يقدّم الكاتب والصحافيّ اللبنانيّ صهيب أيّوب روايته الأولى "رجل من ساتان" (دار نوفل- 2019) ويبدأها من النهاية. فيلقي الكاتب نهاية روايته ونهاية بطله بين يدي قارئه منذ السطر الأوّل، ويزيح عن كاهله هذا العبء، ثمّ ما يلبث أن يعود إلى الوراء ليخبر قصّة بطل مثليّ ومدينة قاسية ورجال منكسرين وزمن ميليشيات مضطرب. يحكم أيّوب على شخصيّاته ومدينته بالتشتّت والفناء والاضمحلال منذ البداية؛ فالبطل ميت، والمدينة مهزومة، والسلاح يسيطر على المشهد. ملاك الموت نفسه يرفض الحضور إلى ساحة الجريمة للقيام بعمله.
مدينة الخوف والعنف
تدور أحداث رواية صهيب أيّوب في شوارع مدينة طرابلس (لبنان) قبل الحرب اللبنانيّة (1975-1990) وفي أثنائها ومن بعدها. فتبدأ الأحداث مع علي أكومة، جدّ البطل المثليّ نبيل؛ ثمّ تكمل مع خالد أكومة، والده؛ وتنتهي بموت نبيل الذي يُعلن عنه الكاتب منذ السطر الأوّل. ثلاثة أجيال من عائلة أكومة تولد وتنشأ في زمن القبضايات ثمّ الميليشيات فالانقسامات الطائفيّة والحزبيّة. زمن الخليّات والسباق نحو التسلّح والتهافت نحو النهاية والموت. لبنانيّون، سوريّون، فلسطينيّون، جميعهم حطب نار هذه الجحيم التي لا يسكن أوارها والتي لا تنفكّ تبتلع الشبّان وتهزمهم. وطرابلس مدينة عدوّة. هي توأم البطل وكابوسه وموته. هي الإطار والحدود والمكان الوحيد المقبول للسرد. فتتركّز الأحداث في طرابلس وحدها على الرغم من أنّ البطل أقام في باريس لسنوات طويلة. فبينما لا يتوقّف الراوي عند باريس ولا عند ما حصل فيها، نراه يتوقّف عند العائلات الطرابلسيّة وعلاقاتها وعداواتها وأبرز المشاحنات التي تدور بين رجالاتها. عشر سنوات يهملها الراوي من حياة بطله وكأنّها لم تحصل لمجرّد أنّها دارت خارج حدود طرابلس. عشر سنوات بالكاد يتمّ ذكرها في سطر واحد سريع، وكأنّ كلّ ما يجري خارج طرابلس لا قيمة له ولا ضرورة لذكره. وطرابلس التي ينشأ فيها البطل هشًّا غريبًا هي التي تصقله وتحوّله إلى الكائن الناقص الذي يصبحه. ففي طرابلس لا مكان لنبيل. والدته غائبة لا يكتشف هويّتها سوى في أواخر الرواية. جدّته لا تحبّه وتفضّل أخاه الأصغر عليه. والده غائب مشغول بالقتال والمليشيات وبموقعه كقبضاي من أبرز قبضايات طرابلس. شقيقاته من زوجة والده الثانية بالكاد يتمّ ذكرهنّ ولا علاقة تربط نبيل بهنّ. وحدها جارته عليا الدائزلي تُعنى به بعض العناية، وحتّى هذه العناية التي تقدّمها له جارته تكون سببًا إضافيًّا لتهميشه وإخراجه من دائرة الرجال بالمفهوم الطرابلسيّ. فعليا هي التي تعلّم نبيل الرقص وهي التي تربط له على خصره قماشة وتشجّعه على حبّ الأقمشة والشعور بها والاستمتاع بملمسها، كما أنّها هي التي تفتح محلّ الخياطة وتمنحه عمله فيه، ومن هنا عنوان الرواية ومأزق البطل الأساسيّ وسبب موته، مثليّته وحبّه للأقمشة: "كنتُ أستمتع بالنظر إلى فساتين الدانتيلا والساتان والحرير والشيفون المتدلّية من علاّقات مذهّبة. أكتشف ملمسها بيديّ. ألفّ بعضها خلف الستارة حول جسمي الذي بانت شعيراته كوبر الهررة." (ص 44).ذكوريّة مهزومة
يحكم الكاتب على شخصيّاته بالهزيمة منذ البداية، وبخاصّة الذكور منهم. فالبطل المثليّ نبيل ميت منذ السطر الأوّل. ووالد البطل خالد أكومة مجبر على الفرار لكون حياته مهدّدة بالخطر. وجدّ البطل غائب لا يُعرف عنه شيء هو الآخر لكون حياته بخطر. أمّا رجال الميليشيات فدورهم بسيط ما يكاد يظهر حتّى يعود ليختفي لكون حياة البطل الحزبيّة لم تدم طويلاً. يبقى أصدقاء البطل المثليّون الذين لا يتوقّف السرد عندهم ولا يمنحهم حتّى أسماءً أو وجوهًا أو هويّات. وتدور الشخصيّات كلّها في دوّامة من الخطر والخوف والعنف. وحدهما امرأتان اثنتان تتمكّن من الإفلات من زمام قبضة القدر القاسية. فعلى الرغم من أنّ الفضاء السرديّ خالٍ من الذكورة القويّة القادرة على حماية البطل وجعله ينمو في بيئة سليمة طبيعيّة، تظهر أوّلاً عيّوش: جدّة البطل. المرأة القويّة التي تحمي وتدافع، المرأة الصلبة التي يتأكّلها الخوف لكنّها لا تتوانى عن رفع سلاحها للدفاع عن ابنها وعائلتها، المرأة الشامخة التي تثير الهيبة في نفوس الرجال جميعهم والتي لا تنكسر شوكتها إلاّ مع نهاية الرواية بهزيمة رجالات عائلاتها ابتداءً من زوجها مرورًا بابنها وصولاً إلى حفيدها. أمّا المرأة الثانية التي تتمكّن من الفرار من هذه الدوّامة القاتلة من النزاعات والصراعات فهي الجارة عليا. مصدر الأمان الثاني ومنهل السعادة الهاربة التي ينالها البطل في حياته. فتتمكّن عليا من فتح محلّ خياطة وتوظّف البطل عندها وتكون بذلك مصدر الاستقرار الوحيد في حياته. فيتحوّل محلّ الخياطة هذا، إلى ملجأ نبيل وملاذه من قسوة الشارع والميليشيات والسلاح. لكنّ هذا الملاذ نفسه هو أيضًا عدوّ. فالأقمشة التي تعزّز المنحى الأنثويّ في شخصيّة البطل تتحوّل إلى سبب تهافته ومقتله. فحبّ البطل للأقمشة يفضح مثليّته ويؤجّج الحقد ضدّه هو الذي يُقتل مرتديًا فستانًا. فستان من ساتان ربّما؟يحكم الكاتب على شخصيّاته بالهزيمة منذ البداية، وبخاصّة الذكور منهم. فالبطل المثليّ نبيل ميت منذ السطر الأوّل. ووالد البطل خالد أكومة مجبر على الفرار لكون حياته مهدّدة بالخطر. وجدّ البطل غائب لا يُعرف عنه شيء هو الآخر لكون حياته بخطر.
بينما يتأرجح السرد بين راوٍ خارجيّ وبين مقاطع يرويها البطل نبيل مستعملاً ضمير المتكلّم "أنا" عندما يتطرّق إلى مثليّته، يتمكّن صهيب أيّوب من التحرّر من نزعة الوعظ والتوعية.
على الرغم من أنّ المثليّة موجودة بوضوح في الرواية، وعلى الرغم من أنّ البطل مثليّ وأصدقاؤه مثليّون بمعظمهم، إلاّ أنّ أيّوب لم يقع في فخّ وصف المثليّة بحذافيرها ولم يجهد للدفاع عنها. لم يقع في فخّ المبالغة أو استعمال العبارات اللاذعة الصادمة.
بطل لا يعرف كيف يكون بطلاً
يُبنى السرد في رواية أيّوب القصيرة التي لا تتخطّى المئة والعشر صفحات على التردّد والخوف والعنف. وبينما يتأرجح السرد بين راوٍ خارجيّ وبين مقاطع يرويها البطل نبيل مستعملاً ضمير المتكلّم "أنا" عندما يتطرّق إلى مثليّته، يتمكّن صهيب أيّوب من التحرّر من نزعة الوعظ والتوعية. فعلى الرغم من أنّ المثليّة موجودة بوضوح في الرواية، وعلى الرغم من أنّ البطل مثليّ وأصدقاؤه مثليّون بمعظمهم، إلاّ أنّ أيّوب لم يقع في فخّ وصف المثليّة بحذافيرها ولم يجهد للدفاع عنها. لم يقع في فخّ المبالغة أو استعمال العبارات اللاذعة الصادمة. فرواية "رجل من ساتان" ليست رواية المثليّة، ولا مشاهد جنسيّة فاضحة فيها، ولغتها هادئة سلسلة على الرغم من وجود بعض العبارات النابية في الحوارات العامّيّة التي ترد فيها. رواية أيّوب هي رواية الهشاشة المتماسكة على الرغم من أنّها تدور في إطار شوارع عنيفة ومدينة قاسية وذكور مهزومين ومثليّة خجول تحاول التخفّي. ونبيل البطل المثليّ الذي يبدأ السرد بجريمة قتله، لم يتقن يومًا لعب دور البطل، ولم يتمكّن من اعتناق هويّته كابن أحد أهمّ قبضايات طرابلس. وكأنّ الراوي لم يرد أن يخدع قارئه بمنحه أملاً زائفًا بقدرة بطله على الخلاص. ففي سبعة فصول يتقدّمها مشهد جريمة القتل يكتشف القارئ بطلاً هشًّا رقيقًا يجب أن يموت. وبطل أيّوب بطل حزين يتيم موجوع صامت ممحوّ. هو تابع عاجز، لا يقرّر ولا يعترض ولا يتصرّف، تمرّ حياته خلسة من دون أن يتمكّن من الإمساك بها، من دون أن يتمكّن من أن يقرّر أيّ أمر فيها. بطل أيّوب هو بطل يخاف عليه القارئ ويدرك منذ البداية الحكم عليه بالموت من دون أن يستطيع شيئًا من أجله. رواية "رجل من ساتان" وهي الأولى من ثلاثيّة يعمل عليها الصحافيّ صهيب أيّوب، هي رواية الحزن والغربة والوحدة والهزيمة، رواية سريعة خجول تستحقّ أن يتوقّف القارئ عندها ليفهم مدينة وحقبة ورجالاً هُزموا. رواية "رجل من ساتان" رواية تعطي ولا تُشبع، تروي وتترك أمورًا كثيرة معلّقة، تقتل برقّة وأناقة تضارع رقّة الساتان وأناقته.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 ساعاتلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف