، في حين أن المغنين في الأوبرا (الكونتمبورري) تكون أجسادهم عارية أحياناً .
أصدر مدير مهرجان قرطاج حاتم دربال بياناً في اليوم التالي للعرض، أوضح فيه "أن ما قام به الممثل لا يتضمنه شريط الفيديو الذي اعتمدته لجنة اختيار العروض، وهو ما يعتبر ممارسة فردية، لا مسؤولة قام بها الممثل، مخلاً بالعقد الأخلاقي والمهني"، كما أشار خلال لقاء إذاعي أن المشهد لم يحتو على أية إيحاءات جنسية، وإنما الهدف منه كان التعبير عن انتهاك الحرمات في العالم العربي والاعتداء على الجسد.
لا تُثِير حفيظة مجتمعاتنا كل الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان، من جوع واعتقالات وموت تحت التعذيب، وإهانة للكرامة، بل أثارها ظهور الممثل حسين مرعي عارياً على خشبة المسرح في مهرجان أيام قرطاج، في مشهد أراد منه تعرية الواقع العربي.
طعن عري هذا الممثل عفتنا التي نباهي بها، وانتهك تقاليدنا الدينية والاجتماعية، أما صور ضحايا الحروب وفيديوهات الأطفال الذين يموتون من الجوع في اليمن، والذل الذي يتعرض له السوريون في مخيمات اللجوء لم تجرح أبصارنا ولم يحرك مشاعرنا.
لم يلتفت العديد إلى رسالة العمل، وانحصر الحديث عن الصدمة التي أثارها ظهور أحد الممثلين عارياً، بعد انتشار فيديو من العرض، فتباينت ردود الأفعال وانقسمت بين من أشاد بجرأته وصرخته في وجه الظلم والديكتاتوريات، ومن اعتبرها حريته الشخصية
في حديث مع مخرج العمل رأفت الزاقوت، المقيم في برلين، قال: "ما حدث هو شيء محزن، المحزن هو هذا الربط المتواصل للفنّ بالأخلاق، والجسد العاري بالأخلاق في مجتمعاتنا. كما بالإعلام، هنالك كم كبير من الابتذال والضحالة بالتعامل مع العمل المسرحي والفنّ عمومًا. نحتاج إلى وقت كثير كي نتعامل مع الفنّ بشكل مختلف، وهذا ليس له علاقة فقط بالفنّ، إنما بمجالات عديدة في حيواتنا. لكن، جيّد أني في أوروبا، ولدي هامش من الحرية لأواصل العمل، لكن موجع ما يحدث في عالمنا العربي، وموجع إدراك كم نحتاج إلى وقت كي تكون لدينا مساحات أكثر صحيّة للتعبير. بالمقابل، الجدير بالذكر أن بعد العرض المسرحي في مهرجان قرطاج، وصلتني رسائل دعم كثيرة من تونس".
يُشار إلى أن مهرجان أيام قرطاج المسرحية قد انطلق العام 1983 في تونس، بإشراف وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، ومسرحية "يا كبير" كانت من بين 177 عملاً شارك في المهرجان لهذا العام في دورته العشرين، وهي العمل الثاني للفرقة السورية "مقلوبة".
ختامًا، يجب على الفنّ يتحدى الحدود المرسومة في رؤوسنا ومجتمعاتنا، خاصّة نحن الذين شاركنا بالثورات التي تطالب بالحرية، علينا أن ندعم حق الفنان وحريته في اختيار الطريق الذي يريد فيه التعبير عن مشاعره وانفعالاته، لأن الفن من أجمل الوسائل السلمية التي يمكن أن ترفع صوت المقهورين. لربما، لذلك يخافه المستبدون، ويحاولون كبحه بكل ما يستطيعون من وسائل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...