يعود الكاتب الليبي "فرج العشة" في روايته الثانية "سينسيوس وهيباتيا" إلى أواخر القرن الثالث الميلادي، ليحكي لنا بأسلوب روائي، عن الصراع بين الدين المسيحي والفلسفة الذي كان على أشدّه في ذلك الوقت من التاريخ.
يدور الكلام في الرواية على لسان شخصيتها الرئيسيّة "سينسيوس"، وهو ابن مدينة "قورينا" الليبيّة، والده سليل المستوطنين الإغريق الأوائل، وأمه متحدّرة من سلالة ملك قبيلة الأسبوستاي الليبيّة، وبذا فإنه منذ تفتّح وعيه أدرك مسألة الهوية، وأثار ذهنه سؤال الانتماء، إذ يرفض الإغريق الهللينيين اعتبار القورينيين مواطنين هللينيين، بل مجرّد ليبيّين برابرة، اكتسبوا هللينيّتهم بطرق خفيّة وغير صحيحة.
رواية سينسيوس وهيباتيا، تتناول مواجهة "هيباتيا" الفيلسوفة الأشهر في التاريخ التي ترى الفلسفة ممثلةً لتراث الفكر البشري، مع رجال الدين الذين يحاولون فرض هيمنتهم وإحلال الحقيقة الواحدة محل الحقيقة المتعدّدة.
يدمج "العشة" في القسم الأول من الرواية الأساطير بالواقع، فنقرأ عن هجرة الإغريق إلى ليبيا، وأسباب هذه الهجرة، وكيف استقرّوا هناك وأقاموا حضارتهم. كما يضفر في السرد الكثير من الطقوس الحياتيّة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فيصوّر أجواء الاحتفالات، وكيف تجري مراسم الزواج، وما هي الأعياد التي كان يُحتفل بها آنذاك كعيد الحصاد:
يدمج "العشة" في رواية سينسيوس وهيباتيا (2018) الأساطير بالواقع، فنقرأ عن هجرة الإغريق إلى ليبيا، وأسباب هذه الهجرة، وكيف استقرّوا هناك وأقاموا حضارتهم
"كان عيد الحصاد استثنائياً هذا العام، فهو لا يحدث إلا كلّ خمس سنوات أو عشر، وأحياناً يؤجل لعشرين سنة بحسب نبوءة مجمع العرّافين الذي يتكون بالتساوي من خمس نساء وخمسة رجال، شرط أن يكونوا متزوّجين ومنجبين. كانت إشارات الطبيعة هي التي توحي بالعيد الاستثنائي، حينها يقرّرون إقامة الاحتفال ليلة غياب نجوم الثريا وراء القمر، فتُطفأ أضواء فتائل الزيت، وتشتعل النيران منتشرة في الأنحاء، حولها يتلاقى المحتفلون المتوافدون من كلّ الجهات".
القضية الأساسيّة التي تطرحها الرواية، هي الصراع الذي كان سائداً آنذاك بين الدين المسيحي والفلسفة، إذ يتعرّف "سينسيوس" إلى المسيحيّة عن طريق إنجيل لوقا، فتشدّه عقيدة الخلاص، ولكنه لا يستطيع أن يتخلّى عن شغفه بالفلسفة، فيعيش ونفسه متلاطمة في مثلث العقل والقلب والروح، لأنه يشعر أن الفلسفة تعمل على تعميق رؤيته للعالم، بينما يمنح الدين الناس الإحساس بالخلاص، وكان يحتاج إلى ما يساعده على تقبّل فكرة أنه يمكن للفلسفة والمسيحيّة أن يتآلفا ويعيشا معاً.
هكذا، يقرّر الذهاب إلى الإسكندرية سعياً وراء المعرفة والعلم، إذ أن هذه المدينة كانت في ذلك الوقت هي الحاملة لشعلة استمرار الإرث الفلسفي بعد أفول الحضارة اليونانيّة، وسيطرة المسيحيّة على حضارة روما. وفي الإسكندرية تعيش "هيباتيا" الفيلسوفة الأشهر في التاريخ، وإليها يمضي "سينسيوس".
تمتلئ صفحات الرواية بنقاشٍ واسع حول الكثير من المواضيع الفلسفيّة التي تطرحها "هيباتيا" في دروسها، وفي محادثاتها معه، كما تناقش الرواية عدة مواضيع شائكة، عارضةً وجهة نظر الفلسفة والدين فيها، تاركةً الباب مفتوحاً للتساؤل والتأمّل فيها، ومن هذه المواضيع: المرأة والرجل والذكورة والأنوثة والعلاقة بين هذه جميعها، فكرة الثالوث المقدس، واجتماع الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة في شخص المسيح، التعارض بين أقوال المسيحيّة وتعاليمها والتفاسير اللاهوتيّة والعقائديّة التي أتت فيما بعد.
يتخلّل هذا النقاش عرضٌ للأحداث الجارية ورسمٌ للمواجهة التي عاشتها المرأة التي ترى الفلسفة ممثلةً لتراث الفكر البشري، مع رجال الدين ذوي الأردية السوداء، الذين يحاولون فرض هيمنتهم على المجتمع، ويريدون إحلال الحقيقة الواحدة محل الحقيقة المتعدّدة.
"تحدّثت هيباتيا، لكن لم يكن يسمعها أحد إلا من كان حولها أعلى الدرج عند المدخل الرئيس. لم أكن هناك يومها. وقد قالت لي إنها تكلّمت كي يسمعها من حولها، فلا جدوى من قول شيءٍ للاشيء، حيث المتهيّجون في الأسفل يسمعون أنفسهم فقط. قالت لي إنها نظرت إلى أوليمبيوس على يمينها وإلى أوريستس على يسارها، ثم دارت نحو المتواجدين في الخلف، وقالت: ليس أمامنا إلا أن نثبت متشبّثين بخندقنا الأخير، دفاعاً عن آخر قلعة للمعرفة الحرّة، ضدّ من يريد أن يحيلها إلى معبد للفكرة الواحدة".
ني "العشة" كل هذه الأفكار، دامجاً فيها بعض الأحداث التاريخيّة الحقيقيّة، ضمن قالب درامي متخيّل يتتبع سيرة حياة بطله "سينسيوس"، في طفولته وشبابه وعلاقته العاطفيّة وسفره وتعلّمه ومن ثم عودته إلى "قورينا"، التي تعيش هي الأخرى، حرباً بين الرومان والسكّان الأصليين من القبائل، وهذا ما يجدّد سؤال الانتماء عند البطل، خاصّة أنه سليل الاثنين.
"ما أشبه البارحة باليوم"، فالرهبان المتشدّدون الذين كانوا يكفّرون كل من يخالفهم في المعتقد في القرن الثالث الميلادي، ويقتلونهم، ما هم إلا وجهٌ آخر للحركات المتطرّفة التي نراها اليوم، والتي تقتل وتذبح باسم الدين، معتبرة نفسها "السبيل الوحيد للخلاص البشري".
يتبادر إلى ذهن القارئ مباشرة، وهو يقرأ هذه الرواية، عبارة: "ما أشبه البارحة باليوم"، فالمتشدّدون الذين يكفّرون كل من يخالفهم في المعتقد، ويقتلونهم، ما هم إلا وجهٌ آخر للحركات المتطرّفة التي نراها اليوم، والتي تقتل وتذبح باسم الدين، معتبرة نفسها "السبيل الوحيد للخلاص البشري".
فرج العشة: كاتب ليبي من مواليد 1959، يكتب في صحف ومجلات عربيّة مختلفة، وقد صدر له كتاب "نهاية الأصوليّة ومستقبل الإسلام السياسي"، إضافة إلى مجموعات شعرية عدّة. "سينسيوس وهيباتيا" هي روايته الثانية بعد "زمن الأخ القائد".
سينسيوس وهيباتيا: الناشر، دار التنوير/ تونس - بيروت، عدد الصفحات: 224، الطبعة الأولى: 2018. يمكن شراء الرواية من موقع النيل والفرات
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع