تختصر حكاية "بلاكووتر" قصة حروب كثيرة عاث فيها المرتزقة قتلاً وتدميراً، تحدى فيها المقاتلون القانون وفاقوه سلطة، وارتكبوا من خلالها أبشع الجرائم تحت ستار "شركة تقدم خدمات أمنية وعسكرية". بعد سلسلة الفضائح التي طالتها، غيرت الشركة اسمها من "بلاكووتر" إلى "أكاديمي"، لكن تغيير الاسم لا يعني اختفاء الأسلوب الذي كرسته في حروب عديدة.
يُستحضَر أسلوب الشركة سيئة السمعة اليوم على هيئة "بلاكووتر جهادي"، حيث ظهرت مجموعة جديدة تطلق على نفسها اسم "ملحمة". هدفها "الإطاحة بنظام بشار الأسد"، وذلك من خلال تدريب عناصر جهادية، على يد محترفي تدريب قتالي من أوزبكستان ودول القوقاز الناطقة بالروسية.
في التحقيق الذي نشرته مجلة "فورين بوليسي"، تابع كل من راو كومار وكريستيان بوريس وإريك وودز، المتخصصين في شؤون أوروبا الشرقية والجماعات الإرهابية، نشأة "ملحمة" وخلفيات مؤسسيها ونطاق عملها، إضافة إلى المبالغ التي تتقاضاها لقاء تدريباتها الإرهابية.
10 مدربين في "ملحمة"
مدججون بالسلاح والدروع والخوذ البالستية، يظهر هؤلاء وهم يدافعون عن المخابئ أو يقتحمون مباني، أو يقفون أمام لوح أبيض وهم يعطون دروساً في التكتيكات القتالية. كلّ ذلك وأكثر في الفيديوهات التي تنشرها الشركة على يوتيوب باللغة الروسيّة، بينما يُسمع في خلفيتها موسيقى "النشيد" الإسلامية. هؤلاء ليسوا جهاديين عاديين، بل هم مقاولين يعملون في التدريبات القتالية والاستشارات الأمنية التي تقدمها الشركة.
لا يمكن مقارنة حجم الشركة بضخامة "بلاكووتر"، فهي مؤلفة من 10 مدربين محترفين من "النخبة" آتين من أوزبكستان ومن دول القوقاز الإسلامية. لكن "الحجم ليس كل شيء، إذا ما تحدثنا عن الاستشارات العسكرية، لا سيما في عصر التواصل الإلكتروني"، كما يذكر التحقيق.
تسوّق "ملحمة" لخدماتها عبر المنصات الإلكترونية، وقد اكتسبت "شجاعتها القتالية ومهاراتها التدريبية" شهرة بين الجهاديين في سوريا والمعجبين بهم. وقد ساعدها أكثر في تسويق خدماتها خصخصة هدفها: إسقاط بشار الأسد واستبداله بحكومة إسلامية.
يبلغ قائد المجموعة من العمر 24 عاماً، ويطلق على نفسه اسم "أبو رفيق". لا يُعرف عنه الكثير سوى ما تكشفه الفيديوهات التي تنشرها "ملحمة"، وفيها يظهر ملثماً بعينين سوداوين وشعر طويل، متحدثاً بروسية طليقة لا تخلو من لكنة أوزبكية.
أما تشكيل "ملحمة" فيعود إلى مايو العام 2016، ومنذ ذلك الوقت تشهد أنشطتها القتالية والتدريبية والاستشارية رواجاً في سوريا من خلال حصولها على عقود عمل عديدة هناك، مع مجموعات كـ"جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً) والحزب الإسلامي التركستاني.
"ملحمة" شركة مقاولات جهادية عسكرية خاصة تدرب على القتال في سوريا وتضع ضمن أهدافها "الإطاحة بالأسد"
جهاديون في سوريا يدفعون للحصول على تدريبات عبر شركة مقاولات جهادية عسكرية خاصة هي الأولى من نوعها
يخبر أبو رفيق، خلال مقابلته مع "فورين بوليسي" عبر تطبيق تلغرام، أن الطلبات التي ترده من أجل الحصول على خدمات "ملحمة" التكتيكية في سوريا ما زالت كثيرة كما كانت دائماً، على الرغم من تراجع المقاتلين في بعض النقاط، ومن بينها خسارة حلب.
"ملحمة" حيث كل سني مقموع
بحسب التقرير، لم تمنع الأعمال الرائجة في سوريا أبو رفيق من التفكير بتوسيع نشاطاته، فهو يريد التحرك في كل ساحة يعاني فيها المسلمون السنة من القمع. ذكر الصين وميانمار كبلدين يمكنهما الاستفادة من الجهاد، واقترح كذلك عودة "الملحمة" إلى جذورها في شمال القوقاز ضدّ الحكومة الروسية.
في نوفمبر الماضي، نشرت المجموعة إعلاناً على فيسبوك تطلب فيه مدربين ذوي خبرة قتالية للانضمام للمجموعة. وعرّفت المجموعة عن نفسها بأنها "فريق مرح وودي" يبحث عمن يمكنه "الانخراط بشكل مستمر وقابل للتطور والتعلم" ويعمل مع "جبهة فتح الشام".
تعد المجموعة المُدرِّب المفترض بالاستفادة من أيام العطل وبالحصول على أسبوع إجازة من الجهاد. كان الإعلان أشبه بتلك الإعلانات التي تبثها شركة "Fortune 500" أكثر منه إعلاناً لمجموعة من المقاتلين المتطرفين في حرب دموية. تعلق المجلة بالقول "صحيح أن الجهاد أصبح عالمياً قبل تكتيكات "ملحمة" بكثير، لكنه نادراً ما اكتسب تلك الروح الريادية".
مع ذلك، لم تكن "ملحمة" أول شركة تدريب عسكرية خاصة تدخل الأراضي السورية لتعمل مع أحد أطراف النزاع، ويكشف التقرير أن من سبقها إلى سوريا كان مجموعة سلوفينية دخلت في العام 2013 عن طريق شركة مسجلة في هونغ كونغ وصلت إلى سوريا لتدريب القوات النظامية على حرب العصابات.
سرعان ما تبين أن عمل هذه الشركة لا يحظى بإجماع حكومي، فقد سرق عناصر من الجيش السوري آلياتها، ولم تتلق كامل مستحقاتها وتعرضت للقصف والخسارة لاحقاً في معركة السخنة. غادرت المجموعة سوريا متجهة إلى روسيا في نهاية أكتوبر من العام نفسه، ليتم إلقاء القبض على أفرادها على يد جهاز الأمن الاتحادي الروسي ومحاكمتهم بتهمة المشاركة غير المشروعة في الحرب السورية.
وعقب إعلان الكرملين مشاركة روسيا في الحرب السورية خلال سبتمبر العام 2015، وصلت إلى سوريا مجموعة من المرتزقة الروس من شركة "واغنر" (وهي شركة عسكرية خاصة حاربت مع الروس في أوكرانيا)، بلغ عددهم حوالي الـ1500 شخص، يقودهم ضابط المخابرات الروسي ديمتري أوتكين.
ما يُعرف عن "واغنر" أنها تستنسخ آلية عمل "بلاكووتر" في علاقتها مع السلطات الروسية، عن طريق العمل كوحدة مشاة من نخبة المقاتلين بدعم من الحكومة الروسية، ويسافر عناصرها إلى سوريا على متن طائرات عسكرية روسية رسمية، ويتدربون في قاعدة القوات الخاصة الروسية في جنوبي غربي روسيا. وما زالت فاعلة في سوريا حتى اليوم في إطار دعم وتدريب القوات السورية.
يشير التقرير كذلك إلى تواجد ما يقارب الـ4700 مقاتل من دول الاتحاد السوفييتي السابق في سوريا، غالبيتهم من الشيشان وداغستان، كانوا قد وصلوا إلى سوريا مزودين بالسلاح وبمهارات قتالية عالية، بعدما شارك معظمهم في الحرب ضد القوات الروسية بين عامي 1990 و2000. وقد حاز هؤلاء على إعجاب داعش وجبهة النصرة واكتسبوا لقب الانغماسيين.
الوجه الآخر لـ"ملحمة"
بينما اختار الكثير من أبناء بلادهم المواجهة المباشرة، قرر عناصر مجموعة "ملحمة" سلوك طريق آخر يجمع بين المهنية العالية للشركات العسكرية المتخصصة وبين الجماعات الجهادية في سوريا. طريق يكونون فيه مستشارين وتجار سلاح، وفي المناسبات، مقاتلي نخبة.
تفسّر خلفية أبو رفيق العسكرية الوضع المتميّز للشركة، فهو كان قد انتقل في شبابه من أوزبكستان إلى روسيا حيث انضم إلى الوحدات العسكرية التابعة للحكومة الروسية، وهي مجموعة من القوات المحمولة جواً، تُعرف بـ"VDV". وفي العام 2013، غادر أبو رفيق روسيا متجهاً إلى سوريا، هناك لم ينضم إلى فصيل معيّن، بل ظلّ مستقلاً يتنقل بين الفصائل، إلى أن أسس "ملحمة" في العام 2016.
وخلال هذا العام، درب عناصرها جماعات المعارضة المتطرفة من "أحرار الشام" إلى "جبهة فتح الشام" خلال معاركها في حلب. في أحد الفيديوهات المنشورة، يظهر المتدربون خلال إطلاق صواريخ "آر بي جي"، والعمل في فرق من أجل اقتحام أحد المباني. وفي فيديو آخر، يقوم رجلان بإخلاء الغرف، والقضاء على الأهداف باستخدام القنابل اليدوية والأسلحة تحت إشراف مدربيهم في "ملحمة".
بحسب التقرير، لا يُعد هذا النوع من التدريبات رخيصاً، إذ تكلف طلقة الـ"آر بي جي" التي تستخدمها الشركة حوالي 800 دولار الواحدة في السوق السوداء، وهذا ما يفسر اقتصار التدريبات العسكرية لجماعات المعارضة والجهاديين في سوريا على الزحف وحركات الأكروبات وتدريبات الرماية البدائية.
لكن التقرير يقول إن من يمكنه تحمل تكلفة تدريبات "ملحمة" من الجماعات الجهادية يعتبر أن الأمر يستحق تكاليف الدفع، ويؤكد ذلك مقاول عسكري أوروبي (فضل إخفاء اسمه) لافتاً إلى أن المهارات التكتيكية التي تتيحها "ملحمة" تمنح متدربيها تفوقاً واضحاً في المعركة السورية.
فيديوهات وأسلحة حسب الطلب
يعمل عناصر "ملحمة"، بحسب "فورين بوليسي"، من حين لآخر كقوات خاصة لدعم الجماعات الجهادية المختلفة. في سبتمبر العام الماضي، شاركوا مع الحزب الإسلامي التركستاني ضد قوات الأسد في جنوبي حلب، بحسب تصريحات معارض مقرب من المجموعة.
يوضح أبو رفيق أن الهدف الأساسي لديه هو تدريب الجماعات الجهادية بدل المشاركة في الصفوف الأمامية، وكذلك إنتاج معدات عسكرية عند الحاجة، حيث قامت "ملحمة" على سبيل المثال بتصنيع رشاش "بي كي أم" الشهير من عيار 7.62 ملم.
وتأخذ "ملحمة" وجودها على وسائل التواصل الاجتماعي على محمل الجد، حيث تستفيد من مواقع فيسبوك وتويتر والشبكة الاجتماعية الروسية "فيكونتاتي" للإعلان عن خدماتها، على الرغم من وقف حسابها على الأخيرة.
وعلى حسابها على إنستغرام، تبدو المجموعة أشبه بشركة سلاح كبرى، ففيه لقطات عالية الجودة للمقاتلين والأسلحة فضلاً عن لوغو متقن للشركة. وعلى يوتيوب، حصدت قناتها أكثر من 208 آلاف مشاهدة، بينما لا تمتلك القناة التابعة للجيش السوري الحر أكثر من 110 آلاف مشاهدة. وعلى هذه القناة، تتيح "ملحمة" دروساً مجانية للجهاديين حول صناعة القنابل اليدوية وتنظيف السلاح وعمليات الإخلاء وتقنيات آخرى.
يرفض أبو رفيق وصف عناصره بالمرتزقة، حتى لو كان يحصل على بدل مادي لقاء خدمات شركته، إذ يؤكد أن أهدافه أبعد من الحصول على المال، قائلاً "هدفنا مختلف، نحن نقاتل من أجل فكرة وهي الجهاد ضد الأسد".
يشير التقرير إلى أن شركة أبو رفيق لفتت أنظار السلطات الروسية، التي قصفت منزله وقتلت زوجته وطفله الرضيع، في وقت ينقل عن الأستاذ المساعد في جامعة الدفاع الوطني شون ماكفيت تعليقه على مواءمة المجموعة بين النشاط الجهادي وخصخصة الحرب باعتبار ذلك توجهاً فريداً من نوعه ومثيراً للقلق في آن.
هكذا، يخلص كاتبو التقرير إلى أن ما أرسته شركة أبو رفيق يُعد علامة فارقة في الحروب الحديثة، حيث بتنا نشهد إقدام متشددين على دفع الأموال من أجل الحصول على تدريب عسكري عبر شركة مقاولات جهادية عسكرية خاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين