عندما كان صديقي محمَّد (صحفي 29 عاماً) يتنزّه في شارع القصر العيني، صادفَت عيناه شاباً وفتاةً يتلامسان بحميميّة، قُبلات وأَحضان شَهوانيّة، أثار ذلك جدلَ وصَخَبَ المارّة، بينما أحسّ هو بالفرح، لأنّه يفعل ذلك عادة مع صديقته، ويجد فيه مُتعةً خالصةً، ولم يتوقفا عن إظهار حركات حميميّة، يدينها المُشرِّع المصري بأنّها "خادشة للحياء العام"، إلا عندما نهرهما شخص زعم أنّه يعمل في الشرطة، مهدّداً أنه إن رآهما ثانية سيسجنهما، والقانون معه.
يقول صديقي، راوياً ما شاهده بحماسة، إنَّه لو كان متزوّجاً، أو يسير مع أسرته، لا يحب أن يرى منظر كهذا.
قديماً، اتخذ الشعراء من استياء الناس حيال القبلات العلنيّة، موقفاً شاعريّاً، يقول شاعر الغزل الأبرز في العصر الأموي عمر بن أبي ربيعة:
وَلَولا أَن تُعَنِّفَني قُرَيش.... وَقَولُ الناصِحِ الأَدنى الشَفيقِ
لَقُلتُ إِذا التَقَينا قَبِّليني........ وَلَو كُنّا عَلى ظَهرِ الطَريقِ
حديثاً، يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش لحبيبته في قصيدته "حنين إلى الضوء":
ماذا يثير النَّاس لو سِرنا على ضوء النهار
وحملتُ عنكِ حقيبة اليد والمظلَّة
وأخذتُ ثغرك عند زاوية الجدار
وقطفتُ قُبلَة.
الغربيّون ازدواجيّون: يُرَحِّبون بالقُبلات علناً، ويغضبون سرّاً
لعلَّ موقف الإنسان الغربي، كما نتخيلها، في بلاد الانفتاح والتسامح خاصّة مع مظاهر التعبير الجنسي، ليس واقعياً، فقد طُرح على موقع التواصل المعرفي "كورا" تساؤل حول سبب إحساس بعض الناس بعدم الارتياح حيال استعراض مظاهر الحميميّة في العلن، يُعبِّر أنجانا نير، صحفي مُتحدّث بالإنجليزية، عن دهشته من كلمة "عدم الارتياح"، وقال إنَّه بالأحرى يشعر دائماً بأنَّه يريد أن يخرق الحائط.
ويشرح نير انفعالاته النفسيّة المضطرمة أكثر بالقول: إنَّ الأشخاص الذين يتبادلون القُبل والعناق في العلن، يجعلونه مستثاراً للغاية، وأحياناً يصل إلى مرحلة الغضب الكامل، ويبذل جهداً كبيراً لإخفاء ذلك.
وعن دوافع تلك المشاعر يقول: ليست لديّ فكرة حول السبب، أعتقد أنّي أحتاج إلى علاج لأعرف.
يجيب مايكل مورجان، حساب آخر على "كورا"، ساخراً، بأنَّ الغربيّين، سُكَّان غرب أوروبا وشمال أمريكا، عالجوا كراهيتهم لمظاهر التعبير الجنسي على السطح، ولكن عميقاً في داخلهم يستعر غضب وقلق وانزعاج، يقول: باتوا "الغربيّون" يدَّعون اللامبالاة بما يتعلّق بحميميّة الآخرين، وتفاعلاتهم الجسديّة في العلن، بدون وجود حلّ حقيقي للقلق الداخلي، والعواقب الاجتماعيّة المرتبطة بالعلاقات بين الرجال والنساء.
"الغربيون يعيشون ازدواجيَّة، يَتَقبَّلُون في الظَّاهر القُبُلات الحميمية، وفي داخلهم يشعرون بالامتعاض"
ويشير مورجان إلى أنَّ الغربيّين يعيشون ازدواجيّة؛ فهم يرحّبون بتلك القبلات علناً، بسبب التصوّرات المُتعلِّقة بالحرية وأن نكون على طبيعتنا، ولكنَّهم في دواخلهم لم يعالجوا مشاكلهم المرتبطة بالشروط الهشّة التي تحكم العلاقة بين الجنسين، لذا يتذكّر الكثيرون ماضيهم السيّء عندما يرون العناق والقبلات، فيشعرون بالامتعاض.
ويستثني من ذلك الفرنسيّين، حيث تُعتبر القبلات العلنيّة شكلاً من أشكال الاحتفال بالهويّة الوطنيّة، والحريات المدنيّة العامّة، باختصار: شكلاً شبه سياسي للتعبير عن الذات.
الحميميّة العلنيّة لا تراعي مشاعر العُزَّاب
الأزواج السعداء الذين يُظهرون أشكال التواصل الحميمة جهاراً أمام الناس يُؤثِّرون سلباً على العُزَّاب، حيث يشعر العُزَّاب بانخفاضٍ في مستوى تقديرهم لذواتهم، للدرجة التي يحسّون فيها بأنهم لا يستحقون ما هو جميل ولطيف، هكذا كشفت نتائج دراسة استعرضتها "ديلي ميل" البريطانيّة، كانت مُوجَّهة بالأساس لأساليب المُعلنين في الترويج لبضائعهم، عبر إعلانات تحوي مظاهر الحميميّة بين قرناء سعداء.
الدراسة شدَّدت أيضاً، وهي من مدرسة "مارشال" التابعة لجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكيّة، على أنَّ تذكير المستهلكين بالعلاقات العاطفيّة لا يُقلّل إحساسهم بالاستحقاق فقط، ولكن يدفعهم انخفاض تقديرهم لأنفسهم إلى تقييد انغماسهم في الاستهلاك.
تقول ليزا كافانوه، عالمة نفس من فريق الدراسة، مُوضّحةً: عندما نُذكِّر الناس بعلاقات ليست لديهم، يدفع المتسوّقون بشكل غير مقصود، زبائنهم للشعور بعدم الاستحقاق، وأنَّهم أقلّ جدارة في التعامل مع أنفسهم ومكافأتها.
الأهل هم السبب
الدكتورة كلوي كارمايكل، دكتوراه في علم النفس وطبيبة نفسيّة سريريّة في نيويورك، فتُقدّر دور الأسرة في تشكيل ردود أفعالنا حيال سلوكيّات الحميميّة العلنيّة، حيث ترى في تصريحات لموقع “إليت ديلي” الأمريكي، أنّ أهالينا يؤثّرون علينا في الطريقة التي ننظر بها إلى هذه السلوكيات، تقول: "في بعض العائلات، من العادي أن ترى ذلك، في عائلات أخرى الأمر ليس كذلك"، تشرح كارمايكل: "إذا كنت قادماً من عائلة منفصلة، قد تكون الحميميّة العلنيّة غريبة عنك".
إذا كان والداك عاشقين، وشاهدتهما في صغرك بشكل منتظم يَتَلَامَسَان بِشَغَفٍ، ستميل إلى رؤية ذلك كسلوك عادي ومقبول، ويمكن أن تفعل ذلك أيضاً.
وتقرّ كارمايكل بأنَّه منطقي بالنسبة لها، حيث نشأت لأمّ وحيدة، أن تُفسِّر لماذا هي ليست معجبة برؤية أو المشاركة في الحميميّة بشكل علني؟
من ناحية أخرى إذا كان والداك عاشقين، وشاهدتهما في صغرك بشكل منتظم يتلامسان بشغف، ستميل إلى رؤية ذلك كسلوك عادي ومقبول، ويمكن أن تفعل ذلك أيضاً.
ويختلف ديفي إي كليمك، طبيب نفسي في آن أربور بولاية ميشيجان الأمريكيّة، في تصريحات لـ”نيويورك تايمز” مع تلك الفكرة، ويقول: "الأطفال غالباً ما يشعرون بالضيق عندما يرون والدهم ووالدتهم يتحاضنان ويتباوسان، حيث يبتعد الأطفال عندما يرون هذه المشاهد، ويحاولون مقاطعتهم، لأنها سلوكيات مشحونة بالعواطف، وهي الطريقة ذاتها التي يتصرَّف بها البالغون عندما يرون عُشَّاقاً يتبادلون القُبل، الانصراف أو عرقلة المشهد بالتدخُّل".
وتقول جانيت كينجان، من ولاية ماساشوستس بالولايات المتحدة، للصحيفة الأمريكيّة، إنَّها تشعر بالضيق عندما ترى رجالاً يُشبكون أيديهم كعلامة على الحميميّة، رغم وجود أصدقاء لها مثليين، وتوضّح أنّها تشعر بفرق بين اللمسات الحنونة بين الأصدقاء، ووصفته بأنه شعور رائع، وبين اللمسات المصاحبة للإيحاءات الجنسيّة المشحونة للغاية، ممّا يجعلها تشعر وكأنّها تقف على باب غرفة نوم مفتوح لشخص أراد أن يغلقه.
ويرفض كيث إي ديفيس، عالم نفس اجتماعي في جامعة جنوب كاليفورنيا، استعراض مظاهر الحميمية أمام الناس، مُشدّداً على أنّ السلوك الحميمي يضع بعض الناس أمام إزعاج واقع أنّهم وحيدون، والبعض الآخر لديهم معايير أخلاقية مُتشدِّدة، حيث يرون استعراض الحميميّة تُهدّد مبادئهم، وأنهم قد يفُكّرون إذا فعل شخص ما ذلك فإنّ آخرين سيقلّدونه.
الحميميّة العلنيّة شكل للسيطرة الذكوريّة
تُسلّط كارمايكل الضوء على جانب آخر في استعراض الحميميّة، واعتبرته الأكثر إثارة، يتجسَّد في الدوافع التي تدفع الأشخاص المرتبطين لاستعراض الحميميّة، إنَّهم يعون بأنَّ الناس تنظر إليهم، "إنّهم يستمتعون فعلاً عندما يديرون رؤوسهم"، "بعضُنا عرضة للسلوكيّات الباعثة على الإثارة أكثر من الآخرين، يمكن أن يكون هناك عنصر في استعراض الحميميّة يعزّز نظامك النفسي: نبضات قلبك تتسارع، جسمك يسخن، إذا كان شريكك يستمتع، يمكن أن تصبح تلك الإثارة متبادلة.
حتى التلامس البسيط، مثل تشابك الأيدي، يُظهر انخفاض مستويات الكورتيزول، إنَّنا فعلاً نُدمن المستويات المتوسطة من استعراض الحميميّة.
ولكن ماذا لو لم يكن شريكك أو شريكتك يودّان ذلك؟، حينها تتحوّل الحميميّة العلنيّة إلى صراع قُوَى، وستتحوّل الملامسة الجسديّة إلى شكل من العبوديّة أو مجال سيطرة الشخص الآخر، فعندما يُقبّل الرجل شريكته أمام الناس فإنّه يودّ أن يشير إلى مستوى من السيطرة الاجتماعيّة، وإبلاغ العالم بأنَّه ربحها.
وعادة ما تشعر المرأة في تلك اللحظة بأنها تحوَّلت إلى مِلْكيّة ثمينة للرجل، على الطرف الآخر، بعض الرجال يعتبرون أن الحميميّة العلنيّة شعوراً عضليّاً لا يليق بهم، خاصّة إذا كان قد جاء بنتائج عكسيّة في الماضي، إضافة إلى أنَّ الأشخاص الذين يُقدّرون الخصوصيّة لا يودون فعل ذلك، ويشعرون بالخجل.
خائفون من الحرية
يُشبّه سين جروفر، طبيب نفساني ومؤلّف، في موقع "سيكولوجي توداي" الانفعالات الغاضبة لمن يرى أزواجاً سعداء، أو مظاهر الحميميّة، بنظرة عصفور محبوس في قفص إلى أقرانه الأحرار على الشجر، وذلك في قصّة رمزيّة قديمة، هذا الطير لا يعرف شيئاً في حياته سوى القضبان، وقرّر المالك أن يُنظّف المنزل، فأخرج القفص خارج البيت، ولأوّل مرة يرى عصافير مثله، يُغنّون بحرية، ويقفون على الأغصان، يتمازحون بهمهماتهم ومناقيرهم، مما دفع عصفور القفص إلى الشعور باستياءٍ بالغٍ، وأدانهم بأنّهم عديمو المسؤوليّة، وعندما أعاده المالك إلى الغرفة شعر براحة بالغة.
الغَاضِبُون من منظر القُبلَة الحَميمية في الشَّارع، عَصَافِير مَحبُوسَة في قَفَص، تُنظُر إلى أَقرانِها الأَحرَار.عندما نمتلئ بالخوف نخسر عاطفتنا حيال الحياة، نتجنّب المجهول لنمارس ما تعوّدنا عليه، ونتجنّب الفرص، ونتوقّف عن اكتشاف أنشطة مختلفة، أو ملاحقة أحلام جديدة، مثل العصفور المسجون، نحن نشعر بأمان، ولكن هل حقاً نعيش؟.
يُعلّق جروفر أنَّ هناك أوقاتاً في حياتنا نكون فيها جميعاً سجناء: المدارس، الوظائف، حتى العائلة يمكن أن تصبح شكلاً من أشكال الحبس، ولكن بعد أن نخرج إلى العالم، نأخذ سجننا معنا، هذا السجن هو الذي صنعناه بأيدينا، ومادة هذا السجن هو الخوف.
يجيب: كلّ لحظة نتلاشى في روتين باهت، الاستقرار في وظيفة غير مشبعة، وعلاقات غير مُرْضية، أو نتخلَّى عن أحلامنا، ويضيق بنا السجن، بدل أن نتأمل خياراتنا ومواقفنا، أو نفكّر في البدائل، وبهذه الطريقة دائماً ما يكون الأشخاص السعداء هدفاً للبائسين.
لذا يُشدّد جروفر على أن السعادة شيء تعمل عليه، وليست منحة يضفيها عليك الآخرون، لذا أوّل شيء عليك فعله وهو مفتاح العلاقات السعيدة، أن تبني حالة جوهريّة من السعادة بداخلك، إنها رحلة مضنية مليئة بالقمم والوديان، لذا فإن الملتزمين بالنموّ النفسي المستمرّ وتحسين الذات، هم فقط من يمكنهم تذوّق علاقات المحبة الدائمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...