شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مصّرتْهم أم فطّموها؟... عن الاحتفالات التي دخلت روزنامة المصريين بعد الفاطميين

مصّرتْهم أم فطّموها؟... عن الاحتفالات التي دخلت روزنامة المصريين بعد الفاطميين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الجمعة 14 أكتوبر 202203:57 م

تنتشر في مصر العديد من الاحتفالات والتقاليد الشعبية التي ارتبطت بالمناسبات والأعياد الدينية. يؤكد الكثير من الباحثين أن تلك العادات قد ظهرت للمرة الأولى في العصر الفاطمي، وأن خلفاء الدولة الفاطمية قد استحدثوا تلك العادات للتقرب من العامة المخالفين لهم في المذهب. على الجهة المقابلة، يوجد رأي آخر ويذهب أصحابه إلى أن الفاطميين هم الذين تأثروا بالتقاليد الشعبية المصرية القديمة، وأن الاحتفالات الفاطمية الشعبية في مصر لم تكن إلا إعادة تشكّلٍ لعادات وتقاليد مصرية موغلة في القدم.

الفاطميون... من المهدية إلى القاهرة

توفي الإمام جعفر الصادق سنة 148هـ. كان الصادق هو سادس أئمة أهل البيت بحسب المعتقد الشيعي الإمامي. وقعت مشكلة بين الشيعة عقب وفاته، اختار البعض أن يبايع موسى الكاظم بن جعفر بالإمامة، فيما ذهب البعض الآخر إلى إمامة إسماعيل بن جعفر. عُرف الفريق الأول باسم الموسوية أو الكاظمية أو الإمامية الاثني عشرية، أما الفريق الثاني فقد سُمي باسم الإسماعيلية.

بحسب ما تذكر المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال ما أورده محمد بن جرير الطبري (المتوفى 310هـ) في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" (1384هـ)، فإن الإمام محمد بن إسماعيل بن جعفر قد هرب من ملاحقة السلطات العباسية، وأخفى أمره ليدخل مع أبنائه في المرحلة التي تُعرف بدور السِّتر. أقام أئمة الإسماعيلية في تلك المرحلة في مدينة السلمية في سوريا، وعملوا على نشر أفكارهم في شتى البلدان والأقاليم من خلال بث الدعاة والعلماء. في أواخر القرن الثالث الهجري، ذهب أبو عبد الله الشيعي -وهو أحد هؤلاء الدعاة- إلى المغرب، ونجح في نشر الدعوة الإسماعيلية في قبيلة كتامة البربرية، وبعدها أرسل إلى الإمام عُبيد الله المهدي يطلب منه القدوم عليه. بالفعل غادر المهدي سوريا ووصل إلى المغرب وأسس الدولة الفاطمية سنة 297هـ.

يعتقد الكثير من الباحثين أن الفاطميين قد أثروا كثيراً في الثقافة والعادات والتقاليد المصرية، وأن عهدهم كان عهداً فارقاً في تاريخ مصر الإسلامية، خصوصاً وأن الديار المصرية في تلك الفترة قد شهدت احتفالاتٍ جديدةً لم تُعرف من قبل

عقب وفاة المهدي، تعاقب الخليفتان القائم بأمر الله والمنصور بنصر الله، على كرسي الخلافة الفاطمية في المهدية. حاول الخليفتان أن يمدّا سلطانهما إلى الديار المصرية، ولكنهما فشلا في تحقيق هذا الحلم. في سنة 358هـ تمكن الفاطميون أخيراً من الاستيلاء على مصر في عهد الخليفة المعز لدين الله. في 362هـ انتقل المعز إلى مصر، وأقام في مدينة القاهرة، واتخذها عاصمةً لحُكمِه. بذلك وقع التمايز بين طورين من أطوار الحكم الفاطمي. كان الطور الأول طوراً مغربياً حكَم فيه الخلفاءُ من عاصمتهم في المهدية، واستمر لفترة تزيد عن العقود الستة بقليل. أما الطور الثاني، فقد كان طوراً مصرياً خالصاً، حكم فيه الفاطميون إمبراطوريتهم الواسعة من القاهرة، وتعاقب أئمتُهم على كرسي الخلافة لما يزيد عن القرنين.

الرأي الشائع: الفاطميون أثروا في مصر

يعتقد الكثير من الباحثين أن الفاطميين قد أثروا كثيراً في الثقافة والعادات والتقاليد المصرية، وأن عهدهم كان عهداً فارقاً في تاريخ مصر الإسلامية، خصوصاً وأن الديار المصرية في تلك الفترة قد شهدت احتفالات جديدة لم تُعرف من قبل في عهود الدول التي حكمت مصر من قبل كالإخشيديين والطولونيين على سبيل المثال.

يستدلّ هؤلاء الباحثون بأن الفاطميين قد تفننوا في تجميل القاهرة، وأنهم قد برعوا في بناءِ القصور والمباني العظيمة في عاصمتهم الجديدة؛ الأمر الذي يدلّ على تأثيرهم الحضاري الكبير. على سبيل المثال، يتحدث المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي (المتوفى 845هـ) في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1418هـ) عن النهضة العمرانية التي قام بها الخلفاء الفاطميون في القاهرة، فيقول: "كان للخلفاء الفاطميين بالقاهرة وظواهرها قصور ومناظر، منها: القصر الكبير الشرقيِّ الذي وضعه القائد جوهر عندما أناخ في موضع القاهرة، ومنها: القصر الصغير الغربيّ، والقصر اليافعيّ، وقصر الذهب، وقصر الأقيال، وقصر الظفر، وقصر الشجرة، وقصر الشوك، وقصر الزمرّد، وقصر النسيم، وقصر الحريم، وقصر البحر".

"كأنما كان الفاطميون أهلَ تفاريح فأرادوا أن يجعلوا من أيام المصريين سلسلةً متصلة من الاحتفالات والأعياد... فإليهم ترجع ظاهرة الاحتفال بالمناسبات الدينية مثل ذكرى المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان"

في سياق آخر، يحكي المقريزي عن الأعياد الكثيرة التي عرفها المجتمع المصري في العصر الفاطمي، فيقول: "كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعيادٌ ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه".

في كتابه المشهور "الفاطمية: دولة التفاريح والتباريح" (2009) يوضح الكاتب المصري جمال بدوي الآثارَ الحضارية التي خلفها الفاطميون في مصر، تلك التي بقيت كطابعٍ لا يُمحى حتى اللحظة، فيقول: "كأنما كان الفاطميون أهل تفاريح فأرادوا أن يجعلوا من أيام المصريين سلسلة متصلة من الاحتفالات والأعياد... فإليهم ترجع ظاهرة الاحتفال بالمناسبات الدينية مثل ذكرى المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وكان المصريون قبل الغزو الفاطمي، مثل سائر الشعوب الإسلامية لا يقيمون لهذه المناسبات طقوساً أو مهرجانات... وإذا احتفلوا بها ففي إطار الوقار الذي تفرضه طبيعة المناسبة الدينية مثل تلاوة القرآن أو ترديد الأدعية، فلما جاء الفاطميون جعلوا منها فرصة للتفاريح وخرجوا بها من المسجد إلى الشارع، واصطنعوا لكل مناسبة نوعاً خاصاً من الحلوى".

في هذا السياق، يذكر الباحثون قصة الفانوس الذي استُقبل به الخليفة المعز لدين الله لمّا قدم للمرة الأولى إلى مصر، وقصة عروس المولد التي استلهم المصريون صورتها من هيئة زوجة الخليفة الحاكم بأمر الله، والتي كان يصطحبها معه أحياناً عند خروجه من القصر. يرى الفريق المؤيد لذلك الرأي أن الفاطميين استحدثوا جميع تلك الاحتفالات والتقاليد والشعائر بهدف الحفاظ على ملكهم ونفوذهم، وأن المعتقدات الشيعية الإسماعيلية قد وجدت طريقها إلى الظهور والتجلي من خلال الحكم الفاطمي، ولذلك لم يكن من الغريب أن نجد المصريين -السُنّة- يحتفلون بالعديد من المناسبات الشيعية الإمامية كعيد الغدير -والذي يحتفل به الشيعة لكونه ذكرى تنصيب وإمامة علي بن أبي طالب في غدير خُم- وموالد الأئمة، والمولد النبوي، ومولد فاطمة الزهراء، فضلاً عن إظهار شعائر الحزن التي أقامها الفاطميون في شهري محرم وصفر في ذكرى مذبحة كربلاء الدامية سنة 61هـ.

ببساطة، يدعي أنصار ذلك الرأي أن الفاطميين أثروا بشكل جوهري في الثقافة المصرية، وأن المصريين لا يزالون حتى اليوم غير قادرين على الإفلات من الذهنية الفاطمية التي شكلت مزيجاً متمايزاً من الطقوس والعادات التي اختلط فيها الديني والدنيوي، والتي تقاطع فيها السياسي مع الاجتماعي.

الرأي الأخر: مصر هي التي أثرت في الفاطميين

يوجد رأي أخر مخالف للطرح السابق؛ يتمثل هذا الرأي في القول بأن الفاطميين لم يشكلوا الحضارةَ المصرية، ولم ينجحوا في التأثير عليها بل إنهم -الفاطميين- في حقيقة الأمر هم الذين تأثروا بتلك الحضارة، فمصّرتهم وشكلّتهم كيفما شاءت، إن جاز هذا التعبير.

يسأل أصحاب هذا الرأي السؤال الأول: لماذا لم تظهر الأعياد والتقاليد والشعائر الفاطمية-المصرية في الحقبة الفاطمية المغربية؟ إن كان السبب في تلك الأعياد يعود إلى الفاطميين أنفسهم، فقد كان من الواجب أن نجد الكثير من تلك الاحتفالات قد وقعت إبان العقود الستة التي قضاها الفاطميون في بلاد المغرب. عدم وجود أي من تلك الطقوس في تلك الحقبة يؤكد على أن تلك الطقوس كانت مرتبطةً بمصر، وليس بالفاطميين. إذا ما رجعنا للتاريخ المصري القديم سنجد أن مفردات الطقوس والاحتفالات الفاطمية كانت موجودة وقائمة بالفعل. وكل ما فعله الفاطميون أنهم نفضوا التراب عن تلك المفردات، وأتاحوا لها الفرصة ليُعاد تشكلها وفق السياقات التاريخية المستجدة.

يوجد رأي آخر يقول إن الفاطميين لم يشكلوا الحضارة المصرية، ولم ينجحوا في التأثير عليها، بل إنهم في حقيقة الأمر هم الذين تأثروا بتلك الحضارة فمصّرتْهم 

على سبيل المثال، يرى البعض أن "عروس المولد" التي صُنعت في العصر الفاطمي وانتشرت بين العامة، لم تكن أمراً جديداً عن الثقافة المصرية الجمعية. كان المصريون منذ القدم يصنعون العرائس الخشبية. وتذكر الباحثة المصرية دينا محمد ماجد في بحثها المعنون "العروسة في الموروث الشعبي" أن العروسة كان لها حضور مهم في الوجدان القبطي الشعبي، والذي سبق دخول الإسلام إلى مصر بقُرون؛ مثلًا عرف المصريون "عروسة أحد السعف"، وكانت تُصنع في بداية أسبوع الآلام. وعرفوا "عروسة الخماسين" و"شمّ النسيم"، وكان من المُعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة.

كذلك عرفوا "عروسة القمح"، والتي كانت تُصنع في شهر آذار/مارس من كلِّ عام. في السياق نفسه، اعتاد المصريون على عمل التماثيل على هيئة الفارس الذي يمتطي الحصان، وكان هذا التمثال يرمز للإله حورس في الديانة المصرية القديمة، وتَغيَّر شكلُه قليلاً في الثقافة القبطية ليتحول إلى القديس البطل مار جرجس الروماني. وفي الحقبة الفاطمية بقيت فكرة البطل حاضرةً من خلال التمثال، ولكن تغيرت شخصية الفارس إلى علي بن أبي طالب أو الخليفة الفاطمي.

تظهر الفكرة نفسها في مسألة الاحتفاء بالأولياء وآل البيت في الحقبة الفاطمية؛ كان الفاطميون -باعتبارهم من الشيعة- يقدرون الأولياء والأئمة، ولا سيما أفراد البيت النبوي الذين تعرضوا للتشريد والاضطهاد. عمل الفاطميون على إظهار التقديس والاحترام لتلك الشخصيات المعظمة، فأقاموا لهم المراقد وبنوا المساجد فوق رفاتهم. هذا التقليد لم يكن غريباً على المصريين.

المصريون عرفوا فكرة تقديس جثامين الموتى منذ العصور الغابرة؛ بنوا الأهرامات كمقابر ومدافن لملوكهم وعظمائهم. ولمّا انتشرت المسيحية فيما بينهم أظهروا الاحترام والتبجيل للقديسين والشهداء الذين دافعوا عن إيمانهم بدمائهم. من هنا لم يكن من الغريب أن تنتشر عادة الاحتفاء بآل البيت في مصر. كان المصريون مستعدين لذلك الاحتفاء لذلك رحبوا برموز الفاطميين، خصوصاً أنهم -الفاطميين- قد أظهروا قدراً كبيراً من التسامح.

أعلن الفاطميون عن الأعياد والمناسبات الخاصة بهم كشيعة، وبالمقابل عمل المصريون على الاحتفال بطريقتهم بعدما أضافوا المناسبات الجديدة إلى الروزنامة الخاصة بهم

من هنا سنجد أن المُتخيل الشعبي المصري الذي رحب منذ آلاف السنين بقصة إيزيس المُحبة لابنها حورس والوفية لزوجها أوزير، والذي فتح ذراعيه في العصر القبطي بمريم العذراء التي أتت من فلسطين حاملةً ابنها الرضيع، هو نفس المُتخيل الذي سيروج لفكرة احتضان مصر للسيدة زينب التي قدمت مع ابن أخيها علي زين العابدين إلى مصر عقب مذبحة كربلاء، وذلك رغم عدم وجود أي سند تاريخي قوي يدعم تلك القصة.

الأمر ذاته ينطبق على فكرة الاحتفالات والأعياد التي ترتبط بنوعيات معينة من الطعام والشراب. يذكر الدكتور سليم حسن في موسوعة مصر القديمة أن المصريين احتفلوا منذ آلاف السنين بعيد الإله "مين"، وعيد زيارة الإله "آمون" لمعبد الأقصر، وعيد الإله "حابي"، وعيد "شمو" (شم النسيم) الذي اعتاد فيه المصريون على أكل السمك المُملح والبيض. في العصر القبطي تم تقييد تلك الأعياد بمناسبات الصوم المسيحي على مدار السنة؛ على سبيل المثال اشتهرت عادة أكل القلقاس والقصب في عيد الغطاس، واشتهر تناول الفريك والكشك في أعياد الميلاد المجيد.

لم يكن التغيير كبيراً في العصر الفاطمي. أعلن الفاطميون عن الأعياد والمناسبات الخاصة بهم كشيعة -كالغدير وذكرى عاشوراء ومولد النبي- وبالمقابل عمل المصريون على الاحتفال بطريقتهم بعدما أضافوا المناسبات الجديدة إلى الروزنامة الخاصة بهم. كانت الحضارة المصرية قادرةً إذاً على هضم كل ما هو جديد طارئ عليها، كما أنها قد أوتيت القدرة على تمصير كل تلك الاحتفالات وعلى تطويعها لتصبح مصرية خالصة، ويفسر ذلك لنا أن تلك الاحتفالات والشعائر بقيت في مصر على مرِّ القرون. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image