تتخذ رواية "يوليانا" للكاتب العراقي نزار عبد الستار من واقع المسيحيين في العراق موضوعاً لها، إذ تدور أحداثها في أحد أديرة بلدة كرمليس في منطقة الموصل، والتغييرات التي طرأت على هذه البلدة وتحولاتها بالتوازي مع ما يحدث في العالم.
تبدأ أحداث الرواية عام 1929، حين يزور حارس الذخائر المقدسة تلك البلدة قادماً من روما، حاملاً معه عظمة حقيقية تعود لجسد القديسة بربارة لتوضع في القبر الذي تؤمن البلدة كلها أنه ضريح القديسة بربارة، وإلى جواره ضريح خادمتها "يوليانا". في ذلك اليوم يولد "ججو" لعائلة مصابة بمرض وراثي يخلق أفرادها مصابين بعاهة في العظام، وعلة في النطق، وقبح في الشكل، فيحمله والده لينال بركة حارس الذخائر المقدسة كي ينجو من هذا المصير المحتوم. "تواضع حارس الذخائر، ورفع يده بخفة ملائكية، إلا أن بنيامين ارتبك فجأة من خاطر أن هذا السماوي المترفّع على مشقة الفصول، الذي يخلو من روائح التبغ والبصل والثوم وعفن الفقر، ليست له علاقة أبداً برحمة الرب. وحين رأى الأصابع البيض تسم رأس الطفل وقلبه بشارة الصليب، تجلّت له المصائر، وعرف أن ابنه سيكون مثله تماماً، يعاني النحافة وفقر المرونة، وأنه حين يكبر ويمشي سيحرّك ذراعيه في الهواء على طريقة السباحة الحرة، وسيبدو من بعيد كطائر أعرج".
يكبر "ججو" حاملاً تشوّهه الشكلي المتوارث، ورغم أنه يخدم كنيسة القديسة بربارة بكل قلبه وجوارحه، فإن ذلك لن يشفع له أمام رؤساء الكنيسة، فيرفضون تنصيبه "شماساً"، رغم رؤيتهم لصلاحه وتقواه، فـ"الناس يحتاجون إلى رجل محترم وعاقل ينقل إليهم كلام الله". مع ذلك تتكرر ظهورات "يوليانا"، خادمة القديسة بربارة له، لكنّ لا أحد يصدقه في ذلك، بل يطلقون عليه لقب "القديس الأبله".
تنتقل الرواية بين عدة أزمنة من تاريخ العراق الحديث، مشيرةً إلى بعض الأحداث السياسية والتاريخية، راصدةً كيف وصلت رياح التحديث إلى تلك البلدة الصغيرة، مع وصول الأميركي "ساس" حاملاً خططه ومشاريعه لتطويرها، وما رافق ذلك من تحولات وتغيّرات، أثّرت على البنية الاجتماعية للناس، وعلى معتقداتهم وأفكارهم ونمط عيشهم.
التغيير سيطال "ججو" أيضاً، إذ يأخذه "أبلحد" إلى الموصل ويزوّجه من ابنته، فينجب منها ولدين، ويمضي بقية حياته يعمل خياطاً هناك. يرث ابنه "حنا" عاهته الجسدية، كما يرث بساطته وتمسّكه العميق بالمحبة، وسلوكه الفاضل. لكنه على عكس والده ينغمس أكثر في الحياة الدنيوية، يعمل لدى "ياسمين" العاهرة التي كانت صديقة طفولته، ويقع في غرامها بشكل طهراني.
بعد سنوات طويلة من التخبط والعذاب، والحيرة في أنه لا يشبه والده إلا في الشكل، فهو لا يرى يوليانا مثله، يذهب "حنا" في زيارة إلى كنيسة القديسة بربارة، وهناك تظهر له "يوليانا" للمرة الأولى، وترافقه إلى بيت "ياسمين" حين يعود، وهذا ما سيجعل المؤسسة الدينية تستنفر، محاولةً فهم ما يجري، ومحاولةً إعادة خادمة القديسة إلى قبرها، "من كل الأركان خرج صوتها: قم يا حنا، وتكلم معي. فتح عينيه على وهج أبيض فاختل توازنه وسقط على جنبه. قالت: لا تخف يا حنا... أنا يوليانا. تراجع الضوء مشكلاً فتاة من بياض مخلوط برذاذ الذهب. بانت ملامحها حين خرجت من هالتها. أمسكت بمعصمه وساعدته على النهوض. خفق قلبه بقوة وهو ينظر في عينيها الضيقتين. سألها: أهذا ما رأى ججو؟ ردت وهي تتراجع ملتصقة برخامة القبر: نعم يا حنا".
تناقش الرواية مفهوم الإيمان ومعناه، وتذهب إلى أن الإيمان هو المحبة، وأن الحب هو الذي يصنع المعجزات، فالقديسة "يوليانا" تظهر للأشخاص ذوي القلب الأبيض والأفعال الخيّرة، حتى لو كانوا مشوّهين شكلياً. كما تناقش الرواية عدة قضايا شائكة، بطريقة فلسفية، منها كيف تستحوذ المؤسسات الدينية على الله، وتستأثر به، وتجيّره وفقاً لمصالحها، ومنها أيضاً مفهوم العدالة الإلهية، ومفهوم الخير والشر، والخطيئة، ومن هو الإنسان الخاطئ.
يكتب "نزار عبد الستار" كل ذلك بأسلوب الواقعية السحرية، خالقاً العديد من الشخصيات الغريبة التي لكل منها حكايتها الفرعية التي تتقاطع مع الحكاية الأساسية، وتؤثر فيها، وينسج ببراعة التاريخ والأساطير في ثنايا السرد، صانعاً من كل ذلك لوحةً تخبرنا عن العراق بين الماضي والحاضر، وتحديداً عن المجتمع المسيحي فيه ومعتقداته وأسلوب حياته وتاريخه.
نزار عبد الستار قاص وروائي عراقي ولد في بغداد عام 1967. يعمل في الصحافة منذ عام 2003، إذ كان مدير تحرير جريدة المدى، كما أسس جريدة "تاتو" الثقافية. أصدر عدة مجموعات قصصية، منها: "المطر وغبار الخيول"، "رائحة السينما"، "بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء"، وثلاث روايات: "ليلة الملاك" التي نالت عام 1999 جائزة أفضل رواية عراقية عن اتحاد أدباء العراق، وجائزة الدولة للإبداع، "الأمريكان في بيتي"، و"يوليانا".
الناشر: نوفل - هاشيت أنطوان/ بيروت
عدد الصفحات: 256
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية من موقع نيل وفرات، أو من موقع متجر الكتب العربية جملون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين