شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ماذا تبقّى من الحمامات الشعبية في القاهرة؟

ماذا تبقّى من الحمامات الشعبية في القاهرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 24 سبتمبر 201610:10 ص

لا تزال مظاهر العصور القديمة حاضرة، تترك بصماتها على حياة المصريين حتى الآن. فهناك في حياء القاهرة الشعبية حمامات عامة يعود تاريخها إلى ألف عام، منذ تشييد قاهرة المعز الفاطمية. قسم منها حافظ على هيئته القديمة وعتاقتها، وقسم آخر استحدثوا له واجهات معاصرة لمواكبة الموضة، بينما أغلقت البقية وانضمت إلى سجل التوثيق الأثري.

عرفت القاهرة الحمامات الشعبية قبل تسميتها بذلك الاسم من المعز لدين الله الفاطمي، إذ يرجع إنشاء الحمامات الأولى للعصر الروماني قبل الفتح الإسلامي لمصر. وهي الرواية الأقرب للمؤرخين. ويقول الدكتور قاسم عبده، أستاذ التاريخ بجامعة الزقازق، في بحثه عن الحمامات في مصر، إن إحصائيات المؤرخين تضاربت حول تاريخ إنشاء الحمامات الأولى بين الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وبناء أول حمام عام بالفسطاط مع دخول الإسلام لمصر.

دائماً، كانت الحمامات الشعبية ترتبط في ثقافة المصريين بتجهيز العرائس لحفلات الزفاف. ويروي عبده أن أهل وأصدقاء العروسين، كانوا يزفونهما من حمام الرجال والسيدات في مواكب أغان على وقع الدفوف والطبول إلى مقر زفافهما. تلاشت تلك المظاهر تدريجياً، غير أن هناك أمثالاً شعبية شائعة استوحاها المصريون من الحمامات مثل "اللي اختشوا ماتوا"، الذي تعود قصته لهروب فتيات عاريات من حمام عام، احترقت أخشابه بينما احترقت اللواتي بقين داخله، خشية من الفضيحة. لم تكن الحمامات مجرد أماكن للاستحمام ونظافة الأبدان والاستشفاء فحسب. يشير عبده إلى أنها لعبت دوراً اجتماعياً في نقل أخبار وحكايات البلاد في وقت غياب وسائل الإعلام. كذلك استخدمها التجار في عقد الاتفاقيات التجارية، وتحديداً في عصر المماليك الذي ازدهر فيه بناء الحمامات العامة.

تتشابه الحمامات العامة الموجودة حالياً في القاهرة، في البناء المعماري الداخلي. تتكون من غرف "المسلخ" التي يأخذ فيها الزائر حمام بخار نتيجة البخار المتصاعد من المغطس المائي، لتنظيف جسده. وتتناثر المصاطب الرخامية المرتفعة بين جنبات الحمام التي يستنشق عليها الرواد بعض الهواء عقب جلسة البخار.

وتبقى مصطبة وحيدة تتوسط الحمام، يستلقي عليها الزائر للحصول على جلسة "تكييس" وتدليك بواسطة الحمامجي الذي يستخدم الزيوت و"الماسكات" المغربية لفتح مسام الجلد، إضافة إلى غرف استراحات خلع الملابس. في منتصف شارع أمير الجيوش بباب الشعرية، أحد الأحياء الشعبية بغرب القاهرة، تشير لافتة كبيرة كتب عليها "حمام بخار بلدي"، إلى حمام مرجوش الشهير بـ"الملاطيلي" الذي تحيطه يميناً ويساراً ورش النحاس والألومنيوم. ممر ضيق لا يتعدى المترين يقودك إلى ردهة تتصدرها الأرائك الخشبية والأعمدة العتيقة الدالة على انتماء الحمام للعصر الفاطمي.

يحافظ زينهم أحمد، صاحب حمام مرجوش الذي ورثه عن أجداده بحي الجمالية، منذ بنائه في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، على الطبيعة الأثرية للحمام. ولم تظهر بصمات الموضة على جدران الوقف الأثري، باستثناء بعض التدخلات لسد شقوق الجدران المتهالكة. يقول: "نحافظ على إرث أجدادنا والثقافة القديمة". ويشير الرجل السبعيني لرصيف22 إلى أنّ ما تتميز به الحمامات الشعبية هو الحياة الطبيعية التي يشعر بها الرواد من نظافة واستجمام داخل الحمام، بجانب كلفته البسيطة مقارنة بمثيلاتها في الفنادق وغرف الجاكوزي الحديثة، لذا يستبعد أن تندثر ثقافة الحمامات الشعبية عند المصريين.

ووفقاً لجولة رصيف22، تتفاوت أسعار الحمامات الشعبية بين 50 و65 جنيهاً لجلسة الاغتسال والتدليك، في حين تتباين أسعار تجهيز العرائس للزفاف من حمام لآخر تصل في بعض الأحيان إلى 200 جنيه. تفتح الحمامات الشعبية أبوابها على مدار 24 ساعة. فمع بزوغ أول خيوط الشمس تنتهى فترة استحمام الرجال الذين يستعدون للخروج إلى عملهم، ليبدأ استقبال النسوة اللواتي يتوافدن إلى الحمام حتى الساعة السادسة مساء. ويتخلل الفترتان تغيير المياه وتنظيف آثار الاستحمام، وصب الزيوت الطبية. بوجه نحيل يحدد ملامحه شارب كث، يطل عليك محمد أبو شنب (74 عاماً) خلف مكتب استقبال الزبائن، حيث يقضي الرجل ليلته في تحضير مسلتزمات الاغتسال، والتدليك في حمام مرجوش. يقول أبو شنب الذي يعرف عن نفسه بأنه أقدم حمامجي في مصر: "أعمل في الصنعة منذ 35 عاماً حتى أصبحت شيخاً للحمامين. المهنة مستمرة طول ما الناس محتاجة للنظافة والعلاج". يشرح أبو شنب خطوات عمله: "يبدأ الزبون بخلع ملابسه ثم دخول بيت الحرارة للاستفادة من بخار المغطس في إسقاط الدهون، ثم يخرج على الرخامة الكبيرة لتدليكه في جلسة زيت لفتح مسام الجلد، بعدها يعود للبخار مرة أخرى ثم يُنزل جسده في ماء بارد".

يظهر أبو شنب احتراماً كبيراً لمهنته التي ورثها عن أبيه، متذكّراً أنه بدأ غسيل الأجساد بـ"خمسة ساغ" (خمسة قروش) في السبعينيات حين كانت الحمامات تعمل بالحرارة المنبعثة من مواقد صناعة الفول المصري. فكان كل حمام يجاوره موقد حتى ألغت وزارة البيئة هذا النظام، ومنعت اختلاطهما بسبب الحرائق، فأصبحت الحمامات تعمل بالغاز الطبيعي. ويقول أبو شنب: "الناس عندنا لا تستحم فقط بل وتحصل أيضاً على علاج فقرات الجسم بشكل طبيعي". ويشير الحمامجي السبعيني إلى أن أكثر الشرائح العمرية استخداماً للحمام الشعبي من سن العشرين حتى الستين. وفي هذه الأجواء تذوب الفروق المادية والاجتماعية، إذ تقصده جميع الطبقات من الأكثر فقراً ممن يقطنون حي الجمالية والأحياء المجاورة لها، إلى قاطني المناطق الراقية. وبحسب تعبيره، يلبي الحمام احتياجات أصحاب الياقات الزرقاء والبيضاء. بين 365 حماماً بناها حكام وسلاطين وأمراء الرومان والفاطميين والعثمانيين والمماليك، لم يتبقَ إلا 7 حمامات عامة تتبع وزارة الآثار، وتشرف على ترميمها، وفقاً للإحصائيات الرسمية. وتوجد 4 حمامات أخرى تتبع وزارة الأوقاف، ويديرها الأهالي بنظام الإيجار الدائم.

حمام مرجوش

يعد حمام من أشهر الحمامات الشعبية العتيقة التي ما زالت تعمل حتى الآن تحت إشراف قطاع الآثار الإسلامية. بناه الحاكم بأمر الله الفاطمي قبل نحو ألف عام بين 365 حماماً آخر حينذاك، وحمل أسماء مختلفة منذ بنائه، منها "مرجوش" نسبة إلى شاعر يعيش بشارع أمير الجيوش بباب الشعرية، و"الملاطيلي"، نسبة إلى الملطي باشا، أحد رواد الحمام، و"السويد". اكتسب الحمام شهرة واسعة من تصوير فيلم سينمائي مصري حمل اسمه هو  "حمام الملاطيلي"، إنتاج سنة 1973، إخراج صلاح أبو سيف وبطولة محمد العربي وشمس البارودي. وهو من الأفلام الممنوع عرضها على شاشة التلفزيون حتى الآن لتصويره مشاهد عارية داخل الحمام. كما تم تصوير مشاهد من فيلم سوق المتعة، إنتاج 2000، للفنان محمود عبد العزيز بملابس الاغتسال داخل الحمام نفسه.

حمام بشتاك

من الحمامات الشعبية التراثية القديمة التي شيدت في العصر المملوكي البحري، وبالتحديد في 742هـ ـ 1341م. أنشأه الأمير بشتاك الناصري أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، قرب قصره في شارع سوق السلاح بمنطقة الدرب الأحمر، الواقعة بحي غرب القاهرة. وتسبب الإهمال في تحوله من مزار سياحي يقصده الأجانب للاستحمام والاستشفاء الطبي، إلى مرتع للمخلفات وملاذ للحيوانات الضالة، قضت على تاريخ طويل، حتى أعلن محاقظ القاهرة في يناير 2016 إدراجه ضمن العقارات ذات الطراز المعماري المتميز لإعادة تأهيله وترميمه والحفاظ عليه، نظراً لأهميته التاريخية والمعمارية.

الحمام المؤيدي

لم ينل حمام السلطان المؤيد شيخ المحمودي من شهرة صاحبه، كالتي اكتسبها مسجد المؤيد، أحد مساجد القاهرة القديمة. إذ تهتم وزارتا الآثار والأوقاف بالمسجد القديم في حين طمس الإهمال معالم الحمام بين شوارع الغوية بمنقطة الحسين. أنشأ السلطان المؤيد شيخ المحمودي من المماليك الجراكسة (البرجيين)، حمامه عام 823هـ/1420م، في حارة الجداوي من شارع المعز لدين الله. وهي الحقبة التي ازدهر فيها بناء الحمامات العامة في مصر على الطراز المملوكي الذي يهتم بالقبب البارزة. ولم يتبق من الحمام المتهالك سوى المسلخ الرخامي بعدما سقطت قبته على مدار السنوات الأخيرة، وأدرجته وزارة الآثار ضمن خطتها لتطوير الأثريات القديمة.

حمام إينال

يعد حمام السلطان الأشرف إينال الواقع بشارع المعز لدين الله، من أشهر الحمامات العثمانية التي بنيت قبل 700 عام، وتحديداً عام 861 هجرية -1456م. أغلقه قطاع الآثار الإسلامي وتم تحويله إلى مزار سياحي ليخلد مظاهر حياة العثمانيين. يتفرد "إينال" عن الحمامات الأخرى بأشهر قصص المصريين عن الحمامات الشعبية، فمنه خرج المثل الشعبي الشهير "اللي اختشوا ماتوا"، حين فرت الفتيات وهن عاريات بعد اندلاع حريق في الحمام، حتى أصبح الحمام للسيدات فقط بعد أن كان للجنسين في آن واحد.

حمام السكرية

بالقرب من حمام المؤيد شيخ، يقع حمام السكرية مجاوراً باب زويلة بنهاية شارع المعز، وهو الحمام الذي أنشأه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني في القرن 18. لا يختلف حاله عن بقية الحمامات الأثرية القديمة التي احتلتها الحيوانات النافقة والكلاب الضالّة. ولم تتحرك وزارة الآثار لإنقاذه من الهدم والبناء المخالف حوله في المنطقة الشعبية بحي الجمالية.

حمام الطمبلي

أقامته الأميرة نفيسة الطمبلي في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، في حي باب الشعرية، في عهد السطان إينال اليوسفي، وكان الحمام مخصصاً للنساء فقط في البداية ثم فتح أبوابه للجنسين. وذكر بعض المؤرخين أن الحكومة استخدمت حمام الطمبلي من 1940 إلى 1945، للقضاء على مرض التيفوئيد، فكان العسكر يجبرون الناس على دخول الحمام والاستحمام والحصول على مطهر من المرض. لم يسلم الحمام من مصير الإهمال الذي طال معظم الحمامات الأخرى، فانهارت طوابقه والبيوت المجاورة له في غياب وزارة الآثار.

حمامات وزارة الأوقاف

بخلاف الحمامات التي تسجل كأثر، هنالك حمامات أخرى تتبع وزارة الأوقاف، منها حمام الثلاث بالحسينية، غرب القاهرة، والثلاث الشعبي الشهير بـ"مشمش علي"، والأربع الشهير بـ"عوكل" وباب البحر. والحمامات الثلاثة بين منطقتي بولاق ورمسيس. بين أزقة حي بولاق الضيقة، والطرق غير الممهدة، يقبع حمام الأربع الذي تحول اسمه إلى عوكل، نسبة إلى صاحبه محمد عوكل. فهو الذي أعاده إلى الحياة مرة أخرى منذ 17 عاماً بعد انهيار الأسقف وأعمدته الرخامية القديمة.

يجلس عوكل في مكتبه الفخم الذي تزينه المصاطب الرخامية وزجاجات النرجيلة. ويقول لرصيف22 وهو ينفث دخان سيجارته: "فعلت ما عجز عنه كبار الحمامين في تغيير الشكل القديم مع الحفاظ على الأثر كما هو. هذا الحمام هو حياتي ورأس مالي والتطوير سبيل النجاة لهذه المهنة". غيّر عوكل واجهة حمامه الذي يمتد تاريخه إلى 500 عام، كما أضفى عليه لمسات فنية تشعر وانت بداخله أنّك لست في حمام شعبي في منقطة تفتقر للخدمات. لا يخفي عوكل ضيقه من الدعاية السلبية التي صنعتها أزمة حمام باب البحر بعد كشف برنامج إعلامي عن ممارسة ما وصفه بـ"الشذوذ الجنسي" داخله. لكنه يؤكد: "حماماتنا نظيفة ولا نسمح بممارسة تلك الأفعال بداخلها، زبائننا من الموظفين والضباط ورجال الأعمال". واجه رصيف22 غريب سنبل رئيس قطاع ترميم الآثار، المسؤول المباشر عن ترميم الحمامات العامة المسجلة في وزارة الآثار، بغياب دور القطاع في الترميم. فجاء رده صادماً: "لا نعرف شيئاً عن الحمامات الشعبية القديمة في القاهرة، هي من مسؤوليتنا طبعاً لكنها ليست من الأولويات، فهي تأتي بعد ترميم الآثار بين المساجد والكنائس والبيوت الأثرية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image