أصبح لنموذج "الذكر ألفا"، الذي يروج له مؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي ومدربو علاقات، أثر خطير في تشكيل تصورات "الرجولة"، وتعريف ما يعنيه أن تكون "رجلاً حقيقياً". من خلال الخطاب الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي، يُقدَّم "الذكر ألفا" الذي يسعى إليه أتباع الخطابات الذكورية باعتباره طوق نجاة، وعداً بالخلاص من مخاطر الضعف والفشل مع النساء ضمن خطاب "الحبة الحمراء".
وخطاب "الحبة الحمراء" انتشر أخيراً في الفضاء الإلكتروني العربي، حيث يسعى إلى نشر فلسفته وإيقاظ الرجال على ما يدّعونه "حقيقة" تبعيّتهم للنساء، وحقيقة الأجندات التي تحرك عمل وسائل الإعلام ونظام التعليم والمؤسسات الأخرى، بزعم استبعاد الرجال وتمكين النساء على حساب حرمان الرجال من حقوقهم. غالباً ما ترتبط حركة "الحبة الحمراء" بـ"اليمين البديل" والأيديولوجيات المتطرفة، وتأتي استعارة "الحبة الحمراء" من فيلم "الماتريكس"، حيث يتناول البطل توماس أندرسون (نيو) الحبة الحمراء ليرى الحقائق الصعبة حول المجتمع والواقع.
استناداً إلى تفسير متحيز لعلم النفس التطوري، تؤكد أيديولوجية "الحبة الحمراء" أن النساء يبحثن غريزياً عن أنواع معينة من الرجال المسيطرين والذين يتسمون بصفات مثل الشراسة والقسوة لإشباع رغباتهن الجنسية (أي الرجال المعروفين باسم "الألفا"). لكنهن بجانب ذلك يرغبن في نوع آخر من الرجال "اللطفاء" لتوفير الالتزام والدعم المادي والرعاية على المدى الطويل (وهم الرجال المعروفين بـ"بيتا"). وفوق ذلك، ترى هذه الأيديولوجية أن رغبة المرأة في البحث عن أفضل ذكر متاح لا تتوقف حتى بعد الزواج، زعماً بأن الروابط العاطفية غير ذات أهمية بالنسبة للنساء، وأنهن يدعين الرومانسية وهن في الحقيقة مخادعات، ونظرتهن إلى الحب ميكافيلية.
في المقابل، يعتقد أصحاب هذه النظرة أن "الرجل الحقيقي" يجب أن يعرف أن الحب ينتمي إلى "عالم ديزني"، وأن الحب لا يعني أن تمنحك المرأة المودة والألفة والقبول، بل الحب هو الفخ الذي تنصبه للرجل لتستغل موارده المادية وتحقق رغباتها.
بناءً على ذلك، تُقَدِّم "الحبة الحمراء" خطابها كـ"حركة مساعدة ذاتية تُعين الرجال على مكر النساء"، على الرغم من أن "الحبة الحمراء" قد تجذب نوعاً معيناً من الرجال الذين يفتقرون إلى التعاطف ويسعون إلى الهيمنة، فتكون روح الأيديولوجيا متماشية مع طباعهم. إلا أنها قد تكون جذابة بشكل خاص لأولئك الرجال الذين واجهوا الرفض المتكرر وخيبات الأمل في مساعيهم الرومانسية، معتقدين أن "الحبة الحمراء" لديها المفتاح لفهم السلوك الأنثوي وأنها قادرة على تعليمهم "الرجولة".
من هو "الألفا"؟
الذكر الألفا هو نموذج الرجولة المثالية الذي يسعى إليه جميع أتباع "الحبة الحمراء". لا يوجد تعريف محدد لـ"الألفا"، ولكن بشكل أساسي يُعرّف بأنه الرجل الأعلى في قمة الهرم الاجتماعي، رجل ناجح جنسياً، يكسب الكثير من المال، محاط بشبكة من الرجال ذوي القيمة العالية الذين يمكن الاستفادة منهم، يحظى باحترامهم لأنه أعلى مكانةً منهم، يصل إلى ذروة تألّقه في أواخر الثلاثين، يصور عادةً كرجل مفتول العضلات، محاط بالعديد من النساء اللواتي يتنافسن لنيل اهتمامه، و"الألفا" ليس من النوع الذي "يقدِّس الأسرة والحياة الزوجية"، ولا يعرف من المشاعر سوى مشاعر القوة.
تُقَدِّم "الحبة الحمراء" خطابها كـ"حركة تُعين الرجال على مكر النساء" وبرغم أنها قد تجذب نوعاً معيّناً من الرجال الذين يفتقرون إلى التعاطف ويسعون إلى الهيمنة إلا أنها قد تكون جذابة بشكل خاص للذين واجهوا الرفض المتكرر وخيبات الأمل في مساعيهم الرومانسية، معتقدين أن "الحبة الحمراء" لديها المفتاح لفهم السلوك الأنثوي وأنها قادرة على تعليمهم "الرجولة"
الهيمنة والقوة هما جوهر أيديولوجية "الحبة الحمراء". لكن طبيعة القوة التي يُقدِّمها هذا الخطاب كَسِمَةٍ جوهرية يتمتع بها "الذكر الألفا" ليست قوة حقيقية تُبنى على عوامل داخلية أصيلة، بل هي صورة هشّة من القوة تعتمد على خلق"ذات زائفة" مبنية على عوامل خارجية مثل المظهر الجسدي والثروة والقدرة الجنسية. بالتالي، "تطوير الذات" هو جزء من "الحبة الحمراء"، حيث تركز بشكل رئيسي على الرجل و"كيف يبدو قويّاً".
الذات الحقيقية والذات الزائفة هما مصطلحان استخدمهما المحلل النفسي البريطاني دونالد وينكوت بحيث تشير الذات الحقيقية إلي الهوية الأصلية للفرد وتجاربه العفوية، هذه الذات هي القادرة على الشعور بالواقع والقادرة على الإبداع، بينما الذات الزائفة هي ذات يطوّرها الفرد استجابةً للضغوط الاجتماعية أو انعكاساً للقبول المشروط الذي تلقاه كطفل. لذا، تنشأ هذه الذات الزائفة استجابةً لرغبة الطفل الفطرية في التواصل والقبول، ويتم تصميمها وفقاً لرغبات المجتمع وكل ما يريده الآخرون.
وهذه الذات الزائفة هي ما يعمل خطاب "الحبة الحمراء" على صنعه وخلقه وتطويره، ومن مظاهرها داخل خطاب الحبة الحمراء، التالي…
الدروع النرجسية
يرفض خطاب "الحبة الحمراء" أي شكلٍ من أشكال الضعف، حتى لو كان متجذراً في الطبيعة البشرية المشتركة لأنه يحاول أن يبني شعوراً بالقوة والاستقلال قائماً على وهم عدم وجود إخفاقات وعدم الحاجة للآخرين، لذا الضعف يصبح تذكيراً مهيناً بالعجز عن تحقيق معايير الألفا.
الأمثلة على ذلك تشمل مشاعر الاحتياج للآخر التي يمكن أن تتمثل في رغبة المرء أن يكون محبوباً أو مفهوماً أو مرئيًّاً، أو الشعور بالامتنان لوجود امرأة، يكشف عن احتياج للآخر، والألفا يزعم أنه لا يحتاج. ومشاعر مثل الذنب أو الندم قد تكشف عن عدم الكمال، والألفا يدّعى أنه بلا عيوب. كما أن مشاعر الضعف قد تقوِّض قدرة الألفا على ممارسة قوته وسيطرته.
سمة أخرى بارزة تتمثّل في أن النساء لا يُعاملن داخل خطاب الحبة الحمراء ككائنات إنسانية يمكن التواصل معهن، بل كـ"أشياء" يستخدمها الرجل لتعزيز الشعور بالقوة والأهمية وللحصول على المنفعة والاعتراف، وذلك لأن الذات الزائفة تفضِّل القوة عن التواصل كما يقول المعالج النفسي ألكسندر لوين.
الهيمنة والقوة هما جوهر أيديولوجية "الحبة الحمراء". لكن طبيعة القوة التي يُقدِّمها هذا الخطاب كَسِمَةٍ جوهرية يتمتع بها "الذكر الألفا" ليست قوة حقيقية تُبنى على عوامل داخلية أصيلة، بل هي صورة هشّة من القوة تعتمد على خلق"ذات زائفة" مبنية على عوامل خارجية مثل المظهر الجسدي والثروة والقدرة الجنسية
بالتالي، تتمحور إرشادات "الحبة الحمراء" حول طرق اصطياد أكثر النساء خضوعاً، لتسهل على "الألفا" فرض إطاره الذكوري. يتحقق ذلك من خلال استخدام أشكال مختلفة من العدوان الناعم وتكتيكات التلاعب، التي تتداخل مع تلك الأساليب التي يستخدمها مرضى اضطرابات الشخصية النرجسية والسيكوباتية للسيطرة على ضحاياهم، بهدف إضعاف المرأة داخل العلاقة وجعلها تشعر بعدم الأمان.
يدخل ضمن هذا الإطار تجاهل المرأة، أو إثارة غيرتها، أو إلقاء اللوم عليها، أو الإشارة إلى إخفاقاتها، التعدد أو وجود علاقات أخرى خارج الزواج حتى لا تكون هي المصدر الوحيد للجنس الذي يعتمد عليه، بالإضافة إلي تقويض استقلالها المادي، سواء بمنعها من العمل، أو السيطرة على مواردها المادية ومنعها من الادخار.
وإذا فشلت هذه التكتيكات - في إنتاج المستوى المطلوب من "الخضوع" و"تشييء" المرأة - يتم استبدال المرأة بأخرى أكثر خضوعاً لأن القاعدة تقول: "لا تستثمر في المرأة مادياً أو عاطفياً، فإن من يستثمر أكثر هو الطرف الأضعف". من هذا المنطلق، يتم تشجيع الرجال على الاستثمار بشكل ضئيل في العلاقات، عاطفياً ومادياً، لتجنب الشعور بالخسارة أو الندم.
ينصح أحد الذكور من الأعضاء النشطين، على مجموعة "Man Revaluation"، بأن "الرجل الذي تُصاب زوجته باكتئاب ما بعد الولادة عليه أن يردها إلي بيت أهلها حتى تعقل. فإن طال بها الأمد يتزوج غيرها".
من الطرائق التي يدعم بها "الألفا" قوته الوهمية خلق صور كاريكاتورية تُحَقِّر من مجموعات أخرى من الذكور وتختزلهم في سمات تعبر عن الضعف والحقارة. فـ"البيتا" - نقيض "الألفا" - يُصوَّر كرجل خاضع، ويُقَدَّم في الميمز كرجل زاحف بمذلة على ركبتيه أمام امرأة متسلطة تشير إليه بالسبابة آمرةً، أو كـ"خروف ساذج" يدعم فتاة في محنة وتقدم له "الحبة الحمراء" ليصبح ذئباً شرساً.
توجد أيضاً فئة "السمب"، الذي يدافع عن حقوق النساء ويقدم إليهن الخدمات للحصول على الاهتمام أو الجنس، تستخدمه النساء فقط للتحقق من جاذبيتهن وقدرتهن على الإغواء، ثم يتركنه محبطاً بعدما يذهبن لآخرين دون منحه أي شيء.
هذه الفئات التي تخلقها "الحبة الحمراء" تغذي مشاعر القوة والأهمية، انطلاقاً من تقليل قيمة المرأة كواحدة من الدفعات النفسية التي يستخدمها الذكور في مساعيهم لتعزيز احترام الذات، والشعور بالطمأنينة لناحية جاذبيتهم وقوتهم.
التشابه الجوهري بين "السمب" و"الألفا"
التأكيدات والتوصيات على المجموعات الذكورية تشرح طوال الوقت ما يُزعم أنه يعجب النساء في الرجال وما لا يعجبهن، ودائماً ما يوصف كل سلوك مناقض للطف والرقة كعامل جذب للنساء. لكن مجتمع "الحبة الحمراء" يفشل في إدراك التشابه الجوهري بين "السمب" ونموذجهم الأثير، "الألفا". فكلاهما يحركه حاجة عميقة إلى نيل اعتراف الأنثى، والسعي اليائس إلى الحصول على إعجابها.
يروّج خطاب "الحبة الحمراء" إلى فئات مثل الرجل "البيتا" و"السمب"، ليغذّي مشاعر القوة والأهمية لدى "الألفا"، دون إدراك التشابه الجوهري بين الرجل "الألفا" مع "السمب".
وفي حين يسعى الرجل "السمب" إلى إرضاء النساء من خلال لعب دور المنقذ، يسعى الرجل "ألفا" إلى الهيمنة والسيطرة عليهن اعتقاداً بأن هذا ما يعجبهن. وراء هذه القطبية الظاهرة تكمن رغبة مشتركة: نفي الذات الحقيقية لصالح صورة مصطنعة ومشوّهة لـ"الرجولة" تُخفي انعدام الأمن العميق.
ونجد داخل مجموعات "الحبة الحمراء" قلقاً دائماً من "سقوط الألفا"، يتمثل بقوة في الخوف من "أرملة الألفا"، وهي المرأة التي في تاريخها رجل "ألفا" مهيمن وذو مكانة، وضع بصمته الأبدية على روحها، بحيث لا يمكنها أبداً تجاوزه أو نسيانه، وستظل أرملته وتقارن كل رجل تعرفه به.
هذه المرأة، محرّمة في عقيدة "الحبة الحمراء"، لأنها تمثل تهديداً لقوة "الألفا" وجاذبيته في عين امرأته إذ قارنته برجل آخر من ماضيها، أو حتى حاضرها. بالتالي، يوجد حقد خاص تجاه شخصية "المدير/ رئيس العمل" لأنه من المحتمل أن يكون "ألفا". ذلك الرعب من ظهور "ألفا" جديد لا يكشف إلا عن القلق وعدم الأمان بشأن مدى الجاذبية، ومحاولة الهروب من التهديد المتمثل في "ألفا" آخر محتمل. إنه التنافس النرجسي الذي يسعى إلى حماية الذات الهشة، وحماية التصورات العظيمة عن الذات.
الجسد أيضاً له أهمية خاصة داخل "الحبة الحمراء" لأنه يخدم أكثر من غرض، باعتباره أداة هامة لتأكيد شكل معين من القوة والذكورة المثالية، ومن جهة أخرى، يكون مصدر جذب للفتيات، لذا الجسد الجميل والمثالي هو الجسد القوي الذكوري.
السيطرة أساس "الحبة الحمراء"
إن كانت هذه أبرز ملامح السيطرة داخل خطاب "الحبة الحمراء"، فلماذا تكتسب "السيطرة" هذه الأهمية عند "الألفا"؟ وكيف تخدم "الألفا" وتساعده؟ الإجابة على ذلك تتضح في مساهمة إريك فروم القائمة على علم النفس التحليلي لفهم نزوع الأفراد إلى التسلّط والسيطرة، مع ملاحظة التشابه بين الرغبة في الهيمنة لدى "الذكر ألفا" ولدى الشخصية التسلّطية التي وصفها فروم في كتابه: "الخوف من الحرية". يعتمد فروم على الفرضية الأساسية للاتجاه التحليلي بأن السلوك البشري قد يُحركه دوافع لا واعية بدلاً من المبررات العقلانية التي يدركها البشر.
يعتبر فروم أن تاريخ حياة الفرد لا يبدأ بالفردية، بل يبدأ كطفل متحدٍ مع أمه في كيان واحد، حيث لا يدرك الطفل أن أمه وعالمه كيانان منفصلان. هذه الوحدة أو الاعتمادية تخلق شعوراً بالأمان والانتماء لدى الطفل، يسمي فروم هذا الاتحاد "الروابط الأولية".
مع ذلك، لا يدوم هذا الأمان الطفولي، ومع تقدم الطفل في النمو يبدأ تدريجياً في الانفصال عن هذه الروابط التي تمنحه الأمان. هذا الانفصال لا يجلب الاستقلال والتحرر فقط بل يجلب معه أيضاً مشاعر الوحدة والقلق والعجز نتيجة الانفصال عن الروابط الأولية. عند هذه النقطة الحرجة، يتاح مساران للتعامل مع هذا القلق: إما المواجهة أو الهروب. أما المواجهة، فتعني إقامة علاقات عفوية مع البشر ومع الطبيعة على أساس الحب والعمل الإنتاجي، دون أن يؤدي ذلك إلى إضعاف فقدان الفردية والاستقلال. وأما الهروب، فيعني التخلّص من عبء هذه الحرية عن طريق خلق روابط ثانوية بديلة وتبني تبعيات بديلة يعتمد عليها الفرد لتحقيق الأمان.
يمكن للتسلط أن يكون أحد أشكال الاعتمادية والروابط الثانوية البديلة التي تخلق أماناً زائفاً مؤقتاً، ما يعني الاعتماد على الشعور بالانتماء من خلال موضوع خارج الذات، ويميل هذا النوع من الناس إلى التخلي عن استقلالية ذواتهم الفردية والاندماج مع شخص أو شيء ما على أمل اكتساب الشعور بالانتماء والأمن.
لذلك، كي يمارس "الألفا" هيمنته فهو بحاجة إلي أنثى خاضعة أو موضوع يعتمد عليه في ممارسة الهيمنة. بالتالي، تسعى الشخصية التسلّطية لما سمّاه فروم "العلاقة التكافلية" التي تعني اتحاد الذات مع موضوع خارجها أو ذات خارجها بما يعني أن الشخص المهيمن هو في حاجة لموضوع آخر يتسم بالضعف والخضوع ليمارس عليه هيمنته، كونه يحتاج إلى إنسان آخر يشعر أنه سيده وهذا تماماً ما يبحث عنه "الألفا" إذ لا يمكنه تأكيد هيمنته وذكوريته بدون أنثي خاضعة أو أتباع خاضعين.
عندما يكرر الكثير من أعضاء مجموعات "الحبة الحمراء" بكل حماسة أن كل النساء سيئات وأنهم اختبروا ذلك بأنفسهم مرة تلو الأخرى، فهم صادقون تماماً في وصفهم في حدود تجربتهم. كيف؟
وفقاً لفروم أيضاً، الميل للخضوع أو الهيمنة كلاهما وجهان لنفس العملة وكلاهما يبحثان عن حل لمشكلة واحدة وإن بطرق مختلفة. فالشخصية الخاضعة تسعى لأن تكون جزءاً من شيء أكبر كفكرة أو مؤسسة أو شخص "ألفا". هؤلاء يتوقون إلى أن تبتلعهم قوة أعظم منهم لتحررهم من ثقل وجودهم والاختفاء في كيان آخر يخلصهم من عبء فرديتهم. وبالمثل، يشعر المستبد بالقوة لأنه ابتلع شخصاً آخر وتخلّص من وحدته وفرديته، وعندما يفقد موضوع سيطرته أو لا يكون قادراً على التهام الآخرين يعود وحيداً.
سرابات الحبة الحمراء
عندما يكرر الكثير من أعضاء مجموعات "الحبة الحمراء" بكل حماس أن كل النساء سيئات وأنهم اختبروا ذلك بأنفسهم مرة تلو الأخرى، فهم صادقون تماماً في وصفهم في حدود تجربتهم، لأننا في اختيارنا لشركائنا الرومانسيين نادراً ما يكون ذلك الاختيار عشوائياً. وكثيراً ما نكرر نفس الاختيار مرة بعد مرة دون أن ندرك، لأننا نختار في الحبيب مرآةً تعكس جروحاً قديمة، تعكس معتقداتنا عن أنفسنا والآخرين، التي تشكّلت من خلال تجاربنا المبكرة.
وإذا كانت تجاربنا مأسوية، فمن المحتمل، واعتماداً على مدى استبصارنا – وليس بشكل حتمي – ألّا تعكس المرآة إلا المآسي. حتّى إذا وجد رجل "الحبة الحمراء" المرأة المستحيلة التي يبحث عنها، والتي لا يحتاج معها لألعاب ولا دفعات وتكون ملاذه الآمن، فإذا بجذور التدمير الذاتي داخله، ستعرف جيداً كيف تقوده إلى تدمير سعادته. فيكون هو وحده عدو نفسه وليست المرأة.
تدّعي "الحبة الحمراء" أنها تقدم الحقيقية لكنها تقدم نبوءات ذاتية التحقق، تشوّه الواقع وتشكّله بما يتناسب مع الصورة المتحيّزة للمرأة.
يشير هذا إلى أحد الاستكشافات الأساسية والهامة للتحليل النفسي وهو مبدأ "التكرار القهري" الذي يهدف بشكل غريزي إلى إعادة خلق الأوضاع المدمرة التي نشأنا فيها، أي أننا نعيد خلق الشروط التي تنتج لنا مرة أخرى مشاعر الحرمان والجفاء والهجر ننجذب إلى الخطر والخداع والتلاعب، ونجد سحراً خاصاً في هؤلاء الذين يملكون القدرة على استنساخ صراعاتنا غير المنتهية مع أحد الوالدين، فيعيدوا لنا تأكيد رسالة والدينا أننا "غير جديرين بالحب"... هؤلاء تحديداً نستطيع أن نرى فيهم من الجمال والملائكية ما لم يره الآخرون، ونحاول أن ننتزع منهم ما لم يمنحه إلينا والدينا.
مع العلم أن اختيار الرجل المكرر للنوع نفسه من النساء لا يمنحه الحق في الحكم على كل النساء، بينما يمكنه الحكم على خياراته هو. وعلينا جمع الأدلة من تجاربنا الماضية وسلوكياتنا الحالية، وتطلعاتنا العميقة حتّى نتمكّن من تشكيل سردية متماسكة حول من نحن ولماذا نتصرف بهذه الطريقة؟ ولماذا نختار هذا النوع من الشركاء دون غيره؟ وهل نختارهم بدافع من خلق الروابط الحميمية والحصول على الأمان؟ أم نختارهم بدافع خلق الإثارة والمطاردة والتحدي؟
ختاماً، تدّعي "الحبة الحمراء" أنها تقدم الحقيقية لكنها تقدم نبوءات ذاتية التحقق، تشوّه الواقع وتشكّله بما يتناسب مع الصورة المتحيّزة للمرأة. ولأننا لا يمكننا أن نتعامل من الآخرين إلا وفقاً لمعتقداتنا وتصوراتنا عنهم، فمثل هذه الصورة الذهنية السلبية تشكّل بدورها الطريقة التي يتعامل بها الرجل مع المرأة، وتؤثر هذه التصرفات بدورها على ردود أفعال المرأة بالتبعية. لأنه عندما تقترب من امرأة وأنت تحمل في داخلك "تصوراً شيطانياً" عنها، وتمتلئ بالشك والريبة في نياتها، ولا ترى علاقتك معها إلا في إطار السيطرة والخداع، ولا تملك سوى التلاعب كوسيلة وحيدة للتواصل معها، تكون بذلك هيّأت المسرح بنجاح ليبدأ التصاعد الدرامي، وتبدأ نبوءتك في التحقق، وتبدأ الأشباح التي توهمتها في التجسد حقيقة، وتستيقظ "الشياطين" في كلماتها وأفعالها تجاهك، وتنتهي بك الأمور وأنت أكثر كرهاً للنساء، وعلى أتم يقين أن "الحبة الحمراء" تقدم الحقيقة، وتبدأ من جديد دورة أخرى أكثر حدة مع امرأة جديدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ ساعتينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 23 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت