في مترو الأنفاق بالعاصمة المصرية، وتحديداً وسط عربات السيدات، حيث الازدحام والحر الشديد يجعلان الصعود والنزول والحفاظ على مكان الوقوف معركة تتطلب جهاداً، يحلو لبعض السيدات ممارسة الدعوة الإسلامية.
فتاة يبدو من ملامحها أنها لم تتجاوز الثلاثين، تردد بأعلى صوتها، لكي تنتصر على صوت سير المترو وأصوات الراكبات، دعاءً مأثوراً عن الرسول عند ركوب عربة، أو بمقاييس الزمن القديم، دابة. يرتفع صوتها كلما ارتفع صخب الراكبات.
وقد توجد حولها أحياناً مجموعة من صديقاتها، يرددن خلفها الدعاء لكي يسمعه أكبر عدد من الراكبات.
هذا المشهد هو أحد الأساليب التي توصلت إليها الفتيات الراغبات في ممارسة الدعوة، ونشر ما يعتنقنه من أفكار، أو لكسب "مجموعة من الحسنات".
وفي سبيل ضم أخريات لطريقة الحياة التي ارتضينها لأنفسهن، لا يجدن حرجاً في التواصل مع الناس في عربات المترو، أو من خلال الطريقة الأحدث المتمثلة في مجموعات تطبيق الواتس آب.
خطبة في عربات المترو
لا يقتصر الأمر في مترو الأنفاق على ترديد دعاء الركوب، إنما يتطور ليشمل خطبة دينية قصيرة، تقتحم بها الداعية الشابة آذان الراكبات اللواتي لا يمكنهن رفض السماع في أغلب الظروف. بعض السيدات ينصتن جيداً، وأخريات يتبادلن الضحكات والهمسات الساخرة من محتوى الخطبة، والبعض الثالث شارد، لم تتمكن الفتاة المنتقبة حيناً والمحجبة في أحيان أخرى من جذب انتباهه. في إحدى خطب داعيات المترو، كانت الفتاة الجامعية التي تحمل كتبها الدراسية، تحض الراكبات على أهمية ارتداء النقاب، وعلى أنه زي شرعي، وتحثهن على أن لا يقتنعن بكلام من يقول عكس هذا.إذا شعرنا أن فتاة تحتاج لنصيحة نضمها لمجموعاتنا الهاتفية ويهديها الله للطريق القويم.. عن داعيات الجوال
هكذا أصبحت عربات المترو ومجموعات الواتس آب مساحة لنشوء داعيات إسلامياتثم بدأت الفتاة تقسم أنه كان لديها العديد من المشكلات العائلية التي لم يُكتب لها أن تُحل إلا بعد ترتداء النقاب، الذي بات برأيها حل أي مشكلة مستعصية. سيدة منتقبة أخرى اختارت موضوع خطبتها من وحي الموسم والشهر، فكان حديثها عن عيد الأم. أصرت على أن هذا الاحتفال بدعة، وأنه يبخس الأم حقها ولا يكرمها مثلما تقول وسائل الإعلام، التي "تسمم أفكارنا وتُفسد قيمنا".
الأمر ليس معقداً
أميرة مدحت هي إحدى "داعيات المترو". محجبة نحيفة تمسك ببعض الكتب الخاصة بدراستها في كلية التجارة، ولم يتجاوز عمرها العشرين عاماً. ترى أن أمر داعيات المترو أقل تعقيداً مما يودّ رافضوه إبرازه، فهي، برأيها، لا تُفتي في الحلال والحرام، ولا تمنع أحداً عن فعل أشياء مهمة أو مصيرية. تقول لرصيف22: "كل ما في الأمر أنني أنصح زميلاتي بأن يراعين الله في مظهرهن وملابسهن وسلوكهن". وقد عرّضت الدعوة أميرة للكثير من المواقف المحرجة من الفتيات اللواتي يرفضن نصيحتها، ولكنها، بحسب قولها، تتقبل هذا بصدر رحب، لأن الدعوة هي الطريق الذي اختارته لنفسها وتعلم جيداً أنه ليس سهلاً.البحث عن الانتماء في مجموعات الواتس آب
ومن مترو الأنفاق إلى مجموعات الواتس آب حيث تمارس الداعيات الشابات بدأب عملهن. سندس، وهو اسم مستعار، تعمل داعية واتس آب متطوعة، وتدرس في الجامعة في الوقت ذاته. هي في مطلع العشرين من عمرها، وتعطيها المجموعات على التطبيق الأخضر المنصة للتعبير عن أفكارها، وشعوراً بأنها تقوم بعمل مهم. "إذا ارتأت إحدانا أن هناك فتاة تحتاج إلى دعوة أو نصيحة تضمها لإحدى مجموعاتنا الهاتفية، ويهديها الله للطريق القويم ببركة صحبة الأخوات الصالحات"، تقول سندس لرصيف22. بدأت بإضافة صديقاتها اللواتي يرغبن بالتقرب إلى الله والالتزام بالشرع، ثم يقمن هن بإضافة صديقاتهن ليصل عدد العضوات إلى نحو عشرين. وهي تقوم بتذكير المجموعة بالدين وبالأذكار والأدعية وبتطبيق العبادات. تقول سندس أنها تشعر بذاتها في هذه المجموعات، وتعتبر الدعوة فيها الشيء الوحيد الذي تفعله عن حب واقتناع. كانت تود أن ترتدي النقاب ومنعها والداها بحجة أنه ربما يعوق زواجها، أو يُعرضها لمضايقات أمنية في الشارع، بعدما انتشر تخوف من الإسلاميين في مصر في الفترة التي تلت إزاحة الرئيس محمد مرسي، والذي كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. كذلك منعها والداها من حضور الدروس الدينية، ما جعلها تشعر باغتراب شديد، فلم تجد مُتنفساً آمناً تمارس فيه ما تشعر أنه هويتها إلا في تلك المجموعات عبر هاتفها النقّال.هوية مجتمع؟
الدعوة ليست جديدة على المجتمعات الإسلامية، فقد خرج من مصر التي يبلغ تعداد سكانها 94 مليوناً غالبيتهم من المسلمين، دعاة كُثر أصبح بعضهم نجوم كاسيت ونجوم تلفزيون وفضائيات ويوتيوب. لكن غالبيتهم كانوا رجالاً، فقلما عرف المجتمع المصري، أو العربي، سيدات اتخذن الدعوة مجالاً علنياً لعملهن، رغم أن العمل في الدعوة في الشريعة الإسلامية ليس حكراً على الرجال. ما تتيحه عربات المترو ومجموعات الواتس آب هو المساحة الحرة والمنصة الآمنة للسيدات للتحدث كما يردن، ولجذب جمهور من المستمعين دون الحاجة للوسائل التقليدية كالمنبر أو المسجد أو التلفزيون. ودون الإجهار بصوتهن أمام الرجال، الأمر الذي يحرمه بعض الفقهاء. يقول الدكتور رفعت عبد الباسط، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب في جامعة حلوان، إن الانتماء لجماعة فكرية أو دينية أمر طبيعي، لكن مؤسسات المجتمع المصري، من أسرة ومدرسة وجامعة، لم تعد تعطي الفرد مساحة التعبير أو حتى حرية الاختلاف، فيغدو البديل هو الركون للدوائر الأصغر للتعبير فيها وممارسة الدعوة. ويري عبد الباسط أن أسلوب الداعيات الإسلاميات الهاتفيات أو في عربات مترو الأنفاق هو جزء لا يتجزأ من أسلوب مجتمع أصبح لا يضع شيئاً في مكانه. فمن تلقي خطبة إسلامية في مكان عام، وتجبر راكبة لا يعنيها الأمر أو تنتمي لطائفة مختلفة على الاستماع، لا تضع الأمر في نصابه الصحيح. كما أن المجتمع، برأيه، أصبح يعتمد على الاستسهال وعدم احترام الخصوصية كمنهاج رسمي له، وغالبية هؤلاء الداعيات يرغبن في حصد قدر من "الحسنات" بأقل جهد وبأكثر الطرق أماناً. بالإضافة للحسنات، يرى عبد الباسط أن عمل الدعوة يترك لدى الداعية شعوراً بالفوقية على باقي العضوات، الأقل معرفة، واللواتي يحتجن للنصح كي تتحسن حياتهن.أن تتلقي الدعوة
نهى، وهو اسم مستعار، هي إحدى الفتيات المستهدفات من تلك الدعوة. فقد أفاقت يوماً لتجد نفسها مضافة إلى مجموعة، بعدما رأت إحدى "الأخوات" أن حديث الداعية سيساعدها كثيراً في اتخاذ قرار الحجاب، وهي تقترب من دخول عامها الثلاثين. تختص هذه المجموعة، مثلاً، بأحاديث الحجاب والحث عليه صباحاً ومساءً. وتختص مجموعات أخرى في الدعوة إلى الصلاة، وبعضها في التذكير بأهمية النوافل. وهنالك مجموعات ترسل الأحاديث والأدعية والأذكار وآيات القرآن. وقد تتخذ إحدى السيدات قراراً يقضي بإضافة العضوات إلى مجموعة أخرى. "صرت أستيقظ كل صباح لأجد نفسي منضمة إلى مجموعة جديدة، عليها مئات الرسائل. هذا هو الصداع الشديد، والدافع إلى الابتعاد أكثر عن قرار الحجاب"، تقول نهى لرصيف22.أنا داعية
قضت عناية، وهو اسم مستعار، عمرها كربة منزل. هي في منتصف العقد الأربعين، وتقول إن يومها كان يتمحور حول الاعتناء بالمنزل وتربية الصغار. اخترق الملل حياتها، إلى أن قررت أن تتجه للصلاة وارتياد المساجد، وصحبة مجموعة من النساء يساعد بعضهن بعضاً على حفظ القرآن الكريم. كانت المجموعة التي انضمت إليها عناية سلفية الطابع، تتبع تفاسير متشددة للدين، وترى مثلاً أن ارتداء العباءات السوداء مفضل شرعاً على غيره من الملابس. وقد ترددت باستمرار على مسجد العزيز بالله، والذي يعتبر معقل السلفيين بالقاهرة، لتقابل مجموعتها النسائية في الصباح وتشاركهن في حفظ القرآن، والأحداث وأخبار الزوج والأولاد. بدأت سيدات المجموعة بانتقاد صوتها وضحكتها وطريقة مشيتها، إذا تلكأت قليلاً، فانزعجت في البدء من انتقاداتهن الفجة لأبسط التصرفات وتأويل معانيها بأبشع الإيحاءات الجنسية، بحسب قولها، لكنها اعتادت الأمر واعتبرته إمعاناً في الحفاظ عليها، وأصبحت تمارس هي أيضاً ذلك النصح الفج مع الفتيات الأصغر سناً اللواتي ينتسبن حديثاً إليهن. بعد فترة، شعرت عناية أنه من الواجب عليها أن تهدي أخريات إلى الطريق الذي سلكته، وكان الواتس آب الوسيلة الأسهل للتواصل مع عدد كبير منهن بدون الحاجة للذهاب إليهن. تقتصر الدعوة في المجموعات التي تديرها على الحث على الصلاة والحجاب والتذكير بصيام النافلة، وإرسال بعض الأدعية خلال النهار إلى العضوات. "لم تمتلىء حياتي ولم أشعر أنني أقوم بشيء ذي قيمة فعلاً إلا من خلال هذه المجموعات التي تجعلني أدعو إحدى النساء للحجاب، أو أسعى إلى تعديل سلوك واحدة من البنات اللواتي أعتبرهن كبناتي"، تقول عناية لرصيف22.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...