"هي لحظة من الحياة لم تجربها من قبل. ولا تظن أنها ستعرفها فيما بعد. كانت جالسة في القطار قرب النافذة، ثم رأت ماضيها يأتي ويرمي نفسه في المقعد المقابل. نظر، شامتاً، في عينيها وانتشلها من الرتابة ووهن السنين. هل تتجاهله أم تغيّر مكانها؟ (...) كان كابوساً سببه سؤال عادي وجواب يبدو عادياً".
هكذا، نرتحل عبر ثمانين عاماً من حياة مليئة بالأحداث السياسية والمغامرات العاطفية والانتقالات بين عواصم العالم، لنقرأ تاريخاً ممتزجاً بمسيرة حياة "تاجي" في العراق، بعد أن رعاها نوري السعيد وقامت بإصدار مجلة الرحاب عام 1946. تتبدل الأحوال بعد معاهدة "بورتسموث" مع بريطانيا، تعمّ الاحتجاجات والمظاهرات البلد، ويأتي من ينصحها بمغادرة البلد وإلا سيكون مصيرها أن تسجن بتهمة الشغب. يأتي الخلاص على شكل عرض للعمل في إذاعة كراتشي، هناك حيث ستذيع خبر إعدام الشيوعي العراقي سلمان يوسف المعروف بفهد. وهناك أيضاً ستتعرف على منصور البادي الشاب الفلسطيني الذي سيرافقها حبه حتى سنوات عمرها الأخيرة، لكن دون أن يكتمل هذا الحب. ستطيح بهما الجغرافيا كلٌّ في مكان، هو يهاجر إلى فنزويلا ويصبح مستشاراً لرئيسها "هوغو تشافيز"، وهي تتزوج بضابط فرنسي، لتكتشف مع الوقت أنها أصبحت بئر معلومات للمخابرات الفرنسية، ويتم تكليفها بالمساعدة في اغتيال "أحمد بن بلة" أيام الثورة الجزائرية، لكنها في اللحظة الأخيرة تتراجع."في لحظات قصار، هي البرهة بين زفير فاسد وشهيق نقي، استعادت رشدها. لم تتردد كثيراً وهي تنكث وعدها لفرنسا. إنها جريمة قتل، وهي لن تكون شريكة فيها. طوت جريدتها ولم تحركها أمام وجهها، انتظرت نصف ساعة ثم قامت وخرجت من المقهى. (...) لم يأت معلوماتكم غلط. والرجل الطويل إلى اليمين؟ ليس الهدف".
"كرهت التدوين. لا أفراح في دفاتري الأخيرة. أمسك القلم وأتردد. أكتب نبيذ وأتأمل المفردة، أضيف إليها تاء التأنيث: نبيذة"
نرتحل عبر ثمانين عاماً من حياة مليئة بالأحداث السياسية والمغامرات العاطفية والانتقالات بين عواصم العالم، حياة مديدة عاشتها المرأة التي تبدّلت أسماؤها، وتغيّرت أماكن عيشها... رواية النبيذةحياة مديدة عاشتها المرأة التي تبدّلت أسماؤها، وتغيّرت أماكن عيشها، ولم يبق من كل أمجادها سوى أكداس من الرسائل والأوراق تخبئها في صناديق وتنام فوقها متذكرة عراق الأمس الذي لا يشبه عراق اليوم، كما تخبرها "وديان الملّاح"، الصبية العراقية التي تتعرف إليها في باريس وتنشأ بينهما علاقة حميمة كأم وابنة. الأولى لديها كنز حكايات، والثانية لا شيء في حياتها سوى حبٍ وحيدٍ فاشل في بغداد، وصممٍ عوقبت به لأنها تمردت على نزوات واحدٍ من طغاة عراق "صدام حسين"، استطاعت بعده الوصول إلى باريس وعلاج "طرشها" بتركيب سماعتين، ولكن من يداوي عطب الروح؟ هكذا، ستعيش من كانت عازفة كمان في الأوركسترا السمفونية العراقية جفافاً عاطفياً وخواءً تاماً لا ينجح أي شيء في تخليصها منهما. تتوالى إحباطاتها حتى نراها منخرطة في حلقات دينية، تسأل الشيوخ عن فتوى سماع الموسيقا، وتتمرمر في حزنها حين تحمل رسالة من "منصور البادي" الذي لم ينسَ "تاجي" رغم مرور كل تلك السنوات، ويرغب في لقائها، رغم أنها هي من سعت إلى جمع شتات الحبيبين.
"هل لك، يا سماء الله العالية، أن تخبريني لماذا تسايرينها وتعاندينني؟ كل ما تنويه يتحقق، وكل ما أرجوه يتعثر. ألست أنا من مضيت إليها، أحمل هدية خفيفة ثقلها يضنيني؟ في جيبي وريقة هي مفتاح الهوى. ذلك الذي يدور سلساً في بابها ويصدأ في قفلي".
تحكي "إنعام كجه جي" في الرواية عن شخصيات حقيقية وأحداث واقعية وتغزلها بمغزل الخيال، لدرجة لا نعود نميز بين الاثنين، أيهما حقيقي وأيهما من صنع الخيال وحده. ربما نلجأ للبحث عن اسم الصحافية العراقية، وعن اسم مجلتها، ثم نتذكر أن كل ذلك غير مهم، وأن المعيار الوحيد الذي يضمن بقاء أي نصٍّ أدبي، هو جودة صنعته، وقد نجحت الرواية في تحقيقه، فكانت "النبيذة" شخصيةً من لحمٍ ودم وورق."تاجي عنقود من عنب أسود يعاند الأرجل العاصرة. نبيذها حلو، وهيمنتها على مذكراتي تضنيني. كرهت التدوين. لا أفراح في دفاتري الأخيرة. أمسك القلم وأتردد. أكتب نبيذ وأتأمل المفردة، أضيف إليها تاء التأنيث: نبيذة".
إنعام كجه جي، صحافية وروائية عراقية مقيمة في باريس. اختيرت روايتاها الثانية "الحفيدة الأميركية"، والثالثة "طشاري" على القوائم القصيرة لجائزة الرواية العربية البوكر. لها أيضاً: "لورنا"، "سواقي القلوب"، و"أنطولوجيا عن الأدب النسوي العراقي". ترجمت رواياتها إلى عدة لغات. الناشر: دار الجديد/ بيروت عدد الصفحات: 324 الطبعة الأولى: 2017رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين