في الرابع من نيسان/ أبريل من العام 970، بدأ القائد الفاطمي جوهر الصقلي بناء الجامع الأزهر في مصر، وقد جرى تسليط الضوء على فترات عديدة من تاريخ هذا الجامع الذي يتجاوز عمره الألف عام. ولكن فترته الأولى لم تحظَ بما تستحق من الاهتمام. فماذا عن الأزهر الفاطمي؟ وماذا عن أبرز رجالاته في ذلك العصر؟
في كتابه "دور الأزهر في السياسة المصرية" الصادر عن دار الهلال، يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي إنه بعد دخول الجيش الفاطمي مصر بقيادة جوهر الصقلي وإقامة العاصمة الجديدة "القاهرة" شُرع في إنشاء مسجد جامع فيها، واستغرق بناؤه عامين وثلاثة أشهر.
حمل هذا الجامع في البداية اسم جامع القاهرة، ولا يعرف أحد متى على وجه التحديد سُمّي بالأزهر، بل يختلف المؤرخون حول سبب التسمية. ففيما يعزو بعضهم السبب إلى نسبته لفاطمة الزهراء، ابنة النبي محمد، يقول آخرون إن المسجد أقيم في منطقة كانت تحمل اسم القصور الزاهرة ومنها اشتُق الاسم.
الدعاية المذهبية والسياسية
يقول علي في كتابه المذكور إن الحكمة كانت واضحة من إنشاء الأزهر، فقد كانت الدولة الفاطمية دولة الإمامة الشيعية الإسماعيلية، وكان الأزهر أول مسجد أقامه الشيعة في مصر، ومن ثم كان قيام الأزهر رمزاً لسيادة دعوة دينية جديدة كما كانت القاهرة المغزية رمزاً لظفر الدولة الجديدة، وقد بدأ التعليم في الأزهر شيعياً.
ويضيف أن الفاطميين جعلوا الأزهر مركزاً لدعايتهم السياسية. وأسندت رئاسة الدعوة الإسماعيلية في عهد الفاطميين إلى موظف كبير أطلق عليه لقب "داعي الدعاة"، وكان يلي قاضي القضاة في الرتبة ويرتدي زياً مثل زيه، وكثيراً ما كانت تُسند الوظيفتان إلى رجل واحد.
وكان داعي الدعاة يعقد المجالس ويحاضر في الرجال في الأزهر، بل كان يُعقد أحياناً في المكان مجلس خاص للنساء يسمى مجلس الدعوة يتلقين فيه أصول المذهب الشيعي الإسماعيلي.
مركز للمناسبات
كانت فكرة الإمامة عماد الدعوة الفاطمية وكان المعز لدين الله يحرص على أن يؤم الناس بنفسه في صلاة الجمعة وعيد الفطر وعيد الأضحى في الأزهر، وكان يخطب في هذا الجامع في جمع رمضان والأعياد.
ولم يكن الأزهر أيام الفاطميين جامعاً وجامعة فحسب بل مركزاً للكثير من المظاهر والمناسبات الرسمية الأخرى.
من ذلك أنه كان مركز المحتسب، وهو ثالث أهم المناصب الدينية بعد قاضي القضاة وداعي الدعاة، وعمله يتناول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قاعدة الحسبة.
ومن ذلك أيضاً أنه كان مركزاً للاحتفال الرسمي بالمولد النبوي. ففي الـ12 من شهر ربيع الأول يركب القاضي إلى الجامع الأزهر يرافقه حملة صواني الحلوى التي أعدت في قصر الخلافة لتفرق على الحاضرين في الجامع كقاضي القضاة وداعي الدعاة وقراء القرآن الذين يمكثون بعض الوقت في الأزهر قبل التوجه إلى قصر الخلافة.
وكانت ليالي الوقود، وهي التي تسبق أول ومنتصف شهري شعبان ورمضان، من أشهر المواسم التي اختصت بها الدولة الفاطمية، ففيها تضاء جميع المساجد بعد غروب الشمس فتبدو القاهرة في حلة من الأنوار ويخرج الناس إلى الجامع الأزهر الذي تضاء حافاته بالمشاعل، ويعقد في صحنه مجلس حافل من القضاة والعلماء برئاسة قاضي القضاة.
الأزهر كان أول مسجد أقامه الشيعة في مصر، ولكنها مرحلة لا يُسلَّط الضوء عليها كثيراً في تاريخه
وكان الشعب المصري يستقبل هذه المواسم بمظاهر الفرح والسرور إلا يوم عاشوراء، فقد كان يعتبر يوم حزن عام تعطل فيه الأسواق ويخرج المنشدون إلى الأزهر ليلقوا الأناشيد في رثاء الحسين. وفي نفس اليوم يقام سماط يسمى سماط الحزن في بهو بسيط، وكان يقدم عليه خبز الشعير والعدس والجبن ويحضره الخليفة ملثماً ومرتدياً الثياب القاتمة.
الأزهر ودار الحكمة
يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي إنه يبدو أن يعقوب بن كلس، وزير المعز لدين الله ثم وزير ولده العزيز من بعده، هو أول مَن فكر في اتخاذ الجامع الأزهر مهداً للدراسة المنظمة المستقرة. ففي العام 988 استأذن ابن كلس الخليفة العزيز بالله في أن يعيّن جماعة من الفقهاء للقراءة والدرس، يحضرون مجلسه ويلازمونه ويعقدون مجالسهم في الأزهر في كل يوم جمعة بعد الصلاة وحتى العصر.
وكان عدد هؤلاء الفقهاء 37 ورئيسهم الفقيه أبو يعقوب وقد رتب لهم العزيز أرزاقاً ومخصصات شهرية وأنشأ لهم داراً للسكن بجوار الأزهر الذي كان التعليم على المذهب الشيعي الإسماعيلي سائداً فيه.
التعليم على المذهب الشيعي الإسماعيلي كان سائداً في مصر، ومن أبرز مراكزه حينها جامع الأزهر
وتراجعت مذهبية الأزهر عندما أقام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله دار الحكمة عام 1005. وأطلق الحاكم هذه التسمية لأنها رمز الدعوة الشيعية، فمجالس الدعوة كانت تسمى مجالس الحكمة.
وزود الحاكم هذه الدار بمكتبة عرفت باسم دار العلم وحوت الكثير من الكتب في سائر العلوم والآداب من فقه ونحو ولغة وكيمياء وطب، وسمح لسائر الناس بالتردد عليها.
وعملت هذه الجامعة على نشر المذهب الشيعي بطريقة علمية منظمة وأسندت نظارتها لداعي الدعاة شخصياً. وقد سحبت الجامعة الجديدة البساط كثيراً من تحت أقدام جامعة الأزهر كمنبر للدعاية للمذهب الشيعي.
أعلام الأزهر الفاطمي
يقول كتاب "دور الأزهر في السياسة المصرية" إنه في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 975، أي في أواخر عهد المعز لدين الله، جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيرواني في الجامع الأزهر وقرأ مختصر أبيه في فقه الشيعة، والمسمى بكتاب "الاختصار"، في جمع حافل من العلماء والكبراء.
وكانت هذه أول حلقات الدرس في الجامع الأزهر ثم توالت حلقات بني النعمان الذين كانوا من أكابر علماء المغرب الذين اصطفتهم الدولة الفاطمية وجعلتهم دعامتها وألسنتها الروحية.
وفي العام 980، جلس الوزير يعقوب بن كلس في الجامع الأزهر وقرأ على الناس رسالة وضعها في الفقه الشيعي على المذهب الإسماعيلي وتسمى الرسالة الوزيرية وكان على القضاة الاعتماد على هذا الكتاب في ما يصدرونه من أحكام وكان على الطلبة والأساتذة أن يتدارسوه في ما بينهم.
وكان يفد على ابن كلس الفقهاء والقضاة وأكابر رجال الدولة وكان يعقد مجلسه مرة في الجامع الأزهر، ومرة أخرى في قصره، وكان الشعراء يتقدمون في آخر الاجتماع فينشدون مدائحهم.
معظم أهل العلم في ذلك الوقت كانوا من طبقة الفقهاء التي تضم القضاة، وأصبحت المساجد مراكز ثقافية يقصدها العلماء والأدباء وخاصة فقهاء المذهب الشيعي.
يقول محمد عبد الله عنان في كتابه "تاريخ الجامع الأزهر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2012 إن من أقطاب هذه المرحلة الحوفي النحوي اللغوي، وهو أبو الحسن علي بن إبراهيم ابن سعيد وكان من أئمة اللغة في عصره، وأبو العباس أحمد بن علي بن هاشم المصري، وكان من كبار المحدثين والمقرئين، واشتهر بتدريس علم القراءات.
ويضيف أن منهم أيضاً ابن بايشاذ النحوي الشهير، وهو أبو الحسن طاهر بن أحمد المصري، وكان إمام عصره في اللغة والنحو، وألف فيهما عدة تصانيف ضخمة، واشتغل حيناً بديوان الإنشاء في عهد المستنصر بالله، ومنهم أيضاً أبو عبد الله محمد بن بركات النحوي، وكان أيضاً من أئمة اللغة والنحو.
ومن الأعلام أيضاً الفقيه العلامة الحسن بن الخطير الفارسي، وكان من أقطاب الفقه الحنفي والتفسير، وكان أيضاً عارفاً بالرياضة والطب وعلوم اللغة والتاريخ، وله عدة منشورات في التفسير والفقه، واشتغل زمناً طويلاً بالتدريس في الأزهر.
دور الأزهر
كان للأزهر أثره في توجيه الحركة الفكرية المصرية في العصر الفاطمي، بحسب محمد عبد الله عنان، في كتابه "تاريخ الجامع الأزهر"، لا سيما أنه كان موضع الرعاية الرسمية. لكن هذا الأثر كان محدوداً، خصوصاً عند قيام دار الحكمة، جامعة الدولة الرسمية، وتبوئها مقام الزعامة في توجيه الحركة الفكرية.
ويشير عنان إلى أن أثر الأزهر كان أقوى في نشر العلوم الدينية، وتخريج علماء الدين، لأنه كان موئل الثقافة الدينية، بينما كانت دار الحكمة موئل الثقافة المدنية. وعلى أي حال، فإن مؤرخ الآداب العربية لا يسعه إلا أن ينوه بما كان للأزهر من أثر في سير الحركة العلمية والأدبية أيام الدولة الفاطمية، وإنْ كان هذا الأثر لم يبلغ يومئذ ما بلغه في ما بعد من الأهمية.
فأثر الأزهر في توجيه الحياة العامة في تلك المرحلة لم يكن عظيماً، لأن الدولة الفاطمية كانت تحرص على سلطانها السياسي، ولا تفسح المجال لنفوذ علماء ورجال الدين، ولم تكن عنايتها بنشر دعوتها الدينية إلا توطيداً لدعوتها السياسية.
نهاية الأزهر الفاطمي
في العام 1169، وضع صلاح الدين الأيوبي نهاية للدولة الفاطمية واستقل بمصر ودعا للخليفة العباسي، وبادر الأيوبيون إلى إزالة كل مظاهر التشيع فتوقفت الخطبة وصلاة الجمعة في الأزهر وحل محله جامع الحاكم.
وفقد الأزهر مظهره الرسمي في الدولة الجديدة ولم يعد يتمتع بمباهج ليالي الوقود والمولد النبوي وغيرهما من المناسبات. وبدأت الحركة العلمية فيه تصاب بالركود والخمول لأن الدولة الجديدة أنشأت حوله مدارس تنافسه في رسالته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.