من الصعب على المتأمل أن يصدق أن هذا الشارع المزدحم بالسيارات ومحالّ الأجهزة الكهربائية، كان يوماً «البوليفار» (حي المسرح في باريس)، أو شارع الفن في وسط العاصمة المصرية القاهرة.
إنه شارع «عماد الدين»، الذي لم يتبقَ من تاريخه سوى بعض الأطلال كواجهات ودور العرض السينمائي والمسارح المتهالكة، إلى جانب أسماء بعض الفنانين التي أطلقت على بعض الشوارع المتفرعة من شارع عماد الدين.
أنشأ الخديوي إسماعيل، شارع عماد الدين، في قلب المدينة التي كانت معروفة آنذاك بـ«القاهرة الخديوية»، على غرار شارع «برودواي» في نيويورك، وحي «وست إند» في لندن، وحي «البوليفار» في العاصمة الفرنسية باريس. ويمتد شارع عماد الدين على مسافة 2.5 كلم، يبدأ من شارع رمسيس شمالاً، ويستمر جنوباً في منطقة عابدين، ثم يواصل استمراره من خلال ميدان الأزبكية وميدان مصطفى كامل. كما يسمى الجزء الجنوبي من الشارع «محمد فريد»، نسبة إلى الكاتب الشهير المدافع عن الاستقلال والذي توفي عام 1919.
كان شارع عماد الدين، مركزاً لإشعاع النشاط الفني، وكان هذا المركز مقصداً للجمهور، والمتنزه الثقافي للعاصمة المصرية. وكان في شارع الفن نهضة مسرحية، «عزيز عيد- فاطمة رشدي- الريحاني»، وأكثر من دار عرض، «متروبول- لوكس- الكورسال- كوزموس». وقد شهدت هذه السينمات احتفالات الجماهير بالعرض الأول للسينما.
وفي شارع الفن، أضاء المسرح بإبداع يوسف وهبي، وعلي الكسار، ونجيب الريحاني، وبموسيقى سيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وتألقت أيضاً منيرة المهدية، وروز اليوسف، وأمينة رزق، وحسين رياض، واستيفان روستي. وفي مقاهي الشارع دارت حوارات، واجتمعت خواطر، ونشأت خيوط للإبداع. وكان شارع «عماد الدين»، مضيئاً ومزدحماً باستمرار، به محطة النهاية لخط مترو مصر الجديدة، وكان عماد الدين أيضاً مركز شعاع للأقاليم، تنتشر فِرَقه في عواصم المحافظات في رحلات منتظمة في الشتاء بالصعيد وخلال الصيف بالوجه البحري.
«عماد الدين»
اختلفت الروايات في سبب تسمية الشارع، والقول الثابت في هذا الأمر يرجح أن «عماد الدين»، كان اسماً لأحد الدراويش في تلك المنطقة خلال فترة ازدهار الشارع. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حتى ثورة يوليو 1952، كانت المسارح على جانبي الشارع، وبعدها دور العرض السينمائي، مثل مسرح نجيب الريحاني، الذي ما زال قائماً ومغلقاً، ومسرح الراقصة الشهيرة آنذاك بديعة مصابني، الذي تخرج منه جيل كامل من عمالقة الفن في مصر. وإحدى هذه الروايات تقول إن «عماد الدين، كان فتوة (شخصية قوية ومسيطرة)، مهمته حماية الفنانين والمسارح والسينمات، من الفتوات الآخرين بجوار الشارع».بـَعرَه
«بَعرَه»: بفتح الباء وتسكين العين، قهوة شعبية شهيرة تتوسط شارع عماد الدين، حيث كانت تنتشر مكاتب مديري الإنتاج الفني وصانعي السينما. تأسست قهوة «بَعرَه» سنة 1918، على يد سيدة تدعى «ميرا صبرة»، وكانت القهوة آنذاك مكان الجلوس المحبب للجنود الإنجليز. وكدلالة على القوة والنفوذ اللذين كانت تتمتع بهما السيدة ميرا صبرة، أطلق اسمها على أحد الشوارع في منطقة بولاق أبو العلا، حيث كانت تسكن. وفي بداية الثلاثينيات انتقلت ملكية القهوة إلى الأبناء، فأدارها الحاج «محمد الزناتي»، الملقب بـ«بَعرَه»، وتحولت إلى ملتقى للفنانين. على كرسي متهالك يكاد يفتك بشاغله، يجلس «عم علي»، القهوجي الذي يقدم المشروبات لزبائن القهوة منذ ما يزيد عن 20 عاماً، منتظراً زبائنه الذين لا تتغير ملامحهم حتى وإن غالبهم الزمن. كانت قهوة «بَعرَه» ملاذاً لـ«الكومبارس» المغرمين بأضواء السينما والباحثين عن فرصة للظهور على الشاشة الصغيرة، على أمل أن يكتشفهم مخرج أو منتج يسند إليهم دوراً يكون بدايته الحقيقية نحو عالم الشهرة. يقول العم علي إن «الريس محمد الزناتي، كان بيتميز بصوتو الجهوري المزعج، ومن هنا الفنان رشدي أباظة، كان يندهلو بَعرَه، لغاية ما إسم بَعرَه بقى الاسم الدارج على لسان زباين القهوة، واتعرفت القهوة بالاسم ده لغاية اللحظة دي". يتذكر العم علي الجيل القديم من الفنانين الذين كانوا يجتمعون في قهوة بَعرَه ويقضون اليوم كله فيه. عكس الجيل الحالي من الفنانين، غير المهتمين بالمقاهي الشعبية، وهناك فنانون لا يعرفون قهوة بَعرَه حتى، رغم أن اسم القهوة ذكر في أكثر من عمل سينمائي على لسان كبار الفنانين، مثل عادل إمام.شجرة كليبر وحنطور الريحاني
كان شارع عماد الدين، يحظى بأهمية كبيرة إلى درجة جعلت منه عنواناً لكتاب ألفه الكاتب المسرحي الكبير ألفريد فرج. يقول فرج في كتابه «شارع عماد الدين»، «كانت نقابة الممثلين تقع في شارع عماد الدين في عهد نقيبها الفنان أحمد علام، وكان الباب الخلفي للنقابة يتصل بالحارة التي تقع غرب فندق شبرد القديم، الذي دمر في حريق القاهرة 26 يناير 1952. وفي حديقته المقفرة كانت هناك شجرة محيط ساقها يبلغ عدة أمتار. وقيل إن عمرها آنذاك من عمر بناء الفندق، الذي كان قبل ذلك قصر (الألفي بيك)، ثم اتخذه نابليون بونابرت عام 1798 مقراً وسكناً له، وسكنه من بعده أحد قادة الحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر، الذي قتله سليمان الحلبي. والثابت أنه قتل تحت تلك الشجرة العملاقة». أما الفنان الكبير نجيب الريحاني، فتتلخص حكايته في شارع الفن، بأن هناك بعض المعجبين والمتيمين بالفن والفنانين، كانوا ينتظرون على جانبي الشارع لرؤية فنانيهم المفضلين، وكان الريحاني لا يركب سيارته خلال مروره بالشارع احتراماً لمعجبيه، إنما كان يتبختر في شارع الفن بالحنطور (عربة يجرها حصان).«كشكش بيك»
على الرغم من أن مسرحيات نجيب الريحاني، التي كانت عموداً أساسياً من أعمدة شارع الفن، وبلغ عددها العشرات، لا يعرفها جيل مصر الصاعد، إلا أن شهرته الحالية جاءت من أفلامه السينمائية، التي تكاد تعد على أصابع اليد. بدأ الريحاني الذي لقب بـ«الضاحك الباكي»، نجاحه بشخصية «كشكش بيك»، من خلال تمثيل اسكتشات أو مسرحيات على منوال المسرح الشعبي، أو المتجول، أو من نوع الفصل المضحك. وهي مسرحيات تنتمي إلى نوع الكوميديا الخفيفة، أو الفارس السهل أو المرتجل. وتتلخص شخصية «كشكش بيك»، التي جسدها الريحاني والتصقت به على مدار مشواره الفني، بالشراكة مع استيفان روستي، بأنه شخص يرى الأخطاء ويحاول تقويمها على طريقته، مع أنه لا يملك أي خبرة أو ذكاء يؤهله لذلك، فينتهي به الأمر متحملاً أذى الآخرين وسوء فهمهم له. ومع الوصف الذي تلقاه الريحاني من «محمد تيمور» (أحد مؤسسي الأدب القصصي والمسرحي في مصر)، والذي أصر فيه على أن مسرح «كشكش بيك»، هو «المسرح اللافني»، ثارت غيرته الفنية ولجأ إلى خلع رداء ذلك الرجل الكوميديان المشاكس، وبدأ بالبحث عن النجاح في الميلودراما أو الأوبريت والمسرح الغنائي. ومع ثورة 1919، رأى الريحاني أن عهداً جديداً مدنياً ينطلق بسرعة البرق من شارع «عماد الدين».المرأة في شارع الفن
فاطمة اليوسف، منيرة المهدية، عزيزة أمير، دولت أبيض، أم كلثوم... على الرغم من الحقبة التاريخية التي نتحدث فيها عن هؤلاء الفنانات، والتي كانت تتسم بالانغلاق المجتمعي والعادات والتقاليد والحمية العربية، التي تعتبر أن المرأة مكانها الطبيعي هو المنزل. إلا أننا حين بدأنا البحث حول شارع «عماد الدين»، وجدنا أن هذا الشارع قام على أكتاف النساء بشكل فعلي، وكُنَ هُنَ المؤثرات في الحركة الفنية المصرية والنضالية أيضاً خلال فترة الاستعمار. لذلك كان التقدم الاجتماعي والحضاري دعامة أساسية لصعود المرأة في عوالم الفن، كما كان إبداعها من دعائم الصعود للمجتمع المصري. تشرح الدكتورة دينا أمين في دراسة سابقة حول دور فنانات المسرح المصري، أنه بعد المسرح الفلكلوري المتجول غير الواقعي الذي لم تشارك المرأة في إبداعه، وكان الرجال فيه يقومون بالأدوار النسائية، أتى المسرح الحديث الذي بدأ بالفنان يعقوب صنوع. وقدم في مسرحية (1870)، أول ممثلتين مصريتين هما: ميليا دايان وأختها. وفي نهاية القرن التاسع عشر كان الجمهور قد اعتاد قبول النساء كممثلات على مقتضى الاتجاه إلى الواقعية. وتضيف، أن «أول نجمة مصرية للمسرح كانت منيرة المهدية، وقد تألق نجمها أولاً كمغنية سنة 1915، ثم أصبحت أول امرأة مالكة ومنتجة ومديرة فنية ونجمة لفرقة بالمسرح الغنائي. وصمدت للمنافسة مع أكبر رواد المسرح من الرجال، حتى داهمتها أزمة 1930 (التي كانت السبب في إغلاق مسرحها ومسرح رمسيس للفنان يوسف وهبي أيضاً). وقد سبقت منيرة المهدية، في مرتبة النجمة المسرحية، الفنانة فاطمة اليوسف، التي كانت في القمة حتى اعتزلت وأنشأت مجلة روز اليوسف سنة 1925. وبعدها ارتفعت إلى القمة في شارع الفن، الفنانة عزيزة أمير، ولم تكتف النجمة بإبداعها والريادة في المسرح، وإنما قامت بإنتاج أول فيلم مصري في السينما الصامتة من بطولتها، وهو فيلم (ليلى) سنة 1927، الذي حقق نجاحاً ساحقاً، وعرفت عزيزة أمير بأنها أول سينمائية في مصر».رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين