فارس، اسم مستعار لواحد من طلاب السنة الثالثة في كلية الهندسة الكهربائية بجامعة البعث، مدينة حمص. كان بإمكانه أن يتخرج خلال خمس سنوات، دون رسوب، لكنه يرفض ذلك. "سأرسب قصداً في هذه السنة، وفي العام المقبل سأتجاوز السنة الثالثة وأصعد إلى الرابعة، وسأرسب مجدداً بصورة متعمدة". يفسر فارس سلوكه هذا برغبته في الحصول على تأجيل دراسي كي لا يلتحق بخدمة العلم. حيث يسمح التعليم العالي لطلابه بتأخير فترة التحاقهم بالجندية مدة عام واحد، يُجدد دورياً.
منذ انتقال الحراك في سوريا إلى عتبة التسلح والعسكرة، وجد الجيش السوري نفسه يقاتل في جبهات عدة على اتساع البلاد. علماً أن ست سنوات ونيف من الحرب جعلت الدولة تلهث خلف ضم مقاتلين جدد لصفوف القوات المسلحة، الأمر الّذي عجل في إصدار جملة تشريعات تربط أغلب الدوائر الحكومية بشُعب التجنيد. فالحصول على موافقات التوظيف والسفر والزواج يتطلب، غالباً، إشعارات تأجيل مصدقة أصولاً من دوائر الجندية ووزارة الدفاع. باستثناء الشاب الوحيد، وهو الذي ليس لديه أشقاء ذكور، فإن جميع الرجال السوريين بين عمر الـ 18 والـ 42، والذين لا يعانون من مرض عضال أو عجزٍ جسدي ملحوظ، مطالبون بتأدية خدمتي الجيش، النظامية والاحتياطية، لدى استدعائهم إليها.
ويُستثنى من يثبت أنه معيل وحيد لأهله. وهناك لائحة أنظمة معمول بها لتأجيل الالتحاق بصفوف الجيش. هنا، نستطيع الحديث عما يمكن أن ندعوه، "تهرب السوريين من خدمة العلم"، حيث أصبح الشباب متمرسين في طرق تأجيل الالتحاق بالقوات المسلحة. أمثال فارس ممن ينهون دراستهم الجامعية، يلجؤون إلى دراسة الدبلوم أو الماجستير للحصول على المزيدِ من فرص تأجيل الخدمة الإلزامية. بعض طلاب الدراسات العليا لا يعرفون حتى محتويات كتبهم ومضامين المناهج، فالمهم، أولاً وقبل كلّ شيء، هو مصدقة تؤخّر سوقهم إلى الجبهات عاماً إضافياً.
تعددت الأسباب، والتهرب واحد
داخل سوريا، هناك شباب يقفون ضد صف الجيش، ولا يؤمنون بصوابية الدور الذي يقوم به، فتراهم يستثمرون كل السبل المتاحة لتفادي الالتحاق بالخدمة الإلزامية. وفي المقابل فإن هناك فئة ترفض أن تلتحق بالمقاتلين الحكوميين، على الرغم من كونها تؤيدهم، سياسياً ووجدانياً. بين هؤلاء من يخشى أن يلاقي مصير عسكريين جرى الاحتفاظ بهم مدة ست سنوات، والاحتفاظ هو تأخير الدولة لتسريح العسكري الذي أتم فترة الخدمة الإلزامية، المقدرة بـ 24 شهراً، وذلك لضرورات تحددها القيادة العسكرية. يؤكد ماهر، وهو اسم مستعار لشاب سوري مقيم في دمشق، أنه لا يرفض الالتحاق بصفوف الجيش من حيث المبدأ، فهو متفق مع نهجه منذ بداية الحرب إلا أن المشكلة برأيه تكمن في عدم وجود قانون يحدد الزمن الأقصى للاحتفاظ بالعسكريين.نستطيع الحديث عن "تهرب السوريين من خدمة العلم" حيث أصبح الشباب متمرسين في تأجيل الالتحاق بالقوات المسلحة
"خلال ثلاثة أشهر، اشتغلت على زيادة وزني" هكذا يقول بسام الذي أصبح وزنه 150 كيلو ،حصل على تأجيل من الجيش"تخرجت من كلية الاقتصاد قبل عام واحد، وعمري الآن 23 عاماً، أخشى أن ألتحق بخدمة العلم فلا يصار إلى تسريحي قبل سبع سنواتٍ مثلاً، أي أنني سأعود إلى الحياة المدنية وأنا في بداية عقدي الثالث، عندها سيكون قطار تأسيس الأسرة قد فاتني، هذا على افتراض أنني لم أستشهد وخرجت من الميدان سالماً دون تشوهات أو إصابات حرب".
الخير للأغنياء والجبهة للفقراء؟
أما خلدون، اسم مستعار لشاب عشريني يقيم في جرمانا/ ريف دمشق، فيشعر بنقص الانتماء وغياب الدوافع التي قد تجعله جاهزاً للتضحية بحياته كرمى لقضية ما، وذلك على الرغم من تمسكه بشكلِ الدولة وبنيتها المؤسساتية. يشعر بتأنيب الضمير أحياناً لأنه يقف مع صف الجيش ويسانده نظرياً فقط. وما إن يقرر الالتحاق بركب المقاتلين، حتى يتحسس فقر عائلته ووضعهم المعيشي المتردي، فينكفئ ويدير ظهره للفكرة. فهو يشعر بأن لا قيمة للتضحيات في بلد "ينهب خيراتها المسؤولون الحكوميون بالشراكة مع بعض حيتان المال". "يخطر في بالي أنني قد أموت ليغرق هؤلاء في مزيدٍ من العسل"، يقول خلدون. يتذكر خلدون ابن عمه المُحتفَظ في الجيش منذ خمس سنوات وعودته لزيارة ذويه في دمشق حينما حصل على إجازة مدة يومين. ويضيف: "لم يستطع الاستحمام بسبب عدم توافر المياه، وعلى بعد خمسين متراً كان "الصهريج" المتنقل يملأ ثلاثة خزانات في بيت رجل متنفذ وسط خيبة باقي سكان الحيّ". ويستطرد: "ظواهر كهذه تجعلني أجرب كل الطرق لتأجيلَ الخدمة الإلزامية، فأنا لا أريد أن أضحي بحياتي لأجل بلد خيره لأغنيائه وجبهاته للفقراء".التهرب سيراً على الأقدام
يصبح بعض الذين يستنفذون فرصهم في تأجيل خدمة العلم، مطلوبين للسوق وتُعمم أسماؤهم على حواجز الجيش السوري المنتشرة في جميع الجغرافيات الخاضعة لسيطرة الدولة. هؤلاء "المطلوبون" استطاعوا أن يوجدوا بعض الوسائل التي تسمح لهم بالتنقل ضمن حيز ضيق دون الاضطرار للوقوف على أحد حواجز الجيش. وسيم، شابُ سوري يبلغ من العمر 32 عاماً، مطلوب لخدمة العلم منذ ثلاث سنوات، ولم يغادر دمشق، لكنه استطاع أن يتكيف مع الوضع الراهن بطريقته الخاصة. يعمل ضمن متجرٍ في حي الشعلان بدمشق، لذا استأجر شقة صغيرة في شارع بغداد، حيث المسافة بين المنطقتين قصيرةٌ نسبياً، وصار يتنقل، بين البيت والشغل، سيراً. فالحواجز داخل دمشق، بحسب وسيم، لا تنشغل بـ"تفييش" المارة، فهي تهتم فقط بالسيارات والمركبات. و"التفييش" هو أن يأخذ عسكري الحاجز هويتك الشخصية ويدخل بياناتها إلى الكومبيوتر الذي ينبئه بأنّ فلاناً مطلوب للسوق وبأن فلاناً مؤجل. "للتفييش مواسم نشاطٍ ومواسم خمول، فالشهر الخامس والشهر الأخير من كل سنة يشهدان تدقيقاً وتشديداً من الحواجز الحكومية، فهما الشهران اللذان يليان شهري السوق (آذار وتشرين الثاني) وخلالهما تكون العناصر الطرقية قد زودت بقوائم محدثة للمتخلفين عن خدمة العلم" يختتم وسيم. أجّل إدارياً بمزيدٍ من الطعام. بسام، اسم مستعار لشابٍ ثلاثيني من مدينة حلب، مقيمٍ في دمشق، له قصة طريفة مع شعب التجنيد. "طولي 170 سم، كان وزني قبل ستة أشهر نحو 130 كيلوغراماً، وكان اسمي معمماً على حواجز العاصمة كلها، الأمر الذي دفعني للتنقل راجلاً مدة عامين" . هكذا يوصف بسام مشكلته، ويضيف: "خلال ثلاثة أشهر، اشتغلت على زيادة وزني (150 كيلو) حتى وصل إلى عتبة اعتُبرت بعدها غير لائقٍ بالخدمة الإلزامية، فحصلت على تأجيل إداري وإشعار كف بحث، مسح بموجبه اسمي عن سجلات المطلوبين للسوق، وحين تأكدت أنني أصبحت حر الحركة، سافرت مباشرةً إلى بيروت، وسأبقى في لبنان إلى حين انتهاء الحرب".بدل نقدي للإعفاء من الخدمة
ينص القانون المعمول به في سوريا على أن كل شاب يغترب أربع سنوات كاملة، يصير قادراً على دفع "بدل خارجي" قيمته 8000$، ثم يسمى، رسمياً، معفىً من خدمة العلم ويصبح بإمكانه أن يعود إلى البلاد دون أن تلاحقه الشرطة العسكرية. هذه الطريقة تدفع آلاف الشباب للسفر إلى أي بلد كان، بقصد قضاء زمن الاغتراب وجمع المال لدفع البدل، الأمر الذي أدى إلى نزوح كفاءاتٍ كثيرة "هرباً" من الخدمة العسكرية. مؤخراً، أعاد رجل الأعمال والنائب في البرلمان السوري، محمد حمشو، طرح فكرة البدل الداخلي، الذي يعفى بموجبه المكلفون من خدمة العلم لقاء دفع مبلغٍ، يحدد لاحقاً، إلى خزينة الدولة مع إسقاط شرط السفر والاغتراب. انقسم الشارع حيال مقترح البرلماني السوري، فالبعض اعتبر أن هذا الحل يجعل الجيش مكوناً من الفقراء فقط، أما الأغنياء والميسورون فيصبحون معفيين من خدمة دهم. شعاراتياً، ونظرياً، فإن في هذا الكلام وجه حق، لكن الواقع يقول إن الجيش قد تحول، بالفعل، إلى جيش فقراء.، فالأغنياء أداروا ظهورهم للخدمة العسكرية منذ زمنٍ طويل، وحتى عائلات الطبقة الوسطى صارت تجهد لتأمين المال الذي يُسفّرون به أولادهم خارج البلاد هرباً من الخدمة الإلزامية. في المقابل، رحب عدد كبير من شباب سوريا بمقترح حمشو، ورأوا فيه فرصة لمنع هجرة الكفاءات إلى الخارج، ووسيلة لرفد خزينة الدولة بالقطع الأجنبي بصورة تساعد على رفع رواتب العسكريين، الأمر الذي قد يشجع مزيداً من الفتيان على الالتحاق بصفوف الجيش.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون