أحب الأحلام التي تتسرب إلى منامي الشحيح، بألوانها المطفأة كأفلام سينمائية قديمة. في ذلك العالم الكثيف، مثل ومضات كاميرا كوداك، أبدو حقيقية في جوهري أكثر من الواقع.
لكن أحلامي منذ أن جئت إلى إيطاليا، وبعد أن بدأ لساني يرطن باللغة الإيطالية بجرسها الموسيقي الممطوط مثل جبنة موتزاريلا، بدأت لغتي العربية تغيب تدريجياً عن مسرح الأحلام، و حينها تساءلت: بأي لغة يحلم أبناء وبنات المهاجرين؟
أحلام عابرة للقارات
سألت زيّاد العمري (17 عاماً) ابن شقيقتي عُلا الذي يعيش في الولايات المتحدة:، بأي لغة تحلم؟ فأجابني: "أحلامي مختلطة اللغة؛ إن ظهرتم - يقصد أفراد العائلة - في الحلم، تكلمت معكم بالعربية، وإن ظهر رفقائي في المدرسة كلمتهم بالإنكليزية".
كان لهذا السؤال وهذه الإجابة أن يدفعاني إلى إرسال استطلاع حول اللغة العربية والأحلام. وبستة أسئلة:ما هي اللغة السائدة في أحلامك: العربية أم الإنكليزية؟ما هي اللغة التي تفكر بها أكثر: العربية أم الإنكليزية؟، ما هي لغتك المفضلة للتعبير عن أفكارك: العربية أم الإنكليزية؟، كيف يبدو جرس اللغة العربية عند سماعها؟، ما هي جاذبية كل من اللغة العربية واللغة الإنكليزية بالنسبة لك؟، هل تعتقد أن التحدث باللغة الإنكليزية يمنح المتكلم بها قيمة أكبر مقارنة بالتحدث بنفس المضمون باللغة العربية؟
الاستطلاع شمل 36 مشاركاً تراوح أعمارهم بين 8 سنوات و25 سنة، موزعين على ثلاث فئات عمرية رئيسية. الفئة الأولى تضم الأطفال بين 8 و12 عاماً، وبلغ عددهم 6 مشاركين، أي بنسبة 16.67%. الفئة الثانية تشمل المراهقين من 13 إلى 17 عاماً، وعددهم 14 مشاركاً، ما يعادل 38.89% من إجمالي المشاركين. أما الفئة الثالثة، وهي الفئة الأكبر، وتتألف من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، فمن 16 مشاركاً بنسبة 44.44%.
وبلغت نسبة المشاركين المقيمين في الدول العربية، الذين تلقوا تعليمهم في مدارس خاصة تُولي اللغة الإنكليزية الأولوية في التدريس، 72.22%. أما الفئة الثانية، وهم المقيمون في دول تُعتبر اللغة الإنكليزية لغتها الرسمية، فبلغت نسبتهم 27.78%.
جندرياً، من 36 شخصاً شملهم استطلاع الرأي، شكّلت الإناث نسبة 61.11% بعدد 22 مشاركة، بينما بلغت نسبة الذكور 38.89% بعدد 14 مشاركاً.
عكست الردود ذكاءً لافتاً وحساسية مرهفة، إذ كانت اللغة المستخدمة في الإجابة عن الأسئلة مرآة تعكس تجارب لها أثرها على كل من المستطلعة آراؤهم حول نظرتهم إلى هويتهم من خلال اللغة.
جغرافيا الأحلام
أجاب نصف المستطلعين وعددهم 18، بأنهم يحلمون بالإنكليزية حصراً، لكن اللافت بشدّة هو أن 11 شخصاً من الذين أجابوا أنهم يحلمون بالإنكليزية حصراً، يعيشون في الدول العربية! وكان معظمهم يقيم في الإمارات العربية المتحدة، تلتها الأردن كمكان للإقامة.
فيما أجاب 12 شخصاً أنهم يحلمون بلغة مختلطة، مزيج من اللغة العربية والإنكليزية، ومعظمهم اتفق أن جغرافيا الحلم تلعب دوراً في اللغة، فإن حلموا أنهم في مكان اقامتهم في المهجر تحدثوا باللغة الإنكليزية، أما إن كانوا في زياراتهم الطويلة في موطنهم الأصلي، تحدثوا باللغة العربية.
كان من اللافت أن الذين أجابوا أنهم يحلمون بالإنكليزية حصراً، يعيشون في الدول العربية، ومعظمهم يقيم في الإمارات العربية المتحدة، تلتها الأردن كمكان للإقامة.
إحدى الإجابات الأشد تأثيراً كانت لشمس الهندي (15 عاماً )، من أصول فلسطينية تعيش رفقة عائلتها في تكساس: "أتكلم العربية في الأحلام عندما تزورني أمي" وتكمل: "هناك جغرافيا في الأحلام، عندما أحلم أني في دولة عربية أتكلم العربية وعندما أكون هنا - تقصد تكساس- أتكلم باللغة الإنكليزية".
لغة للغضب وأخرى للاسترخاء
عند سؤال المشاركين عن اللغة التي يفكرون بها، أفاد نصف المشاركين (50%، أي 18 شخصاً) بأنهم يفكرون باللغة الإنكليزية. بينما أوضح 22.22% (8 أشخاص) أنهم يعتمدون على اللغة العربية. أما النسبة المتبقية (27.78%، أي 10 أشخاص)، فأشاروا إلى استخدامهم اللغتين معاً أثناء التفكير، مما يعكس تداخلاً لغوياً في عملياتهم العقلية.
من الإجابات التي تركت بصمة لا يمكن تجاوزها، ما قالته ليلى محسن (19 عاماً)، ذات الأصول الفلسطينية التي تنقلت بين الإمارات والبحرين وتعلمت في مدارس دولية مرموقة: "الأمر يعتمد على حالتي المزاجية؛ عندما أشعر بالغضب، أجد نفسي أفكر باللغة العربية، بينما أستخدم االإنكليزية عندما أكون هادئة ومسترخية."
تكررت الإجابات التي ربطت التفكير باللغة العربية بالحالة المزاجية المصاحبة للشعور بالغضب
وتكررت الإجابة مع ليان بركات (19 عاماً)، وهي أردنية تقيم في الإمارات، التي أوضحت: "الأمر يعتمد على حالتي؛ أفكر بالعربية عندما أكون غاضبة، بينما أستخدم الإنكليزية إذا كنت مرتبكة أو في حالة هدوء."
بدوره، عبّر دانييل سمير (17 عاماً)، وهو مصري يقيم في الإمارات، عن تجربة مشابهة قائلاً: "اختيار اللغة يرتبط بحالتي المزاجية؛ إذا كنت غاضباً، أجد نفسي أميل للتفكير بالعربية".
أفكر بالإنكليزية فأتحرر
عند سؤال المشاركين عن اللغة التي يفضلون استخدامها للتعبير عن أفكارهم، جاءت الإجابات متباينة وتعكس تفضيلات متنوعة. أظهر أكثر من نصف المشاركين (55.56%، أي 20 شخصاً) تفضيلهم التعبير عن أفكارهم باللغة الإنكليزية، مما يشير إلى حضور قوي للغة الأجنبية في أسلوب تفكيرهم وتعبيرهم.
بينما فضّل 27.78% (10 أشخاص) اللغة العربية كوسيلة أساسية للتعبير، معبرين عن ارتباطهم القوي بلغتهم الأم. أما النسبة المتبقية (16.67%، أي 6 أشخاص)، أوضحوا أنهم يستخدمون اللغتين معاً للتعبير عن أفكارهم، مما يعكس توازناً بين الثقافتين واللغتين في حياتهم اليومية.
كثيراً ما أشار المستطلعة آراؤهم إلى أن التعبير باللغة الإنكليزية يزيل عنهم حرجاً كبيراً ويمنحهم مساحة من الحرية
وكثيراً ما أشار المستطلعة آراؤهم إلى أن التعبير باللغة الإنكليزية يزيل عنهم حرجاً كبيراً ويمنحهم مساحة من الحرية! وفي هذا الإطار تقول لورين فرج (20 عاماً)، وهي مصرية تقيم في القاهرة وتلّقت تعليمها في المدارس الدولية : "أفضل التعبير عن أفكاري ومشاعري باللغة الإنكليزية؛ لأنها تخفف عني الحرج"، وتشاركها الرأي ذاته مواطنتها لارا عبدالعاطي (20 عامًا) قائلة : "من الأسهل التعبير عن المشاعر الثقيلة بلغة أجنبية لأنها تبدو أكثر بعيدة بالنسبة لي وليست ثقيلة، تخفف عني الحرج".
لغة رومانسية ومقدّسة
عند سؤال المشاركين عن انطباعهم تجاه جرس اللغة العربية عند سماعها، وصف 69.44% (25 مشاركاً) اللغة العربية بأنها لطيفة وجميلة وجذابة ومقبولة للأذن، مما يشير إلى أن غالبية المشاركين يحملون انطباعات إيجابية تجاه الصوت والإيقاع الخاص بها. في المقابل، رأى 30.56% (11 مشاركاً) أن جرس اللغة العربية ثقيل أو صعب أو صاخب، وهو ما يعكس بعض التحديات الشخصية في التفاعل مع هذه اللغة.
ولعل من أجمل الإجابات في هذا الصدد، ما قالته الغزّية تولين الشوا ( 18 عاماً) التي تعيش في ولاية تكساس الأمريكية : "اللغة العربية عندما تنطق بشكل سليم، تشعرني أنني في وطني".
تختلف وجهات نظر المشاركين حول جاذبية كل من اللغة العربية واللغة الإنكليزية، إذ تعكس هذه الآراء مدى التقدير والتفاعل مع هاتين اللغتين. فقد اعتبر 75% من المشاركين أن جاذبية اللغة العربية تكمن في كونها لغة ثرية ومتنوعة، فضلاً عن جرسها الموسيقي وامتدادها الجغرافي الواسع. بينما أشار 5.56% منهم إلى أن القرآن الكريم هو مصدر الجاذبية الرئيسي للغة العربية، مما يعكس الارتباط الروحي والديني العميق لهذه اللغة.
أما بالنسبة للغة الإنكليزية، فقد اعتبر 55.56% من المشاركين أن جاذبيتها تكمن في كونها لغة عالمية وسهلة التعلم، مما يعكس تزايد تأثيرها في العالم الحديث. في حين رأى 11.11% أن مصدر جاذبية اللغة الإنكليزية يكمن في صراحتها وقوتها في التعبير.
واعتبر العديد من المستطلعة آراؤهم أن اللغة العربية هي الأكثر تعبيراً عن مشاعر الحب، فـ لورين فرج وصفتها بأنها: " لغة رومانسية، تمكنّك من صياغة مليون جملة للتعبير عن حبك لشخص ما"، واتفق مع هذا الرأي زينة الهندي ( 20 عاماً) الفلسطينية المقيمة في الولايات المتحدة : "أعتقد أن أكثر ما يجذبني في اللغة العربية هو قوّة تعبيرها عن المشاعر والعواطف".
أما محمد سامي (15 عاماً) المقيم في تكساس، فيرى أن اللغة العربية تعبّر بشكل أعمق عن المشاعر الإنسانية بشكل عام، وليس مقتصراً على مشاعر الحب فقط، وفقاً لرأيه.
تكلّم الإنكليزية حتى أراك
أظهرت الإجابات عن السؤال حول ما إذا كان التحدث باللغة الإنكليزية يمنح المتحدث بها قيمة أكبر مقارنة باللغة العربية تبايناً في الآراء. فقد اعتقد 27.78% من المشاركين أن التحدث بالإنكليزية يمنح المتحدث قيمة أكبر. في المقابل، أشار 61.11% إلى أنهم لا يعتقدون ذلك، معتبرين أن اللغة العربية لا تقل أهمية أو قيمة في التعبير. أما 11.11% من المشاركين فلم يتمكنوا من تحديد رأي واضح في هذا الموضوع.
تعتقد آرام الأعور، شابة أسترالية من أصول فلسطينية، أن انتشار اللغة الإنكليزية يعود إلى الأنماط الرأسمالية المرتبطة بقوى اقتصادية تعتمدها كلغة أساسية، مما أسهم بشكل محوري في ترسيخ هيمنتها.
كان لافتاً أن معظم من أشاروا إلى أن اللغةالإنكليزية تضيف قيمة أكبر لمتحدثيها هم ممن يقيمون في الدول العربية وتلقوا تعليمهم في مدارس دولية. هذا يفسر إلى حد كبير تهافت أولياء الأمور على تسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة الدولية التي تركز بشكل رئيسي على تعليم اللغة الإنكليزية.
تقول آرام الأعور، الشابة الأسترالية ذات الأصول الفلسطينية: "البنية المجتمعية الحالية تعطي اللغة الإنكليزية قيمة أكبر من اللغة العربية، ليس بسبب سهولة الوصول إليها فحسب، بل أيضاً بسبب التحولات التاريخية المتعمدة خلال القرن الماضي التي ساعدت في انتشارها بشكل واسع، خاصة في ظل الأنماط الرأسمالية التي ترتبط بقوى اقتصادية لغتها الأساسية هي الإنكليزية. ومع ذلك، ورغم هذه الهيمنة، تبقى اللغة الإنكليزية في جوهرها لغة أقل تعقيداً، وتحظى بتقدير يفوق ما تستحقه، إذ لا يتجاوز عدد كلماتها مليون كلمة، في حين أن اللغة العربية تتفوق عليها بكثير، حيث تحتوي على نحو 12 مليون كلمة يمكن للمتحدثين بها استخدامها.".
طبقية اللغة
وفقًا لبيانات وزارة التعليم الأردنية، تجاوز عدد المدارس الخاصة في عمّان 3000 مدرسة، ما يعكس تحول اللغة الإنكليزية إلى ميزة طبقية حادة، خاصة في دول مثل الأردن ومصر تعتمد على العمل في الخليج حيث يُعد إتقان الإنكليزية شرطاً أساسياً.
معظم من أشاروا إلى أن اللغةالإنكليزية تضيف قيمة أكبر لمتحدثيها هم ممن يقيمون في الدول العربية وتلقوا تعليمهم في مدارس دولية
وتشير بيانات المجلس الأعلى للسكان إلى أنه عدد الأردنيين المقيمين في الخليج يصل إلى 924,850 شخصاً، فيما كشفت دراسة أجرتها "بيرسون" المختصة بتعليم اللغة الإنكليزية عن توجهات السوق السعودي اللغوية، أن 95% من السعوديين يرون إتقان الإنكليزية حاسماً لتحقيق دخل أعلى، مع رواتب تفوق 60-100% مقارنة بغير المتحدثين بها.
هذا الاتجاه يعمّق الهوة الطبقية في المجتمعات العربية، فلكم أن تتخيلوا رب أسرة أردنياً بدخله السنوي الذي يصل إلى 3138 ديناراً (4425 دولاراً) يفكر في تعليم أبنائه بمدارس خاصة تبدأ رسومها بنحو 1000 دولار سنوياً!
لمن يغني مكاوي؟
بوجه مجبول من طين، ونظارة شمسية يستر بها عماه، يغني سيد مكاوي "الأرض بتتكلم عربي"، فيفيض صوته الرخيم بالشجن، وكأنما يرثي لغة عربية تتلاشى ملامحها على ألسنة أبناء المهاجرين.
في مقال نشرته "المنصّة" بعنوان "لماذا تنسى الطيور أغانيها؟"، اعتمد على دراسة بالدورية الملكية للعلوم، وُجد أن طيور "آكلات العسل" الأسترالية، التي هجرت موطنها الأصلي تحت وطأة التوسع العمراني، فقدت تغريداتها الأصلية الطويلة والمعقدة.
كذلك، أبناء المهاجرين العرب، الذين فرّ آباؤهم من نيران الحروب والقمع، قد يظلون ناطقين بلغة عربية، لكنها قد تفقد شيئاً من عمقها وأصالتها الممتدة عبر القرون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 8 ساعاتوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ يومالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ يوماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!