تنتشر قصص الفحولة الجنسية لـ"مين" إله الخصوبة عند المصريين القُدَمَاء بين سكان مدينة الأقصر السياحية، وتوَارَثت لتصبح مادَّة للتّندُّر، والسَّمَر في كلّ نجوع وقرى الأقصر، وصُورة أُسطُورِيَّة تملأ خيال المراهقين، يصفه أحدُهم بِقولِه: "أبو رِجل تالتة"، كناية عن حجم عضوه الذَّكري، في حين يَتَندَّر عليه آخر بقوله: " الله أخذ قدمه وأطال عضوه"، على الرَّغم من اختفاء عضوه من الصور الجدارية، وتغطيته في بعض التماثيل.
إلى جانب منحوتات أخرى وصل الأمر فيها إلى حدّ كسر العضو تماماً، وإزالته من مكانه كي لا يصبح بارزاً.
الحكاية الماجنة لـ"مين" كما يرويها المصريون
الصورة المعروفة للجميع في الأقصر ترسمه على هيئة رجل مُنتَصِب، يلبس مِئزَراً، ويَرفَع إحدى ذراعيه إلى أعلى لتحمل السوط، بينما تختفي الأخرى تحت ردائه، ويحمل فوق رأسه تاجين بريشتين، وهو الرمز الديني الخاصّ به، أمَّا عن قصّته فتقول -كما يقصُّها علينا روبرت آرموار، الباحث في جامعة فيرجينيا الأمريكية، في كتابه "آلهة مصر القديمة وأساطيرها"-أنه:
"في العصور القديمة صدر قرار بخروج جميع الرجال القادرين للحرب مع الإبقاء على رجل واحد فقط للحراسة، وقيل أنّ الحرب استمرَّت أعواماً كثيرة؛ ممّا جعل الرَّجل مطمعاً لنساء القرية، فمارس الجنس معهنَّ كُلّهنَّ لأعوام، وحبلن كلُّهنُّ، وولدن لمرَّات، واختلفت الأقاويل في عدد أولاده، فمنهم من قال أنهم 550 ذكراً، ومنهم من قال أنَّهم تجاوزوا الألف بكثير، وحين رجع الرجال من الحرب، وجدوا أنَّ هناك جيشاً آخر في انتظارهم؛ فغضبوا على "مين"، وقطَّعوا ذراعه وساقه، ولكن أبناءه وقفوا صفاً واحداً مع أبيهم، ولمَّا كانت الحروب متوالية فقد رفض الأبناء الدخول في الحرب الجديدة إلَّا بعد تخليد قِصَّة حياة والدِهِم على المعابد، وتنصيبه إلهاً للخصوبة، وبالفعل تمّ تخليد قصَّة الإله "مين"، وأُطلق عليه لقب "آمون مين"، ورُسم على هيئة تمثال يبرز عضوه الذكري، والنّساء تحته خاضعات، معهنّ فناجينهنّ لتلقِّي الخصوبة".
ذهب جميع الرجال للحرب ما عدا "مين"، أبقوه للحراسة، وطالت المعارك، ومارس "مين" الجنس مع زوجاتهم وبناتهم، وعندما عادوا فوجئوا بـ"جيش" من الأطفال أُنجِبوا أثناء غيابهم.
"خالِق كُلّ شيء، وَصَانِع الآلِهَة والرِّجَال"
يذكر كتاب "مقدمة في اللغة المصرية والرموز الهيروغليفية" لجيمس آلن أنَّ الإله مين (ويُنطق بالمصرية القديمة مينو) هو إله مصري نشأت عبادته في عصور ما قبل الأسرات، وتُحدّدها "موسوعة بريتانيكا" بالألفية الرابعة قبل الميلاد، وكان لهذا الإله صوراً مختلفة.
ولكن في أغلب الأحيان يُصوَّر في شكل ذَكَر بشري مع قضيبه المُنتَصِب، حاملاً في يده اليمنى "مِنشّة"، وقد عُرِف أيضاً باسم "خيم"، وكان يُمثِّل إلهاً للتَّكَاثُر والخُصُوبة، ويَذكُر ياروسلاف تشرني، عالم شهير في المصريات من تشيكوسلوفاكيا، في كِتابِه "الديانة المصرية القديمة"، أنّ الإله "مين" شأنه شأن الإله "خنوم"، اعتبره المصريون خالقاً لكلّ شيء، وهو بهذا المفهوم "صانع الآلهة والرجال" كما كان يُلقَّب.
ويضيف لصورة إله الخصوبة الفرعوني عالم المصريات، فرانسوا ديماس، بُعداً آخر فيذكر أنَّ عبادته كانت الأقوى في"قفط" و "أخميم"، بحسب كِتابِه "آلهة مصر"، حيث كانت تُقام الاحتفالات المَهيبة الخاصّة به مع موكب عام، وتُقدَّم الكثير من القرابين.
وقد قادت عمليات التنقيب فلندرز بتري، عالم المصريات البريطاني، لاثنين من تماثيله الكبيرة في "قفط"، وهما الآن في متاحف بريطانيا، ويَعتقد البعض أنَّهما ينتميان لفترة ما قبل الأسرات.
وقد تزايدت أهمية "مين" في عصر الدولة الوسطى عندما أصبح أشدّ ارتباطاً بـ"حورس" في صورة الإله "مين-حورس"، وبحلول عصر الدولة الحديثة أصبح مُنصهراً تماماً مع إله المملكة، وحاكم الآلهة "آمون" في صورة الإله "مين-آمون-كاموتف"، وقد تُوّج ضريح "مين" بِزَوج من قُرون الثُّور.
ويذكر أدولف إيرمان في كتاب "ديانة مصر القديمة" أنّه لكون "مين" الإله الرئيسي للخصوبة، وربما للطقوس الجنسية؛ فقد وحّده الإغريق مع الإله "بان"، وقد ارتبطت عبادته بتقديس الخسّ المصري والخسّ المنشاري، وهما نبتتان أشاع المصريون أنّ لديهما قدرة على إثارة الشهوة الجنسية، ويسيل منهما عُصَارة مَطَّاطيّة عندما تُقطَّعان، وربَّما كان السبب في ذلك الاعتقاد هو اللون الأبيض للعُصَارة، التي اقترنت في ذهن المصري القديم بصورة السَّائل المنوي.
"مين" الإله الرئيسي للخصوبة والطقوس الجنسية في مصر القديمة، وارتبطت عبادته بتقديس نبات الخسّ، حيث اعتقدوا أنَّ اللون الأبيض لعصارته يُمثّل السائل المنوي
ويذكر إيرمان أنَّه في بداية موسم الحصاد كان تمثال الإله "مين" يُحمل من الهيكل، ويعبر به الحقول، ليبارك الحصاد، وكان يظهر على العامة بتمثال مُغَطَّى بقماش (كفن)، ويرتدي تاجاً من الريش، وكثيراً ما يمسك قضيبه المُنتَصِب في يده اليسرى، و"مِنَشَّة" (في إشارة إلى سلطته، أو بالأحرى سلطة المملكة) باليد اليمنى، وحول جبهته يرتدي وشاحاً أحمر اللون يتدلَّى حتَّى الأرض، وادَّعى البعض أنَّه يُمثِّل الطاقة الجنسية.
يمسك الإله "مين" قضيبه المُنتَصِب في يده اليسرى، و"مِنَشَّة" باليد اليمنى، وحول جبهته يرتدي وشاحاً أحمر اللون يتدلَّى حتَّى الأرض يُمثّل الطاَّقة الجنسيَّة
وقد عانى الإله "مين" بعد عصور الاضمحلال المصرية من تشويه بعض تماثيله وصوره بالمعابد، وذلك بسبب أنه كان يُصوَّر بقضيب مُنتصِب، وكان علماء المصريات الفيكتوريون يُصوّرونه فقط من الوسط لأعلى، أو يجدون وسيلة ما لتغطية قضيبه الظاهر.
ومع ذلك، لم تكن صورة الإله مين بقضيبه المنتصب تمثل لدى قدماء المصريين أمراً مشيناً أو يدعو للخجل، فقد كانت لديهم معايير أكثر أريحية بكثير تجاه الجسد العاري، فقد كان المصريون القدماء خاصة الفلاحون والموظفون والفنانون والعُمَّال في كثير من الأحيان يقومون بأعمالهم بأجساد عارية جزئياً أو كلياً لا سيما في المناخ الحار، كما لم يكن الأطفال يرتدون الملابس إلا بعد البلوغ.
حارس معبد الأقصر: "المسلم والمسيحي لا يعرفان قيمة مين"
يقول عاشور عبادي، وهو حارس في معبد الأقصر، إنّ الجداريات تعرَّضت للكثير من التشوّه عن طريق البعض ممَّن لا يعرفون قيمة هذا الأثر، وأنَّ "المسلم" و"المسيحي" لم يكونا يدركان هذا الأمر، بل نظرا إلى التجسيد من واقع رؤيتهما الدينية، وبالتَّالي كانا يحاولان طمس هذه الآثار لأنَّها تتنافى ومعتقديهما.
وأعرب عبادي عن إعجابه البالغ بقصَّة الإله "مين"، قائلاً عنها: هي قِصَّة في غاية الروعة خَلَدها الزمن، وبالرغم من أنَّ القصة لم تصل إلينا كاملة، ويشوبها الكثير من الأخطاء فإنها تنضمّ إلى قائمة الأساطير العظيمة.
وتابع عبادي لـرصيف22 ناظراً إلى جداريات معبد الأقصر باندهاش، إنّ تكوين المعابد الفرعونية بهذا الشكل المُلتفّ حول نفسه كان يُستخدم كمأوى للبعض؛ فيسكنونه طلباً للدفء في الليالي الباردة، وهذا أثّر كثيراً على النقوش، ويُلاحظ أنَّ كل عائلة كانت تسكن مع بناتها وأبنائها، وبالتالي فإنَّ البعض كان يرى في هذه المناظر عورة، لأنَّه لا يعرف قيمة ما يسكن فيه، الأمر الذي جعل البعض يحاولون تكسير النقوش التي تظهر بها الأثداء والاعضاء التناسلية، خصوصاً الإله "مين".
وقال صِدّيق عبد الرؤوف حسن صدّيق، وهو خَفير قضى في حِراسة معبد الأقصر أكثر من 17 عاماً، أنّ المعبد لم يحظ بالاهتمام الكافي من الدولة إلّا منذ فترة قريبة، وأنَّه على مرّ العصور تعرَّض المعبد للكثير من التخريب، وإلى الآن يدخل بعض الصبية، ويحاولون طمس بعض الآثار لولا الحراسة المكثفة للمعابد.
"كسر وتشويه الآثار مستمرّ منذ عصر الفراعنة"
يُرجع محمود محمد ابراهيم، مدير عام آثار مصر العليا، ظاهرة التلاعب في الآثار، مثلما حدث مع "مين"، إلى سببين: أوَّلهما العوامل الطبيعية، مثل عوامل التعرية، كالريح وتقلّبّاتها في الجو، ومنها الفيضانات النيلية، لأنّ معظم هذه المعابد كانت غَرقى.
والسبب الثاني هو التخريب المُتعمّد عن طريق الأشخاص، بداية من الفرس مرورا بالاحتلال الروماني، والمسيحيين المضطهدين الذين لجؤوا إلى المعابد من البطش، و المسلمين القادمين مع "الفتح الإسلامي"، استقرّ الكثير منهم بالمعابد، واستخدموا بعضها للمعيشة ولأغراض أخرى، فلم تكن المعابد المصرية تُمثّل لديهم أهمية خاصة في ثقافتهم.
وأضاف إبراهيم أنّ هذه الآثار لم تلق العناية إلا بإنشاء قانون هيئة الآثار، ولقد عرَّف قانون حماية الآثار المصري الأثر حينما نصّ على مفهومه في المادة الأولي من القانون رقم 117 لسنة 1983، حيث نصَّ على أنَّ "الأثر هو كلُّ عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة أو أحدثته الفنون أو العلوم أو الأديان من عصر ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى ما قبل مائة عام، متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية باعتباره مظهراً من مظاهر الحضارات المختلفة، التي قامت على أرض مصر أو كانت لها صلة تاريخية بها، وكذلك رُفات السلالات البشرية، والكائنات المعاصرة لها".
وفي النهاية، يلفت إبراهيم النظر إلى أنَّ بعض ما تعرَّضت له المعابد ربَّما كان قد حدَث في عصر مصر القديمة بسبب الصِّراع على المُلك، والأحداث السياسية المختلفة، خاصَّة في ظلّ المعارك التي كانت تُنشَب للحصول على العرش، وقيام كلّ طرف بتكسير ما يُجسّد حياة الآخر ومجده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 3 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري