أصدر النائب العام في السلطة الفلسطينية قراراً بمنع رواية "جريمة في رام الله" ومصادرة نسخها من الأسواق، وذلك لأنها تحوي "نصوص ومصطلحات مخلة بالحياء والأخلاق والآداب العامة من شأنها المساس بالمواطن ولا سيما القصّر والأطفال حماية لهم ووقاية من الانحراف"، كما استدعي كل من الكاتب والناشر والموزع إلى التحقيق.
تدور أحداث الرواية الرابعة للكاتب الفلسطيني "عبّاد يحيى" حول ثلاث شخصيات شابة من جيل ما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لكلٍّ منهم حكايته وعالمه الخاص، لكن حيواتهم ستتقاطع بعد حادثة قتل راحت ضحيتها شابة في مقتبل العمر، وستتغيّر مصائرهم بطرق غريبة بعد هذه الجريمة.
المقطع الافتتاحي في السرد هو خبر الجريمة: "20 تشرين الثاني 2012 - أعلنت الشرطة مقتل المواطنة ر.س البالغة من العمر 29 سنة إثر طعنها في ساعة مبكرة من فجر اليوم في شارع فرعي في حي الماسيون في مدينة رام الله، ولا تزال التحقيقات جارية لكشف ملابسات الحادث، ولم تعلن الشرطة اعتقال أي مشتبه بهم".
من هذا الخبر ينطلق السرد لينتهي بخبرٍ آخر في نهاية الرواية، وما بين الخبر الافتتاحي والختامي تمضي فصول الرواية، التي اختار الكاتب أن يبدأ كل منها بخبر سياسي أو اجتماعي أو علمي...
لا ترتبط هذه الأخبار بحبكة الرواية، باستثناء قلة قليلة منها، وأما الأغلبية فلا تتعدى وظيفتها سوى الإشارة إلى تاريخ الأحداث التي تجري في الفصل الذي يليها، إضافة إلى وظيفتها الفنية كتكنيك سردي، يمر عبره أحياناً ما له علاقة مباشرة بالجريمة وتطورات التحقيق فيها.
أول الشخصيات الثلاثة التي تشكّل محور العمل هو "رؤوف"، الذي يغرم بفتاة من النظرة الأولى إلى يدها في التاكسي، ويبدأ بمحاولة العثور عليها مجدداً في شوارع المدينة وأزقتها دون أن يوفق، ويبقى طيفها يلاحقه، وبسببها تتغير الكثير من تفاصيل حياته، فيهمل دراسته ويبدأ بالعمل في بار "أبو وليم"، ويعيش عدة علاقات عاطفية ينجح من خلالها في نسيان الفتاة جزئياً.
هل هو وباء سلطوي جديد؟ منع رواية "جريمة في رام الله" بتهمة "نشر الرذيلة" و"خدش الحياء العام" في فلسطين
صورة حقيقة عن الشباب الفلسطيني اليوم، وهزائمه الخاصة التي لا تشبه هزائم جيل "القضايا الكبرى"غير أن للحياة تصاريفها المختلفة، إذ إنه، وبعد شهور طويلة من العذاب، يتعرّف إليها في التلفاز تنقل أخبار الجريمة التي حدثت، "كانت هي دنيا، داخل تلفاز دكان صغير من نوع Philips كانت دنيا. في تلك اللحظة تحديداً عرفت اسمها... دنيا. كانت "هي" في كل أشهر الشوق والتعب والرغبة والحب والخوف والأمل". يدخل الكاتب عالم المثلية الجنسية من خلال شخصية "نور" الذي يسكن في الشقة مع "رؤوف" ويغرم به، ويعاني طويلاً بسبب اختفائه المفاجئ والغامض من حياته. تصوّر الرواية من خلال ما يكتبه "نور" الحياة التي يعيشها المثلي في المجتمعات العربية، ومقدار الآلام التي يمر بها نتيجة اختلافه، وليس غريباً أن يكون هو المتهم الأول بجريمة القتل التي تحدث أمام البار الذي يعمل فيه، ففي نظر الشرطة والناس جميعهم يكفي كونه "مثلياً" ليكون مصدراً للشرور، وجاهزاً لارتكاب أي فعل شائن. وهذا ما تلخّصه العبارة التي يتوصل إليها بعد سجنه وتعذيبه، "أتأكد أنني لم أكن متهماً في جريمة القتل، بل بأكثر الجرائم شيوعاً في العالم، محاولة أن أكون أنا". تتعدد الأساليب والتقنيات التي يلجأ إليها "عباد يحيى" في روايته، فمن تقنية الأخبار القصيرة التي ترد في بدايات الفصول، إلى استخدام تعدد الرواة، مروراً بالقفزات الزمنية واختيار صيغ اللغة من ماضٍ وحاضر في السرد. الفصول التي تحكي عن "رؤوف" تجري على لسانه بصيغة الماضي، ذلك أن معظم أحداثها يجري قبل الجريمة بأعوام، وأما فصول "نور" فهي تنقسم إلى قسمين، ما يكتبه بخط مائل ليحكي عن معاناته منذ مراهقته وحتى الآن، وما يكتبه بخط عادي وهو المتعلق باتهامه بالجريمة والذي يحدث الآن. يختار الكاتب الراوي العليم ليحكي عن الشخصية الثالثة "وسام"، الذي يعيش كآبة مرّة بعد طعن حبيبته وقتلها بعد خروجهما من البار وعودته هو ليجلب الهاتف الذي نسيه هناك، ويبقى السؤال الذي يقضّ مضجعه شهوراً بعد الحادثة، هو: "ماذا كان علي أن أفعل؟"، ذلك أنه حاول اللحاق بالمجرم ثم قبل أن يصل إليه عاد إلى جسد حبيبته المرمي في الشارع غارقاً في دمه، فلا استطاع إنقاذها ولا استطاع إمساك من قتلها. "وسام في الخلفية البعيدة يراقب، ويحس بأن الأمر لم يعد يعنيه وحده، يشعر بالتهديد من هؤلاء كلهم. يهرب لشقته، وينطوي، ليعيد ترتيب الأمور، ليتملّك ما حدث وحده، ليتأكد أنه صاحب الأمر كله. وأن ما يحرق رأسه هي أسئلته التي لا إجابة لها إلا لديه. ماذا كان عليه أن يفعل؟ أن ينقذها أو يمسك بالقاتل؟ لماذا عجز عن أي منهما؟ من أين أتى هذا العجز المطبق؟". تنجح هذه الرواية في قراءة الواقع السياسي والاجتماعي لجيل الشباب الفلسطيني الذي يعيش اليوم في تناقضات كبيرة، فهو وريث الجيل السابق، جيل القضايا الكبرى والهزيمة الكبرى أيضاً، ولكنه في الوقت نفسه، جيلٌ يعاني من قضاياه اليومية والذاتية ومن هزائم جديدة أنتجها الوضع القائم في فلسطين، جيلٌ تحوّل أفراده إلى ضحية مكان وزمان وحالة وُجدوا فيها وأمامهم خيارات محدودة للهرب منها، وهذا ما فعلته الشخصيات الثلاثة فاختار كل منهم الخلاص بطريقته من جريمةٍ مستمرة تحدث كل يوم. عبّاد يحيى روائي فلسطيني، مقيم في رام الله. باحث في علم الاجتماع وصحفي. له أربع روايات: "رام الله الشقراء"، "القسم 14"، "هاتف عمومي" و"جريمة في رام الله". الناشر: منشورات المتوسط/ إيطاليا عدد الصفحات: 240 الطبعة الأولى: 2017 يمكن شراء الرواية على موقع نيل وفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...