شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
سعداء وشاردون ومحبطون.. حكايتنا مع الإعلانات

سعداء وشاردون ومحبطون.. حكايتنا مع الإعلانات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 23 مايو 201902:21 م

تُلْهِبُ الشركاتُ مشاعرَ المغاربة وتدعوهم لاستهلاك كلّ شيء، أكْلُ وشرْبُ ما طاب من المنتجات الغذائيّة، شراء سيّارة رغم ثمنها الخيالي، أو حتى اقتناء شقّةٍ اقتصاديّةٍ رغم عيوبها باعتبارها "قْبَرْ الدْنْيَا" (كما يصفها المغاربة)، وذلك عبر الإعلان أو "الإشهار" كما يسمونها.

فيما مضى لم يكن المغاربة يُصدّقون الإعلانات، ويصفونها بأنها مجرّد "زعت" أي زيف وخداع.

لا يسقط جواد، موظف-29 سنة، في فخِّ هذا الخداع، لكنه قد يقع في شَرَكِ خيالاته، تُغريه صورة موظّفٍ يشتري سيارةً اقتصاديّة، بملابس أنيقة والابتسامة تعلو وجهه.

يقول جواد عن التغيّر الذي يعتري نفسه عندما يشاهد إعلان سياراتٍ مفضّلٍ لديه: "أحسّ بسعادةٍ عندما أرى نفسي مثل هذا الموظّف؛ أنطلقُ بعيداً نحو الطرق والمسارات الصعبة، والجبليّة، تتسلّل النسمات من نافذة السيّارة ويدي تتدلّى نحو الخارج".

وبطريقةٍ شاعريّة يُكمل لـ "رصيف22": "أنطلق، أنطلق بلا حدود، ثمَّ فجأة يُعلن المعلّق عن الثمن، هنا أستفيق، يا إلهي، الثمن خيالي".

 "أحسّ بسعادةٍ عندما أرى نفسي مثل هذا الموظّف؛ أنطلقُ بعيداً نحو الطرق، والمسارات الصعبة، والجبليّة، تتسلّل النسمات من نافذة السيّارة ويدي تتدلّى نحو الخارج".

مظهر سعيد ومشاعر مستثارة

"بكلّ تأكيد تجعلنا سعداء، لكن في ذات الوقت تجعلنا شاردين ومذهولين، وأيضاً حزينين" تقول ميل، رئيسة تنفيذيّة لإحدى المؤسّسات، عن التأثير النفسي للإعلانات.

لا يشاطرها جوناثان، مدير تنفيذي، الرأي، إذ يشدّد على أنّ "الإعلانات تجعلنا تعساء وغير راضين"، والسبب يكمن في أنّ الوصلات الدعائيّة تتأسّس على مبدأ "تعزيز القيمة الخارجيّة والاستعراضيّة"، بخلاف السعادة التي تنهل من "المعطى الباطني" والروحاني، أي أنَّها تركّز على المظهر السعيد، لا إحساسك الداخلي بالسعادة.

لا تنكر ميل تأثير الإعلانات على مشاعر المستهلكين، توضّح: "علينا أن نفهم بأن المستهلكين يعتبرون -أحياناً- الإعلانات بمثابة وسيلةٍ ترفيهيّةٍ خالصة، كما أن الوصلات الدعائيّة السيّئة تجعلهم محبطين وغير راضين، لذا يجب أن تكون العلامات التجاريّة حذرةً من أهمية هذه المعطيات".

بينما يؤكد زيغ زيغلار، الكاتب المتخصّص في البيع والتنمية الذاتيّة، أنَّ "الناس لا تشتري لأسبابٍ منطقيّة ولكنها تشتري لدوافع حسيّة".

كلام زيغلار يزكّيه بالحقائق العلميّة البروفيسور في علم الأعصاب،أنطونيو داماسيو، إذ أكّد في كتابه "خطأ ديكارت" بأن "الناس يتخذون قرارهم حيال شراء ماركة أو منتجٍ تجاري بفعل تأثير المشاعر الموظّفة في الإعلانات أكثر من عرض المعطيات و المعلومات المرتبطة بالمنتج".

وتُقِرُّ الاحصائيّات الصادرة من الموقع المتخصّص في الاعلانات " Unruly" بأن الإعلانات الأكثر مشاركةً وتفاعلاً على منصّات التواصل الاجتماعي خلال عام 2015، هي التي تتضمّن محتوى مثقلاً بالمشاعر والأحاسيس، مثل الصداقة والحب والحميميّة والسعادة.

لذا تسارع الشركات لتوظيف السعادة والفرح في إعلاناتها أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وتفيد إحصائيّات صادرة عن نفس الموقع أن معدّل توظيف السعادة في الوصلات الدعائيّة ارتفع من 7% إلى 12% خلال 2018، وهذا التوجّه من المفروض أن يستمرّ خلال العام الحالي.

تستهدف التعساء لا السعداء

تقول سوزي، حساب على موقع التواصل المعرفي "كورا": "الشركات تبيع لنا، من خلال الإعلانات، الحلمَ الذي ينتهي الأمر بنا إلى تصديقه، لكن تخيّب آمالنا عندما نعود لأرض الواقع".

"لا تخاطب الإعلاناتُ المستهلكَ من خلال ما هو، في ذاته وحاله، بل من خلال ما يحلم أن يكون عليه" هكذا يتحدث سعيد بنكراد، أستاذ علم السيميائيّات في جامعة محمد الخامس بالرباط، عن استراتيجية المعلنين.

ويشدّد بنكراد على أنّ الإعلان "لا يتوجّه إلى السعداء من الناس؛ السعيد ليس معنياً بالشراء، أو لا يفعل ذلك إلا في حالات النقص الفعلي، بل يستهدف التعيس والحزين... وكلَّ الذين يستشعرون الحاجة إلى شيء آخر غير ما هم عليه".

"الإعلانات تغطي على الطابع الحقيقي للمنتج، وتُدخل المستهلك في عالم زائف، حياة فارغة من طابعها المركب والمعقد، سعيدة، ومريحة، ومطمئنة" سعيد بنكراد أستاذ علم السيميائيات.

يوضح بنكراد أنَّ "النقص حاجةٌ حقيقيّة، أمَّا الإشباع فوهمي، وهذا هو سرّ التفاوت بين مطالب الحياة الحقيقيّة، وبين تلك التي لا يتوقّف الإشهار عن التبشير بها، والحثِّ على اتباعها"، مضيفاً، أنَّ في الاعلان "لا وجود لسعيدٍ من أجل ذاته وحده، إنه سعيد دائماً مقارنة بالآخرين أو أكثر سعادة منهم".

ويرى بنكراد أن "التغطية على الطابع الحقيقي للمنتج (وظائفه وخصائصه وأبعاده الثقافيّة ومخاطر استعماله المحتملة)، يدفع صانع الإعلانات للقذف بالمستهلك داخل عالمٍ مزيّفٍ، إنه يُفْرِغ الحياة من طابعها المركّب والمعقّد، لكي يحوّلها إلى مسرحٍ لأفعالٍ لا تُحيل سوى على الإيجابي في الوجود، أي على كلّ ما يمكن أن يبعث في النفس راحةً وطمأنينةً وسعادة".

في وقت الأزمات: الإعلانات هي الحل!

الإعلانات ليست مجرّد وصلات تلفزيّة أو صورٍ على المجلّات والوسائط الإلكترونيّة، تحثُّ المستهلكين على الشراء بدوافع حسيّةٍ صِرْفَة، بل أكثر من ذلك.

يقول الباحث بيرنار بوشان: " الإعلانات مخدّرٌ مصنوعٌ من صورٍ وكلماتٍ وأصواتٍ مجنونة".

استعانت شركة "كوكاكولا" بشعار: "افتح تفرح!" (المعتمد في جلّ فروعها بدول العالم) على فرقٍ شبابيّة مثل "كايروكي"، لصناعة محتوى دعائي يتضمّن أغاني مشحونةً بالمشاعر الإيجابيّة والسعادة.

في بداية عام 2013، وفي خضمِّ الأزمة السياسيّة التي عصفت بمصر، سُمّيَت آنذاك بـ "الاستقطاب السياسي"، دعت شركة المشروبات الغازيّة آنذاك المصريين إلى الفرح، والجنون "حتى لو كان ذلك يوماً واحداً".

لم تقف الإعلانات عند حدِّ استغلال الإحباط، وتخدير عقول المستهلكين، بل تجاوزت في شكلها الجديد الإعلان-الأغنية لتصبح استثماراً في الأزمة، ومحاولة لخلق "سعادةٍ مزيّفةٍ".

يشيد باسل نوفل (صحفي وسيناريست مصري) بالإعلان-الأغنية الذي روّجته كوكاكولا عام 2013 ويرى بأنه مثقل بمشاعر الأمل والتفاؤل، ولا يخلق حالةً من "السعادة المزيّفة" كما يراه منتقدون.

يقول نوفل في حديثه لـ “رصيف 22": "الإعلان مزج بين الكلمات والألحان الرائعة، وقدّمها بصورةٍ بسيطةٍ يصادفها المصري يوميّاً في الشارع، فكان الإعلان جزءً من الشارع، بعكس معظم الإعلانات التي تعيش في عالمٍ افتراضي أشبه باليوتوبيا".

أما سلمى، 23 عاماً، طالبة جامعية مغربيّة، فلديها رأي مختلف عن نوفل، تحمل آراء نقديّة حول الإعلانات في بلادها، إذ ترى بأنّها سخيفة، ومحمّلة بالكثير من الغباء، والسطحيّة، والبلاهة.

تقول سلمى في حديثها لـ “رصيف 22”:"يصنعون لنا إشهارات، وكأنَّنا حمير، أو قطيع غنم لا يفهم، وليس له ذوق. لا أحتمل مشاهدة هذا الهراء، فما بالك أن يُشعرني بالسعادة".

وتوجز رأيها قائلة: "داكشي عندهوم حامض" (أي أنّ الإعلانات وصلت لمستوى من "الحموضة" لا طعم لها).

رغم ذلك، لن تكون الإعلانات "مخدّرة" للمستهلكين بالحدّة التي شهدتها فرنسا خلال الثمانينيات، فبحسب الباحث والكاتب الفرنسي "برنار كاتولا" فإن الفرنسيّين احتاجوا إلى وقتٍ طويلٍ كي يعوا أن بلادهم تعيش أزمةً اقتصاديّة، وقد تأكّدوا من ذلك منذ عام 1981.

"الإعلان يقدّم لنا أشخاصاً سعداء، يتمتعون بصحّةٍ جيدة، أذكياء، ويعيشون في جنّة استهلاكٍ لا تعرف بطالةً ولا انخفاضاً في القدرة الشرائيّة"

والشاهد على ذلك، ما أفرجت عنه أرقام مؤسّسة إبسوس لوبوان، (نشرها كتاب الإشهار والمجتمع)، إذ أثبتت تغيّر موقف الفرنسيين من الإشهار عامة، فقد انتقلوا بشكلٍ بالغ الدلالة، من حالة من يخاف الإعلانات إلى من يتعلّق بها، وقد بيّن استطلاع ذات المؤسّسة خلال عام 1985 أن أزيد من 60% من الفرنسيين، وأكثر من 65% المتراوحة أعمارهم بين 14- 24 سنة يعتقدون أن الإعلان يُخبر ويرفّه أكثر مما يضلّل.

يقول كاتولا شارحاً طبيعة تأثير الإعلانات نفسيّاً على الفرنسيين آنذاك: "إن الإعلان يقدّم لنا أشخاصاً سعداء، يتمتعون بصحّةٍ جيدة، أذكياء، ويعيشون في جنّة استهلاكٍ لا تعرف بطالةً ولا انخفاضاً في القدرة الشرائيّة...وهكذا كلّما اهتمّ الناس جميعهم بالإعلان، أنكروا وجود أزمةٍ وأنكروا وجود أسسٍ بنيويّةٍ لها، وتبعاً لذلك يؤجّلون اللقاء الصعب مع الحقائق الواقعيّة ويستطيعون تجنّبها".

ويتساءل كاتولا: "هل يُعَدّ الإعلان "المجنون" الذي نعيشه اليوم بأحلامه، وأساطيره، واستيهاماته، أفضل علاج عثر عليه الفرنسيّون من أجل قبول الأزمة وتحمّل آثارها؟"

والجواب، يشدّد الباحث الفرنسي، سيكون: "بكلّ تأكيد نعم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image