ربمّا يكون التاكسي، أو سيّارة الأجرة، خياركم الأفضل للتنقل في دمشق، إذا كنتم تستطيعون تحمّل تكلفة 2 دولار كحدٍ أدنى للمواصلات يومياً.
لكن هذا لا يضمن أنكم ستصلون سريعاً للوجهة التي تقصدونها، فأمام كثافة الحواجز الأمنية بالعاصمة السورية والازدحام الخانق بعدما تضاعف عدد سكانها، تتساوى وسائل النقل العامّة في السرعة والجدوى.
لكن تبقى سيارة الأجرة الصفراء الخيار الأفضل لمن لا يملكون عرباتٍ أو دراجاتٍ خاصة، ولغير القادرين على الصمود وقوفاً داخل حافلات النقل العامة الدائمة الازدحام، أو الجري لتحصيل مكانٍ فيها.
وهي خيار من لا يطيقون تكدّس الركاب بالباصات الصغيرة (الفان، أو الميكرو باص)، فضلاً عن وقوفها المتكرر بحثاً عن راكب جديد.
لكن، عند اختياركم "سيارة التاكسي" عليكم أن تستعدوا للمواجهة، التي غالباً ما ستحدث بينكم وبين السائقين. فالعلاقة معهم، والتي قد تمتد لقرابة الساعة أو أكثر للمشوار الواحد، تبدو شائكة وطريفة أحياناً، تبدأ بالارتياب، تمر بالتعاطف، لتنتهي بالخلاف على الأجرة أكثر الأحيان.
مواجهة حتميّة
الارتياب قد يبدأ من سؤال السائق عن الوجهة التي تختارونها، وردّة فعله إزاء ذلك. فإذا أبدى ضيقه من اختياركم لها، فهذا يعني أن المواجهة آتية لا محالة، وهنا يفضل الاتفاق منذ البداية على الأجرة. والسكوت بعد الاتفاق عليها ليس علامة الرضا دائماً، فربما تتفاجئون عند الوصول بقول السائق: "والله ما بتكفي ماشفت الزحمة"؟ أما خيار الاحتكام لـ"العدّاد"، فليس سليماً دائماً، إذ ستجدون من السائقين من يقول: "والله مو موفية"، أي أن سعر العداد لا يناسبه. أو يعلن عند انتهاء الرحلة أن "الكليومتراج معطّل"، وهو ما يعني أن التزامكم بالرقم الذي أشار إليه العداد فيه ظلم لسائق العربة.خسائر السوريين الجامعة
يختصر أبو أحمد، سائق التاكسي الستيني، الحديث حول إشكالية السعر والعدّاد لرصيف22 بالقول: "الحال عموماً لا يرضي السائق أو الزبون، والحقيقة أن التعرفة (الحالية) تفي بالغرض... إذا كنت تملك السيارة التي تعمل عليها، أمّا إن كنت مستأجراً لها، فلا يكون العمل بالتعرفة المُعتمدة مجدياً". فلا يبقى للسائق سوى 35% فقط من الغلة اليومية، فيما يذهب 30% للبنزين، والباقي لمالك العربة. فتجد السائق مجتهداً في تحصيل أكبر قدر ممكن من الركاب، وفي رفع الأجرة كلما سمحت لهم الفرصة بذلك. يقود أبو أحمد عربة يمتلكها منذ ثلاثين عاماً، لكنه يجد نفسه منهكاً كالسائق الذي يستأجر العربة. يؤكد في حديثه أن واقع مهنته كان أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، حيث يستطيع بالكاد أن يؤمن مصروف عائلته. بل تمر أيام يذهب فيها ما جناه لإجراء إصلاحات أساسية في العربة التي اشتراها بالتقسيط "قبل 12 عاماً"، فباتت تكلف عشرة أضعاف ما كانت تكلّفه قبل سنوات الحرب.لا يبقى لسائق التاكسي سوى حوالي 6 دولارات يومياً، تضعه مع الكثير من أهل دمشق، فوق خط الفقر بقليلوقد استطاع أن يهرب بالعربة مع عائلته من أحد المناطق الساخنة المتاخمة لدمشق بعدما "دمّر البيت، وبقيت السيّارة.. خسائرنا كبيرة ياعم، خمسة سنوات ذهب فيها معظم ما استطعنا جنيه طيلة سنواتٍ من التعب"، يقول أبو أحمد.
السائق والراكب وخط الفقر
بحسب بحث أجراه مركز فيريل للدراسات تحت عنوان "سوريا بين 2010 و2016"، كان العام الأخير الأخطر اقتصادياً على المواطن السوري بين سنوات الحرب. فقد قدرت الدراسة أن نسبة الفقر في البلاد وصلت إلى 86.7%. وقد وصل سعر صرف الدولار مقابل العملة السورية إلى 600 ليرة (وتراجع مؤخراً لـ540 ليرة في السوق السوداء). وحُدد خط الفقر بما يعادل الـ2 دولار يومياً، أو 60 دولار شهرياً. كما قدرت الدراسة متوسط الأجر الشهري للموظف السوري بـ40 دولار. وفي تحليلٍ للدراسة ذاتها، قدّر تراجع الطبقة الوسطى في سوريا إلى 10% مقارنةً بـ60% ما قبل الحرب. لا يوجد إحصائية دقيقة تحدد دخل سائق سيارة الأجرة، لكن الحد الأدنى لأجرة رحلة راكب واحد هو 2دولار، قد تستغرق ساعة كاملة بسبب كثافة الازدحام. فإذا عمل السائق لمدة 10 ساعات في اليوم، سيحصل على 20 دولار، يبقى له منها حوالي 6 دولارات، تضعه مع الكثير من أهل دمشق، فوق خط الفقر بقليل.مرحلة التعاطف
من هنا، تظهر الأرضية التي تخلق التعاطف بين الراكب والسائق والذي يبدأ حينما يتبادلان سيرة خسائر الحرب، وهموم يومياتها الثقيلة اقتصادياً واجتماعياً. و الحديث مع أبو أحمد يقود إلى هذه المرحلة، بعد تجاوز عقبات سابقة. فتكون البداية بكلماتٍ افتتاحية لكسر الجليد، كالطقس أو الغلاء، أو الحواجز، أو الازدحام. يتجاوز خلالها الطرفان حالة ارتيابٍ من نوعٍ آخر، وهي خشية أحدهما أن يكون الآخر أحد عناصر الأمن. وقد تظهر بعض الإشارات الواضحة التي تكشف هوية الطرفين، كاللباس العسكري أو وجود قطعة سلاح. وربما يطلب الراكب المرور من الشوارع التي يتخللها حواجز أمنية، لأنه يحمل البطاقة الخاصة التي تسمح له بعبور الحواجز عبر الخط العكسري. حينها، وبعد كسر الجليد ومعرفة الهوية ومن ثم الاطمئنان، يحصل التعاطف.خط عسكري
يروي الصحافي العشريني عادل، وهو اسم مستعار استخدمه عند الحديث مع رصيف22، موقف طريف حدث معه، أثناء توجهه لعمله: "ذات مرّة كنت أجري اتصالاً هاتفياً مع زميلي، أستفسر فيه عن التحضيرات للقاء سأجريه لصالح إحدى المحطّات العربية، وبعد انتهاء المكالمة، فوجئت بالسائق يسألني إذا كنت قد حصلت على ترخيص للعمل مع هذه المحطّة، وحذرني من مخالفة القانون". استغرب عادل من جرأة السائق وتدخله في شأنٍ لا يعنيه، إلى أن كشف له عن هويته كضابط في أحد الأفرع الأمنية، وقدّم له ما يؤكد ذلك، وأخبره بأنه يعمل سائقاً لسيارة أجرة "بعد الدوام" لحرصه على أن "يبقى نظيف الكف"، فيكسب مالاً إضافياً من عمل ثانوي، بدل من أن يرتشي. كما أن طبيعة وظيفته في الأمن تقتضي تفقد سير عمل الحواجز. "انتقلت من حالة الهجوم إلى الدفاع"، يقول عادل، "أكدت له عملي قانوني، فكان ذلك كفيلاً بتغيير مجرى الحديث". وانتهى التعارف بين عادل والسائق بتبادل أرقام الهواتف و"شو بيلزمك خبّرني".أخافُ المطر
"علينا تفهم ظروف بعضنا البعض، وينبغي ألا يطمع أحدنا بالآخر"، هذا هو الحل لإشكالية أجرة التاكسي برأي السائق الثلاثيني أبو عبادة، والذي يقود عربته في يوم ممطر وبارد. الجميع، برأيه، يسعى وراء "لقمة العيش". "أنا أخاف من القيادة تحت المطر، ورغم ذلك لا أملك رفاهية الاستجابة لمخاوفي والجلوس بالمنزل ريثما يهدأ الجو، وأي راكب يصعد معي يكون ذاهباً لعمله، لا أعتقد أن أحداً يخرج من منزله اليوم وسط هذا الطقس والازدحام بقصد الترفيه"، يقول أبوعبادة. مخاوفه تتجاوز الماء المنهمر من السماء. يصف حياته خلال السنوات الـ6 الأخيرة بحالة رعب دائمة ملأت رأسه شيباً. يخشى أن لا يعود لأولاده أو يستدرجه أحد الركاب للخطف كما حدث مع سائقين كثر. يخشى الإعتقال بسبب تشابه اسمه مع أسماء مطلوبين للأمن، أو أن يُساق إلى الخدمة الاحتياطية في الجيش، ليجد نفسه فجأة على إحدى جبهات القتال. "مافي شي محرز نختلف عليه أستاذ، المهم نضل عايشين وقدرانين نطعمي ولادنا"، يستطرد أبو عبادة ثم يصمت متأملاً خارج شباك عربته.حنين لزمن أبو جانتي
تتدلى من المرآة الأمامية لعربة أبو عبادة مسبحة خرز. يبتسم وهو ينظر إليها قائلاً: "هدول صرلهن زمان من وقت ما اشتريت السيارة، قبل الأزمة". اشتهرت عربات الأجرة الصفراء في دمشق قبل الحرب بالزينة والإضاءة والملصقات والورود التي يستخدمها السائق ليعطي عربته شخصية مستقلة. لكن الأوضاع الاقتصادية في سوريا حولتها لتكاليف إضافية يتجنبها معظم السائقين. "اليوم ما حدا إله نفس يزيّن سيّارته، سقا الله أيام مخيم اليرموك (المنطقة التي كان يسكنها)، بشارع رامي، أخي كان عنده سيارة ما كنت تقدر تشوف شو بقلبها من كتر الزينة... كان إله مزاج بالسواقة والزينة... كتير كنّا نشبهه بأبو جانتي"، يقول أبو عبادة، متذكراً شخصية السائق صاحب النكتة التي أدّاها الممثل السوري سامر المصري عام 2010. في أغنية المسلسل، يتغنى السائق أبو جانتي بعمله قائلاً: "عايش أنا سلطان زماني". يتذكر أبو عبادة الكلمات ويقارن حاله قبل الحرب بما آل إليه اليوم. يمسك بالمسبحة الخرز، ويبتسم. فهي كل مل تبقى من وقت شعر فيه أنه "سلطان زمانه".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...