في مهرجان قرطاج المسرحي الأخير في ديسمبر 2018، فوجئ جمهور أحد المسرحيّات المشاركة، بأحد الممثلين الرجال يتعرّى على المسرح، ويظلّ لبضع دقائق يؤدّي دوره وهو عارٍ تماماً، وأحدث هذا ردود أفعالٍ غاضبةً وارتباكاً شديداً بين جمهور النقّاد العرب، وبعضهم تعامل مع الواقعة بأنها ليست ذات أهمية والغرض منها جذب الأنظار، وأن العرض ضعيف فنيّاً أو جماليّاً أو خطابيّاً، وخطابيّاً هنا مهمّة تحديداً لهذا العرض، لأنه يتناول حَدَثاً آنيّاً وهو الثورة السوريّة والحرب، و أحداثه تدور في إطار المسرح السيكولوجي القائم على شخصيات وحبكة وصراع،
وغالباً مأساة في نهاية العرض، وهذا النوع المسرحي السائد في المنطقة العربيّة والسائد في معظم مسارح العالم، شخصيات هذا العرض كُتبت في إطار أن كلّ شخصية تمثّل توجّهاً جمعيّاً أو طرفاً من أطراف الصراع السوري، ولكن بدون رمزيّةٍ مبتذلة، أيّ تظلّ كلّ شخصية هي شخصية لها تاريخ ودوافع ويمكن أن تراها حيّةً في المجتمع .
هل يمكن تبرير العري دراميّاً، وهل العري أحياناً ضرورة مسرحيّة؟
هل للعري قيمة مرنة تتغير حسب السياق؟ هل للفن معايير أخلاقية غير معايير المجتمع؟ وهل "على الفنّ أن يعرّي كلّ ما يجب تعريته، حتى يكشف لنا الرواسب العفنة داخل المستنقع البشري المنغلق على الظلامية والكبت"؟
هل يمكن تبرير العري دراميّاً، وهل العري أحياناً ضرورة مسرحيّة؟
بالطبع لن تصل إلى إجابةٍ قاطعة تحديداً في الوسط المسرحي العربي أو في المجتمع العربي بشكلٍ عام، ربما لازدواجية المجتمع العربي والتي تمّ اختبارها أكثر من مرّة، تحديداً بعد اندلاع الربيع العربي ومراحله ومنحنياته، وكأن هذه المرحلة، بما امتلأت به من حوادث يوميّةٍ متعاقبةٍ، تعبر بنا، ليس فقط سياسيّاً، وإنما اجتماعيّاً ومعرفيّاً، وأوّل عناصر هذا العبور هو الجسد وأسئلته، هل جسدك مقدّس أم مدنّس، ملكك وحدك أم ملك الحكومة، هل هو وعاء أفكارك فقط، أكانت نبيلة أو شريرة، أو أفكار المجموع؟
وإشكالية الجسد والعري والإجبار على التعرّي حاضرة من اللحظات الأولى في وعي الربيع العربي الجمعي بكلّ أشكاله، فإذا قمت بتصفّحٍ بسيطٍ على الإنترنت، ستدرك مركزية هذا الجسد العربي المقدّس والمدنّس، ومدى حضوره في كلّ الأحداث من 2011، عام الفوران العربي.
ستجد الناشطة المصريّة التي نشرت صورها عاريةً على موقع تدوين، وردود الأفعال والجدل الذي دار بين النشطاء الثوريين في ذلك الوقت، حول حقّها في فعل ذلك، ونفي الثورية عنها أو تمثيل الثورة المصريّة، فيما بعد انضمّت الناشطة الى مؤسّسة "فيمن" النسويّة العالميّة وأصبحت تتعرّى في الشارع في أوروبا، وجسدها الذي كان محوريّاً لوجوده في مصر، أصبح هامشيّاً نوعاً ما، لأن خشبة المسرح تغيّرت، وخشبة المسرح هنا هي الفضاء العام المصري، شارع "الإنترنت".
العري وانتهاك الجسد
ربط المخرج السوري (رأفت الزاقوت) وفريق العمل، تعرّي الممثّل على خشبة المسرح بتعريتنا كمواطنين سوريين، وذكر هذا في تصريحات بعد الأزمة وصرّح أيضاً لشبكة جيرون الإعلاميّة:
"ربط الجسد بالأخلاق في الفنّ لا يستقيم، وهو شيء مرعب ومدمّر للفن؛ لأن الفنّ مادة حيوية، لا يجب أن تروّض وتنصاع للذائقة العامة، ولأن الجسد له كينونته وهو عنصر أساسي في العمل الفني. فالجسد بصفةٍ عامّة شيء مرتبط بالشخص وبالحرّية الشخصّية، بينما يحمل الجسد في الفنّ طابعاً فنيّاً مرتبطاً بحرية الفنّ.
وعلى الفنّ أن يعرّي كلّ ما يجب تعريته، حتى يكشف لنا الرواسب العفنة داخل المستنقع البشري المنغلق على الظلامية والكبت."
هذه المسرحيّة أيضاً شهدت فعلاً مسرحيّاً هامّاً آخر مرتبطاً بالجسد، وهو اغتصاب البطل للبطلة وهي أخته، وهذا الفعل المسرحي كاستعارةٍ رمزيةٍ عن الوضع السوري الآني العنيف، وهذا يُحيلنا للجسد العربي، بين ثنائية التقديس والتدنيس، تظهر هذه الثنائية في مسرحيّة "اغتصاب" للكاتب السوري سعد الله ونوس، وهي مسرحية تُعدّ الآن كلاسيكيّةً، كتبت في عام 1989 ربما كردّ فعلٍ على أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987.
في المسرحية يقرّر ونوس الكتابة عن حادثة/ جريمة اغتصاب سيدةٍ فلسطينيّةٍ أمام زوجها، أثناء استجوابه من قبل قوات الأمن الإسرائيليّة الداخليّة، ولكن بالطبع ونوس يكتب حول الواقعة ولا يقوم بإشاراتٍ مسرحيّةٍ تسمح بتجسيد هذا الجسد المغتصب على الخشبة، لأن طريقة الكتابة هي كتابة واقعيّة لا تحتمل التخييل أو استبدال المشاهد الواقعيّة بمشاهد رمزيةٍ أو رقصاتٍ أو موسيقى تصويريّة عالية ومؤثرة، وربما استحالة تعرّي ممثلة أو الممثلين المغتصبين من خلال تمثيل ومحاكاة مشهد اغتصاب (والذي غالباً ما يحتمل تعريّاً ما) فتح للكاتب ونوس باباً آخر لإبداع نصٍّ ملأه بالشخصيّات والصراعات الدراميّة، باستعادة الحدث وتشابكه مع حيوات الجنود /الجلّادين الإسرائيليين، ومع حياة المدنيين الفلسطينيين/ المضطهدين.
مثلاً، في هذا المقطع من المشهد يحكي إسحق وهو جندي إسرائيلي، لطبيبه النفسي ما فعله أثناء الاغتصاب/ الاستجواب، والذي نعرف فيما بعد أن هذا الفعل سبّب له عجزاً جنسياً لأسبابٍ سيكولوجيّة:
"إسحق: فجأة بدأ يضيق صدري ثم تحوّل الضيق الى غضبٍ أعمى، فتناولت شفرةً واقتربت منها. أنت تعرف أن العربيات يحلقن شعر العانة. كان فرجها أملساً وملطخاً بسوائل الآخرين. أحسست أني محموم. انحنيت عليها وبدأت أشقّ أثلاماً صغيرةً في لحمها، شطبت عانتها وثديها ثم أوقفني مائير. كان العرق يتصبّب مني وكان كلاهما قد فقد وعيه".
عندما تقدّم مسرحيّة (اغتصاب) على خشبات المسارح العربيّة، غالباً ما يتمّ تجسيد مشهد الاغتصاب من خلال التمثيل الصامت والرقصات والموسيقى العالية ذات التأثير الصاخب/ موسيقى سيمفونيّة مثلاً.
مسرحية "اغتصاب" تدور حول الانتهاكات الإسرائيليّة، وحول تواري المقاومة أمام الاستقرار والربح والعمل في ظلّ دولة الاحتلال. إسرائيل تحوّل الفلسطينيين الى ناقمين على المقاومة والانتفاضة، لارتباط أرزاقهم بالعمل في إسرائيل.
"اغتصاب" مستوحاة من مسرحيةٍ أخرى، وهي القصّة المزدوجة للدكتور بالمي. وهنا نجد حضور فعل الاغتصاب المصاحب للتعرّي الجسدي في كلا المسرحيتين، مسرحيّة ونوس في كلّ عروضها على المسارح العربيّة لم يسبق وأن سمعنا عن مخرج أقدم على عرض مشهد تعرٍّ من المشاهد المكتوبة على خشبة المسرح، إذن هناك عرف و(تابوه) لا يُمسّ، فيما يتعلّق بالعري والعنف الجنسي على المسارح العربيّة.
المسرح كوسيطٍ قديمٍ قِدَم الحضارات المعروفة وأثناء دراسة تاريخ المسرح القديم يمرّ الطلبة بدراسة حقبة المسرح الروماني، والتي توصف في معظم الكتب أنها كانت فترة تردٍّ واضمحلالٍ لهذا الفنّ، لأن العروض في المسرح الروماني وعلى خلاف المسرح اليوناني، كانت مليئةً بالعنف ومشاهد القتل والإيحاءات والمشاهد الجنسيّة.
إذن ما أقدم عليه فريق عمل مسرحية (يا كبير) يُعدُّ سابقةً في كسر التابوهات المسرحيّة، وبالطبع وجّه الكثير من النقد لفعل تعرّي الممثل، خاصّة أنه ليس مهمّاً دراميّاً، يعني أنه لن ينتج عن حذفه خلل في البنية الدراميّة ولن يضرّ بتطوّر الأحداث.
نقصد أنه ليس فعلاً دراميّاً مرتبطاً بمشهد اغتصاب شخص ما، أو تعرّياً / إجباراً على التعرّي للتعذيب، إنما كان فعلاً موازياً للمونولوج المسرحي للممثّلة الأخرى (أمل عمران) على إيقاع إلقاءٍ نثري، تحكي فيه لحظة تكتشف أن والدها ضابط مخابرات سوري وقاتل.
يمتلئ المسرح عادةً بالكليشيهات والأفعال معادة التدوير، المهمّ السياق الذي توضع فيه الأفعال المسرحيّة، وبالتالي نحن لسنا بصدد التقييم الفني بالمقارنة بين هذين النموذجين (اغتصاب) و(يا كبير)، وإنما نحاول تحليل فعل التعرّي على المسرح وعلاقته بما نمرّ به سياسيّاً واجتماعيّاً، من اختبارات لهذا الجسد. مثلاً، هناك خبر منذ أسابيع أن أستاذاً للعقيدة الإسلاميّة بجامعة الأزهر كان يجبر طلابه على التعرّي، وتمّ تصوير ذلك وتداوله، وهناك واقعة أخرى قديمة تمّ فيها إجبار سيّدةٍ مسيحّيةٍ على التعرّي. هذه الأخبار من مصر، تحدث في حياتنا ويتمّ تداولها من خلال مقاطع الفيديو، ومصر ليست بها حرب، وإنما هذا نابع من تشوّهٍ في استخدام السلطة الدينيّة والمجتمعيّة، وفي السياق السوري المعاصر هناك عشرات القصص وأبرزهم قصّة المقاتلة الكرديّة "بارين كوباني" التي تمّ تداول مقاطع فيديو حول تشويه جسدها، تحديدا نهديها، بعد قتلها، وهذا يُحيلنا إلى مشهد الاغتصاب الرئيسي للمرأة الفلسطينيّة في مسرحية اغتصاب والذي ذكرنا مقطعاً منه.
وبالنظر لجماليات فنون الأداء (performance ) والمسرح وموقع الجسد فيهما، أرى أن العري على خشبة المسرح ليس فعلاً مجرّداً من المعنى، إنه فعل يصدم المتلقّي ويدفعه فوراً للتفكير في جسده الآمن، وما حوله من هالات قداسة ومن وصمات دنس، وتختلف ردّة الفعل وفقاً للقيم والمعتقدات والسياق الزمني والمكاني، ففعل التعرّي على المسارح الأوربيّة أصبح نوعاً من الكليشيهات، حتى لو كان ضرورة درامية، ربما لإيمان المتلقّي الأوربي المثقف، أن هذا الفعل جزء أصيل من مهنة وحرفة الممثل، الذي اعتاد هذا الفعل في المسرح أو قام به طوعيّاً، ولكن مازال المتلقّي العربي لا يفجع من الإجبار على التعرّي بقدر ما يفجع من التعرّي الطوعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...