فكّروا في ألذ بيرةٍ مثلّجة شربتموها وحاولوا أن تغمضوا عيونكم للحظة وتخيلوا الشخص الذي من الممكن أن يكون قد صنع هذه الجعة وخمّرها: هل هو طويل أم قصير؟ شعره كثيف أم أصلع؟ هل هو رجل ملتحٍ أم امرأة؟
الجواب قد يكون متوقعاً، وفق ما تؤكده "غريس ويتز" التي تعمل في مجلة HopCulture المتخصصة بالبيرة بالقول: "في 9 مرات من أصل 10، يمكن أن نتخيل الصورة النمطية التي تعود لرجل لديه لحية، يرتدي قميصاً وينتعل حذاءً خاصاً بتخمير الجعة"، مشيرةً إلى أنه من النادر أن يتصور الناس أن يكون الشخص وراء صنع البيرة هو امرأة وليس رجلاً.
فقد ارتبط استهلاك البيرة بالرجال لدرجة أنه كان من السهل على البعض نسيان حقيقة أن النساء لعبن دور "المخمّرات الأصليات" لهذا المشروب عبر التاريخ، وعليه انطلقت أخيراً "موجة نسائية" تطالب بضرورة الاحتفاء بدور المرأة في هذه الصناعة وعدم التنكر لفضل الإناث في إيصال البيرة إلى العالمية.
تاريخ المرأة مع التخمير
من آلهة التخمير في الشرق الأدنى القديم، والحانات المحرومة في إنجلترا في القرون الوسطى وصولاً إلى السيدات اللواتي يقاتلن ويؤكدن أنفسهنّ في كل جانبٍ من جوانب صناعة التخمير الحديثة، فإن قصة المرأة مع تخمير الجعة هي قصةٌ طويلةٌ ومعقدةٌ مثل التاريخ البشري نفسه. في العديد من المجتمعات القديمة، كان يُنظر إلى البيرة وكأنها هدية من الفرح، والحب والسعادة الروحانية المرسلة من السماء، وفي المجتمعات السومرية والمصرية القديمة كانت عملية إعطاء هبة التخمير للبشرية تعزى للآلهة، وفي كلا المجتمعين كان التخمير يتم عن طريق الإناث. ففي المجتمع السومري، الذي يملك أقدم سجلاتٍ في عملية إنتاج البيرة، كانت الآلهة "نينكاسي" تراقب جميع أنشطة التخمير، وكان إسمها يعني"السيدة التي تملأ الفم"، واللافت أن اللوحة التي تصف واحدة من الوصفات الأولى للبيرة والتي يعود تاريخها إلى العام 1800 قبل الميلاد، تعرف باسم "نشيد نينكاسي" وهي من أقدم قطع الأدب في العالم تحتوي على قصيدتين:قصة المرأة مع تخمير الجعة هي قصةٌ طويلةٌ ومعقدةٌ مثل التاريخ البشري نفسهتتحدث القصيدة الأولى عن كيفية تخمير البيرة في بلاد ما بين النهرين في حين أن القصيدة الثانية تمدح "نينكاسي" لقيامها بمنح شاربي البيرة فرصة تحقيق "مزاج سعيد"، وبالتالي جاء هذا النشيد كنوع من التكريم للدور الكبير الذي لعبته الآلهة السومرية "نينكاسي"، أم الخليقة، في حفظ البيرة. [caption id="attachment_166437" align="alignnone" width="700"] رسم للآلهة على زجاج[/caption] واللافت أن النساء السومريات قمن بتخمير بيرةٍ منخفضة الكحول للاحتفالات الدينية (بما في ذلك المراسم المخصصة لنينكاسي) وكذلك للاستهلاك اليومي.
في العديد من المجتمعات القديمة، كان يُنظر إلى البيرة وكأنها هدية من الفرح، والحب والسعادة الروحانية المرسلة من السماء، وفي المجتمعات السومرية والمصرية القديمة كانت عملية إعطاء هبة التخمير للبشرية تعزى للآلهة.
في مصر القديمة اعتبرت الآلهة حتحور "مخترعة الجعة"، وقد تم الربط بين حتحور والبيرة بالخصوبة، والسرور، والبهجة والموسيقى.وبحسب موقع beer and brewing شقت ثقافة البيرة طريقها من السومرية إلى مصر القديمة، فقد اعتبرت الآلهة حتحور "مخترعة الجعة"، وقد تم الربط بين حتحور والبيرة بالخصوبة، والسرور، والبهجة والموسيقى، واللافت أنه في ذلك الوقت كانت عملية التخمير جزءاً مهماً من الثقافة المصرية، لأن جميع شرائح المجتمع كانت تشرب البيرة بشكلٍ يومي، بدءاً من الفرعون وصولاً إلى الفلاحين الأكثر تواضعاً، بمعنى آخر كانت الجعة تدخل في صلب نسيج المجتمع وترافق الناس في يومياتهم واحتفالاتهم.
سلطة المرأة
"لقد غيّرت البيرة مسار التاريخ البشري، ليس مرة واحدة أو مرتين ولكن مراراً وتكراراً"، هذا ما جاء في مقدمة الفيلم الوثائقي How Beer Saved the World، إلا أن المنتجين تجاهلوا حقيقة أن "أعظم اختراع للجميع" جاء على يد النساء. على مدى قرونٍ، ارتبطت الجعة بشكلٍ جوهري بالنساء، وحين أصبحت البيرة منتجاً للبيع (على نطاقٍ ضيّق) بقيت المرأة في موقع المسؤولية. فقد ركزت الكاتبة "باتي هامريك"، وهي أستاذة في علم الأنثروبولوجيا، على قانون حمورابي كدليلٍ على السلطة التي كانت تحظى به المرأة في مجال البيرة:" اللغة البابلية أكاديان هي لغة ذات طابع جنساني، وفي كل مرة يتم فيها ذكر قانون لأي شيء له علاقة بالخمارة، يذكر مالك الحانة باستخدام كلمة "هي". في الواقع انتقلت صناعة البيرة من الدور الروحاني (مرافقة للمراسيم والاحتفالات الدينية) إلى ضرورة يومية لربات البيوت، بعد أن تحولت إلى عملٍ يحقق مكاسب مادية. فقد أشارت صحيفة الهافيغتون بوست إلى أن مفهوم alewife برز في القرن الخامس الميلادي تقريباً، إذ كانت المرأة تصنع كمياتٍ كبيرة من الجعة لعائلتها، فالمياه في المدن كانت غير صحية وتجلب معها الأمراض الفتّاكة، وكون عملية التخمير خلقت مشروباً معقماً وصحياً فقد اعتبرت البيرة خياراً أكثر أماناً للعائلات. ونظراً للفائض الكبير من الإنتاج، فإن المرأة كانت تشير إلى أنه لديها بيرة إضافية للبيع عن طريق وضع الخضار أو المكنسة على الباب، واللافت أن هؤلاء النساء كنً في بعض الأحيان يقفن في الزوايا للترويج للجعة من خلال ارتداء القبعات العالية كما أنهنّ يربين القطط لمطاردة الحشرات التي قد تأكل البذور. وكانت بعض النساء يقمن حتى بتجهيز حانةٍ داخل منازلهنّ.انتزاع المشروب من يد النساء
مع وضع قواعد وضوابط معيّنة متعلقة بكيفية تخمير الجعة، فإن صناعة البيرة انتقلت من يد النساء إلى يد الرجال وبات حجمها أكبر من قبل، وفق ما أكدته "باتي هاتريك":"عندما بدأ الناس بوضع قواعد لكيفية تخمير البيرة، باتت الجعة تستمر لفترةٍ أطول وأصبح بالإمكان صنع كمياتٍ أكبر في كل مرة وشحنها إلى مدنٍ وبلدان مختلفة".كل مرة يتم فيها ذكر قانون لأي شيء له علاقة بالخمارة، يذكر مالك الحانة باستخدام كلمة "هي"وعندما انتقلت البيرة من مجرّد كونها صناعة منزلية إلى تجارة ضخمة تقوم على الاستيراد والتصدير، فإن إنتاجها لم يعد حكراً على النساء، كما أن الثورة الصناعية عززت من كفاءة تخمير الجعة وشحنها إلى جميع أنحاء العالم، وهكذا بحلول فجر القرن العشرين بات إنتاج واستهلاك البيرة في يد الرجال. وتعليقاً على هذا الموضوع، قالت "تيري فاهرندوف" وهي من طليعة النساء اللواتي عملن في مجال تخمير البيرة في التاريخ الحديث ومؤسسة جمعية "Pink Boots" وهي منظمة موجهة للنساء في صناعة البيرة: "أصبحت الجعة معروفة بأنها مشروب الرجال لأنها مصنوعة من قبل الرجال"، مشيرةً إلى أن فريق العمل الذي كان موجوداً في وقتٍ سابقٍ في إنتاج البيرة قد رحل، وباتت للنساء صورة جديدة: رزينات وعذارى ومتزوجات، ثم فجأة لم يعد تناول البيرة أمراً أنثوياً. وبالرغم من انتقال الجعة من سلطة المرأة إلى سلطة الرجل، فإن بعض النساء لم يستسلمن لهذا الواقع الجديد، خاصة في ظل مبادراتٍ ومهرجاناتٍ عديدةٍ تهدف إلى إعادة تذكير الناس بفضل المرأة في صناعة البيرة وتغيير الصورة النمطية التقليدية المترسخة في الأذهان. وفي هذا الصدد، نظمت "غريس ويتز" في شهر أغسطس مهرجاناً للبيرة في نيويورك امتد على مدى أسبوع وحمل عنوان:" حوالى 1100 شخص يحتفلون بالنساء العاملات في البيرة". تكمن أهمية المهرجان في كونه يجمع النساء اللواتي يعشقن الجعة، ويعملن في هذا المجال، أو يرغبن في الانخراط في هذه الصناعة وذلك من أجل تغيير الصورة النمطية وإعادة الحق للنساء في ابتكار هذا المشروب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...