شكّل الاحتلال الأميركي للعراق المحور الذي تدور عنه جميع الروايات العراقية الصادرة في السنوات العشر الأخيرة إلا في استثناءات نادرة جداً، إذ انشغلت جميعها بتبيان الأثر العميق لما خلّفه هذا الاحتلال على البشر وعلى الحجر، وكيف غيّر مصائر، وبدّل أحوالاً، وأعاد طرح أسئلة قديمة جديدة حول الهوية والانتماء والعنف والاستبداد.
ورغم أن الثيمات والمواضيع التي تناقشها هذه الروايات هي نفسها، إلا أنها صارت تتمايز عن بعضها بالأسلوب، والحبكة، والتكنيك، وطريقة المعالجة، والزاوية التي اختار الكاتب النظر منها إلى الموضوع.
لا تبتعد رواية "مقتل بائع الكتب" للكاتب العراقي "سعد محمد رحيم" عن ذلك، فهي تحكي عن عراق ما بعد الاحتلال وكيف انتشر العنف والتطرف الديني فيها، وكيف صار الموت مجانياً والقتل بسيطاً، وذلك من خلال حبكة بوليسية.
يتصل شخص مجهول بالصحفي "ماجد بغدادي" عارضاً عليه مبلغاً مالياً ضخماً مقابل أن يقوم الأخير بتأليف كتاب يكشف فيه عن حياة بائع الكتب "محمود المرزوق" الذي قتل في الشارع لأسباب مجهولة.
"أعلمني الشيخ الغامض الذي رفض الكشف عن هويته عبر الموبايل أنه كان يعرف المرزوق جيداً، وأنهما اختلفا لأسباب سخيفة قبل أكثر من عشرين سنة. سألته عما يطلبه مني. قال: "أريدك أن تكتب كتاباً عنه وسأتكفل بنفقات نشره بطباعة راقية في بيروت". (...) شرح لي كيف أن حياة المرزوق غابة من الأسرار وعليّ الوصول إليها. وهي في النهاية تشكل دراما كبيرة، فيها بعد تراجيدي. "دراما تلخص تاريخاً عريضاً لجيلنا"، كما قال".
يقبل الصحافي بالمهمة، ويسافر إلى مدينة بعقوبة حيث كان يقيم بائع الكتب، وهناك يعقد صداقات مع معارف القتيل وأصدقائه، ويبدأ بجمع المعلومات عنه.
يوظف "سعد محمد رحيم" الحوار، والذكريات، والرسائل المتبادلة، والاتصالات الهاتفية، والصور الفوتوغرافية، ودفاتر اليوميات، في السرد، ويعطي للشخصيات التي عرفت "المرزوق" فرصةً للتعبير بلسانها وصوتها عن رأيها فيه وأفكارها عنه.
مجهول يعرض على صحافي مبلغا ضخما مقابل أن يؤلف كتابا يكشف أسرار بائع كتب قتل في الشارع. هكذا تُروى لنا العراق
رواية عن العراق بما فيها من تطرف ومن عنف اليوم، من خلال مغامرة الكشف عن أسرار حياة بائع كتب قتل في الشارعهكذا تتوضح شخصية بائع الكتب أمامنا وأمام الصحافي المكلّف بالكتاب، وتظهر فصول حياته المثيرة سواءً في العلاقات الغرامية التي عاشها، أو في تجربته السياسية التي يسلط الكاتب من خلالها الضوء على الملاحقة الأمنية التي طالت من ينتمون إلى أحزاب معارضة للحكم في فترة الستينيات. كما يلقي الكتاب الضوء على حادثة شهيرة جرت في العراق عام 1963 وتعرف باسم "قطار الموت"، إذ تمّ حشر جميع المعتقلين السياسيين آنذاك في عربات قطار مخصص لنقل البضائع والحيوانات وأغلقت عليهم الأبواب، وأوعز إلى السائق بأن يسير ببطء شديد، كي يختنق جميع من في القطار، ويتم القضاء على جميع المعارضين بضربة واحدة. عدم التزام السائق بهذه التعليمات جعلت قسماً كبيراً من الموجودين ينجون من موتٍ محتم فزجّت السلطة بهم في السجون. "كان قرارهم أن نموت.. وقررت في دخيلتي أن أحيا. قلت مهما حصل لن أموت ولا بدّ من أن أحكي عن هذا كله لامرأة ما، في يوم قادم بعيد، في مكان آخر. (...) أمر ضباط الانقلاب السائق الذي لا يعلم شيئاً عن طبيعة حمولته أن يسير ببطء شديد جنوباً إلى مدينة السماوة. في محطة في منتصف الطريق توقف القطار للاستراحة... يبدو أن رجلاً جاء وأخبر السائق بحقيقة حمولته البشرية، صعق السائق واتخذ قراراً في غاية الشجاعة أن ينطلق بالسرعة القصوى لينقذ حيواتنا". تتطرق الرواية أيضاً إلى الممارسات الأمنية في الأنظمة الشمولية عموماً، لتقول بأن هذه الممارسات هي نفسها في كل مكان، وأن الاستبداد له الأساليب نفسها والقمع نفسه، فيجري الكاتب نوعاً من التوازي بين ما تعرض له "المرزوق" في العراق، وما تعرضت له "ناتاشا" عشيقته الروسية التي التقاها في براغ. هي ابنة ضابط روسي تم تكليفه بمهمات استخباراتية في تشيكوسلوفاكيا، لكنه بعد ربيع براغ 1968 اتهم بالتآمر وبمعاداة الاشتراكية، واختفى في ظروف غامضة، ولم يكن ذلك كفيلاً بإنهاء الأمر بل لاحق الأمن هناك ابنته في ما بعد، وحققوا مع عشيقها العراقي، ثم أقنعوها أنه وشى بها كي يحصلوا على معلومات إضافية منها. تشكّل خسارة بائع الكتب لـ"ناتاشا" الفقد الأكبر في حياته، فهي الجرح المؤلم الذي لم يندمل رغم مرور السنوات وتعدد العلاقات، إنه ثمنٌ جديد دفعه للمستبد وللعنف، كما دفع أثماناً كثيرة من قبل، وسيدفع من بعد. يتّبع الكاتب في الرواية أسلوب اللايقين والبعثرة، فنحن لا نصل إلى يقين بشأن الشخصية المحورية في العمل، تتضارب حوله الآراء وتتباين، كل واحدٍ ممن يلتقيهم الصحفي أثناء إعداده للكتاب يحكي عن شخصية بائع الكتب من وجهة نظره، وبعضهم يفتت كل ما سبق أن عرفناه، ليقدّم وجهة نظر مختلفة تماماً، لتبقى حقيقة هذه الشخصية غامضة أمامنا رغم انكشاف سبب مقتله العجيب، ورغم معرفتنا – إذا دققنا في القراءة – من هو الشخص المجهول الذي أراد كتاباً يحكي عن صديقه وما هي دوافعه وراء ذلك. سعد محمد رحيم، كاتب عراقي من مواليد 1957. عمل في التدريس والصحافة، صدر له ست مجموعات قصصية وعدة كتب فكرية ونقدية، كما أصدر ثلاث روايات: "غسق الكراكي" التي فازت بجائزة الإبداع الروائي العراقي سنة 2000، و"ترنيمة امرأة، شفق البحر"، و"مقتل بائع الكتب" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2017. كما حصل على جائزة "كتارا" للرواية العربية لعام 2016 عن روايته غير المنشورة "ظلال جسد.. ضفاف الرغبة". الناشر: دار سطور/ بغداد عدد الصفحات: 222 الطبعة الأولى: 2016 يمكن شراء هذه الرواية منموقع النيل والفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...