لدى "أم جهاد" كل الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والصحية لتُصنّف في خانة الضحية. لكن هذه المرأة الخمسينية النازحة مع زوجها وأولادها الستة من مخيم اليرموك إلى لبنان قررت التمرد على واقعها، أو ربما أن تكون نفسها، لتؤكد أن النساء يلعبن دوراً مفصلياً خلال الحرب.
نساء غيّرتهنّ ظروف الحرب
في منزلها المتواضع تستقبل "أم جهاد" زوّارها. بحماسة فيها الكثير من الفكاهة الممتزجة بمرارة عميقة، روت قصة "انتصارها" خلال النزوح. قالت لرصيف22: "منذ لحظة وصولنا إلى لبنان قبل عامين، مع ابن مصاب بإصابات بالغة في رأسه، وجدت نفسي وحيدة أتنقل بين المستشفيات لتطبيبه، أما زوجي فلم يتحمل أية مسؤولية. لم أكن أملك أجرة المواصلات أحياناً، وهو لم يهتم. كنت أطبخ وأنظف وأعتني بالأولاد وأبحث عن المساعدات، وهو يأكل وينام ويصدر الأوامر. بدايةً بحثت له عن عمل، لكنه رفض الخروج من المنزل فقررت أن أتولى إعالة أسرتي. ابنتي وأنا وجدنا عملاً مع جمعية للتطريز وحياكة الـ"كروشيه"، لم يكتف أبو جهاد بالمعارضة وترداد أن ليس لدينا نساء تعملن، بل أصبح يتفنن في طلباته كلما عدت إلى المنزل".
ترتشف أم جهاد القهوة وتتابع بانفعال: "صرت أعمل خارج المنزل وداخله، وأنا مريضة بالقلب، أما هو فبات متسلطاً وعنيفاً أكثر من ذي قبل، يريدني أن أكون في خدمته طوال الوقت ويستولي على راتبي في نهاية كل شهر، لم أعد أحتمل وهو لم يعد ينفعني. فطلقته".
بعد 28 عاماً من الزواج، حققت أم جهاد رغبة كانت تراودها في أحيان كثيرة، لكنها تجرأت على خطوة الانفصال بعدما نزعت عنها صفة "ست البيت" وتحولت إلى "معيلة الأسرة". لم تنته القصة هنا، عاد أبو جهاد ليرجوها تصحيح الوضع، والأولاد (الفتيات تحديداً) ضغطوا عليها، فامتثلت. لكن بشروطها. سعت لتسفيره إلى ألمانيا ونجحت في ذلك على أن يرسل في طلبهم لاحقاً. "أنا من قمت بتسفيره"، تقولها أم جهاد بثقة. "الأنا" باتت حاضرة بقوة في كلامها.
"أم جهاد" ليست المرأة الوحيدة التي غيّرت الحرب ظروفها. التقت رصيف22 بـ"منال" (اسم مستعار)، سيدة أربعينية هربت من الغوطة الشرقية مع زوجها وأولادها الثلاثة فيما بقي الرابع (15 عاماً) محاصراً هناك. لم تخرج يوماً من المنزل وحدها، فقد كانت "مدللة" زوجها الذي يكبرها بـ15 عاماً. "عندما ساء الوضع هنا، وتضاءلت موارد زوجي، قررت أن أعمل"، تقول مع ابتسامة ترتسم على شفتيها، ابتسامة تفسرها "منال" بأنها ناتجة عن إرباك تسببّه فكرة العمل التي لم تكن تجرؤ على استحضارها في حالة السلم. وتضيف: "زوجي عارض بشدة، وحاول إقناعي بأنني امرأة ولا يجوز أن أعمل، لكنني تجرأت وأصررت على قراري". وتستطرد: "في الحرب الكلمة للظروف وليست لزوجي، علماً أنني أحاول أن أتمم واجباتي المنزلية قبل ذهابي إلى العمل وبعد عودتي، فهو لا يساعدني بشيء حتى أنه ينسى إحضار ابنه (4 سنوات) من المدرسة".
لـ"أم أحمد" قصتها أيضاً. تركت سوريا هي وأولادها قبل عامين على أن يتبعهم الزوج لاحقاً. اليوم يتذرّع بالظروف الأمنية للبقاء حيث هو، لكنها تعلم أن ذلك ليس السبب. هو مرتاح لأنها تعمل ولا يريد أن يأتي ويتعب نفسه. تقول أم أحمد إن "البلد الغريب كما الغابة". أُجبرت على أن تكون قوية لكي تصمد، والأنكى أن زوجها بات يكرّر على مسمعها بأنها، بعدما بدأت بالعمل، أصبحت كالرجل وأضحى صوتها خشناً، ولم تعد تنفعه. بكلمات قليلة تسعفها بها بساطتها الشديدة تختصر "أم أحمد" مشكلة التنميط اللاحقة بمفهوم "الأنوثة" في مجتمعنا."الرجل يفهم الأنوثة بصوت بالكاد يسمع، أيدياً ناعمة وملمعة، وكيلو ماكياج على وجه المرأة (مساحيق تجميل). من أين لي هذا الترف"، تقول.
تمكين المرأة
كثيرات أجبرتهن ظروف الحرب والنزوح على الاضطلاع بأدوار مصنفة "غير تقليدية" كالعمل وإعالة الأسر، وهذا ما ولّد شعوراً بالحرية لدى بعضهن. وانعكس ذلك تغيراً في ديناميكية العلاقات التي تحكم المنزل كالحال مع "أم جهاد". في المقابل، تتمنى أخريات مثل "منال" أن تنتهي الحرب كي يعدن إلى "دائرة الأمان" في المنزل. برأيها، الواقع الجديد قد ظلمهن، "فالخروج من المطبخ إلى سوق العمل لم يتلازم مع تخفف من أعباء المنزل والأولاد أو حتى تبادل جزئي في المسؤوليات، بل على العكس فقد أفرط الأزواج في استخدام العنف".
تشرح مسؤولة في برنامج الحماية للنساء اللاجئات في جمعية "بسمة وزيتونة"، وتحفظت عن ذكر اسمها، لرصيف22 تجربتها مع حوالى 180 امرأة نازحة دخلن سوق العمل. في البداية، واجهت الجمعية صعوبة في إقناع هؤلاء النسوة بضرورة الاعتماد على أنفسهن، لكن الأمور تحسنت مع "نشوة" أول راتب حصلن عليه، وقد ترافق تمكينهنّ اقتصادياً مع تمكينهنّ اجتماعياً ونفسياً. وتعوّل الجمعية على أن ينقلن المفاهيم الجديدة إلى أولادهنّ، لا سيما الفتيات.
وتفخر المسؤولة بهذا "الانتصار" الذي تحققه النساء، ولا تغيب عنها الإشارة إلى تطور آليات المفاوضة على الحقوق داخل الأسرة. فتستحضر قصة المرأة التي اكتشفت بعد شهرين من العمل أن "زوجها ليس وحشاً". صحيح أنه ضربها بعد أول كلمة "لا" سمعها منها، لكنها باتت أكثر جرأة على المواجهة "حتى لو طلقها".
لا ينفي هذا الكلام ازدياد نسبة العنف داخل الأسر، لكن ذلك برأي المسؤولة، مرده إلى "الإحباط الذي يعيشه الرجل لعدم قدرته على الإنفاق والخوف من العيب الذي يحكم نظرة المجتمع إليه". يؤكد هذا الكلام تقرير أعدته مؤسسة "أبعاد" بالتعاون مع "أوكسفام" قبل عام ونصف العام تحت عنوان "أوضاع متحولة: تغيير أدوار النوع الاجتماعي بين اللاجئين واللاجئات". يربط التقرير إفراط الرجال في استخدام سلطتهم بتراجع "امتيازاتهم" داخل الأسرة مما يؤدي إلى "التعبير عن الذكورة بشكل سلبي".
قلق الرجل على موقعه
تفسر دنيز كانديوتي، الأستاذة الفخرية في جامعة لندن وصاحبة كتب متعددة في شؤون النسوية والعنف مثل "المحظيات والأخوات والمواطنات: الهوية والتحول الاجتماعي" و"الجنسانية في الشرق الأوسط"، ظاهرة استباحة النساء في الحروب داخل الأسر كما خارجها (التحرش والاغتصاب والسبي) بـ"أزمة تضرب المجتمع البطريركي/ الأبوي".
وفي مقال نشره موقع Open Democracy تحت عنوان "الخوف والغضب: المرأة وعنف ما بعد الثورة" تربط كانديوتي الإفراط في العنف بمحاولة "ترميم نظام الأبوية الذكوري". وتقول إن "المجتمع الذكوري المعتاد لا يعود آمناً كلياً، وهذا ما يتطلب مستويات عالية من الإكراه". فبرأيها، "لا يشير اللجوء إلى العنف (أو التغاضي عنه) إلى عمل المجتمع الذكوري الروتيني أو انبعاث التقاليد، بل إلى استشعار الرجل خطر فقدان مكانته".
إزاء استبسال المجتمع الذكوري العنفي في الدفاع عن مكتسباته، لا يؤدي تبدّل الأدوار التقليدية إلى تغير تلقائي في العادات والقيم التي تقوم عليها العلاقات بين الجنسين، وبطبيعة الحال لا تضمن المسؤوليات الإضافية الملقاة على عاتق النساء سلطة أكبر لهنّ. فالتغيير منوط بإدراك النساء وقدرتهن على إعادة التفاوض على الحقوق. وهنا تختلف الاستجابة من امرأة إلى أخرى وإن تشابهت الظروف.
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، يحتاج تمكين المرأة إلى مقاربة مغايرة لمفهوم "ضعف المرأة". وفي العام 2007، قامت اللجنة بمراجعة لـ"تقدير مفهوم التعرض للخطر ومعنى الضعف أمام الخطر" لتحسين أساليب تدخلها، وذلك في تقرير حمل عنوان "هل النساء أكثر ضعفاً أمام الأخطار من الرجال؟".
لاحظت المراجعة أن للنساء براعة ملحوظة وقدرة مذهلة على مواجهة الصعاب في الأدوار التي يضطلعن بها كمقاتلات وناشطات من أجل السلام، وأيضاً من خلال المهمات والمسؤوليات الملقاة على كاهلهن لحماية عائلاتهن ومؤازرتها في زمن الحرب، وكذلك في تأدية مهماتهن اليومية بصفتهن ربات منازل، ومصدر دخل للأسرة، ومسؤولات عن تقديم الرعاية لأفرادها، فضلاً عن مشاركتهن مشاركة نشطة في حياة مجتمعاتهن المحلية.
حرب المكتسبات تبدأ، وفق الأستاذة في العلوم الجندرية في جامعة لندن نادية العلي، من فهم واضح وغير مبسط، لخطورة الحرب على النساء كونها تقسم الجسم النسائي على نفسه تحت مسميات "نساؤنا" و"نساؤكم". وفي مقال نشرته في Open Democracy تحت عنوان "العنف الجنسي في العراق: كيفية فهمه ومواجهته"، تشير العلي إلى أن دور المرأة النموذجي، يتغيّر من ربة منزل إلى مقاتلة إلى عاملة وفق حاجات الرجل وضرورات السياسة.
نشر هذا المقال على الموقع في 07.03.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 8 ساعاترائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين