في أكثر من مرحلة من عمر الدولة الفاطميّة، أدّت المرأة دوراً محورياً في انتقال السلطة، وفي بعض الأوقات كانت هي من تدير الدولة بالكامل، وهنا يمكننا ذكر دور "سِت المُلك"، التي أدارت الدولة في فترة الانتقاليّة بين موت الخليفة الحاكم بأمر الله، وتولّي ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، ودور أمّ الخليفة المستنصر التي كانت هي الحاكم الفعلي للبلاد، حين تولّى ابنها الخلافة وهو طفل، حسبما تجمع المصادر التاريخيّة.
في أكثر من مرحلة من عمر الدولة الفاطمية، أدّت نساء دوراً محورياً في انتقال السلطة، وفي أوقات كانت رعاية الفنون والعمارة، وغيرها من شؤون الدولة ضمن صلاحياتهنّ.
ربما يعبّر ذلك عن مكانةٍ رفيعةٍ للنساء في الدولة التي اشتُقَّ اسمها من اسم سيّدة هي فاطمة الزهراء بنت النبي محمّد، مكانة تجاوزت ما هو سياسي إلى ما هو روحي، بل مزجت السياسي بالروحي، وهو ما تبنّاه أستاذ الفن الإسلامي بكلية بوسطن الأمريكيّة جوناثان بلوم J. M. Bloom الذي ربط بدايات الحكم الفاطمي في مصر واكتسابه شعبية، بالترويج لتقوى المرأة الفاطميّة، بحسب كتابه "مسجد القرافة".
وجهة نظر بلوم تقوم على محورين، أوّلهما استدعاء أسماء وأرواح نساء آل بيت النبي الشهيرات الراحلات، وإظهار الارتباط بهنّ، بإقامة أضرحة لهن حتى لو كانت وهميّة، أما المحور الثاني فيقوم على الفعل المباشر من النساء الفاطميّات أنفسهن.
قبور نساء آل البيت
يشير بلوم إلى ظهور عدد كبير من شواهد القبور في القرن العاشر في مصر، لنساء آل البيت اللائي حظين بقدسية لدى الشيعة الإسماعيلية (الفاطميين)، وبتبجيل كبير أيضا لدى السُنة المصريين، لافتاً إلى أن الكثير من ممارسات الشيعة الإسماعيليّة تتمحور حول القبور.
ويوضح الدكتور أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ المتخصص في الدراسات الإسماعيلية، في كتابه الشهير "الدولة الفاطمية في مصر: تفسير جديد"، أن مصر لم تعرف المساجد التي تحتوي على أضرحة إلا في عهد الفاطميين، سواء التي تضم جسماناً مدفوناً بها، أو تلك التي كانت مجرد أضرحة رمزية (وهي الأغلب)، أو ما عرفت بـ"مشاهد الرؤيا"، حيث يُبنى مسجد ويقام به ضريح لشخص لم يدفن به، ومع ذلك يتوجه إليه الناس ويطلبون البركة.
ما هو سبب إنشاء عدد من المساجد في مصر باسم نساء من آل البيت؟ كـ"السيدة سكينة بنت الحسين بن علي، السيدة رقية بنت الإمام علي الرضا، السيدة عاتكة عمة النبي محمد"، وهي نماذج لمشاهد أو أضرحة رمزية
واللافت في الأمثلة التي ذكرها فؤاد سيد، وهي بالفعل موجودة بالقاهرة إلى اليوم، إنشاء عدد من المساجد باسم نساء من آل البيت، كالسيدة سكينة بنت الحسين بن علي، السيّدة رقية بنت الإمام علي الرضا والسيّدة عاتكة عمّة النبي محمّد"، وهي نماذج لمشاهد أو أضرحة رمزيّة، بالإضافة للأضرحة الحقيقيّة، وتلك التي أُعيد إحياؤها، كضريح السيّدة نفيسة بنت الحسن، حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب، المدفونة به منذ بداية القرن الثالث الهجري، قبل قيام الدولة الفاطميّة نفسها، حيث أنشأ الفاطميون قبّة على الضريح، ومسجداً لازال قائماً في القاهرة إلى الآن، بل من أشهر مساجدها.
المباني والأوقاف
وبجانب تلك المساجد التي عزّزت من موقع نساء آل البيت الشهيرات في مصر، كان للنساء الفاطميّات أنفسهن باعٌ في وقف أملاكهنّ على مساجد ومرافق عامة لخدمة الناس، وكانت تلك الأوقاف وهذه الأعمال تقام بأسمائهنّ، لا باسم الدولة أو باسم الخليفة، وبرعايتهن المباشرة.
ففي 363هـ/ 973-974م، عندما أصبح العزيز بالله وليّاً للعهد، بَنَتْ والدته "دورزان" وتسمّى أيضاً تغريد، زوجة المعزّ لدين الله الفاطمي، ما يُعرف بـ"منازل العزّ،" التي كانت تطلّ على النيل (بعيداً عن القاهرة، التي لم تكن تطلّ على النيل في هذا الوقت)، وهي منتجع كان يتنزّه فيه الخلفاء والأسرة الحاكمة، وصارت بعد ذلك مدرسة للفقه الشافعي في العصر الأيوبي، بحسب المقريزي.
أما العمل الأهمّ لـدورزان فهو بناء "مسجد القرافة"، أو ما عرف بعد ذلك بـ"مسجد الأولياء"، وكان يحاكي الجامع الأزهر حين أُنشئ، ضخم البناء، له 14 باباً، مبهر في تصميمه وزخرفته بالأحجار الكريمة والألوان المبهجة، كما يروي المؤرّخ الفاطمي سلامة القضاعي في تاريخه.
وتبعت دورزان ابنتها "ست المُلك" عام 977م، وأنشأت حوضاً للمياه بجوار مسجد القرافة.
كما رصدت أستاذة التاريخ الأمريكيّة، مارينا روستو Marina Rustow في دراسة بعنوان: " A petition to a woman at the Fatimid court - التماسٌ إلى امرأة في قصر الحكم الفاطمي"، أن "ست المُلك" حفيدة دورزان، وأخت الحاكم بأمر الله، سارت على نفس التقليد في بناء المرافق العامة، وكانت توقف أموالها على بناء مساجد ومبانٍ عامّة، ولكن لا توجد مبانٍ تحمل اسمها قائمة الآن لعدّة احتمالات، منها الدمار الذي طال أجزاء كبيرة من الآثار الفاطميّة في فترات تاريخيّة لاحقة، ومنها على سبيل المثال قصر الخلافة نفسه، الذي انمحى أثره وأقيمت على أطلاله بنايات متعدّدة، بدءاً من العصر الأيوبي وما تلاه.
كذلك بَنَتْ رَصَد أم الحليفة المستنصر حوضاً آخر للمياه بالقرب من القرافة، كما يذكر جوناثان بلوم.
وربما يرجع سبب إنشاء أحواض كثيرة للمياه في منطقة القرافة، أنها كانت ذات طبيعة صحراويّة، ففي ظهرها مباشرة هضبة المقطّم القاحلة، وكانت المنطقة ولازالت تحتوي على مقابر شهيرة، ولكنها في الوقت ذاته شهدت عمراناً كبيراً في الدولة الفاطميّة وأبنية متعدّدة، استدعت إنشاء الأحواض والصهاريج للشرب والنظافة.
وعن هذا المعنى قال فيها المؤرّخ الشهير تقي الدين المقريزي شعراً، ذكره في "خططه":
إنّ القرافَةَ قد حوت ضدينِ من ... دنيا وأخرى فهي نِعمَ المنزلُ
يغشى الخليعُ بها السماعَ مواصلاً ... ويطوفُ حولَ قبورها المتبتّلُ
صورة المقال، خريطة من مخطوطة لـ"عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، من مقتنيات جامعة أوكسفورد (رابط).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم