قبل عام على نهاية القرن العشرين استطعت الحصول على بيت خاص بي أخيراً. نعم لقد انتظرت قرناً كاملاً كي أحقق هذا الحلم شبه المستحيل في سوريا، فلقد تزوجت في بيت بالآجار بعقد سياحي لمدة ستة أشهر، ثم طورت نفسي مادياً فاستأجرت بيتاً غير مفروش وفرشته، أدوات منزلية بالتقسيط، وسرير بالتقسيط، وحياة كاملة مسجلة على دفاتر البقالين والجزارين... لكن آن الأوان لرمي يمين الطلاق على الآجار والاستئجار، فلقد جاءت معذبتي ـ حماتي طبعاً ـ في غيهب الغسق، وطلبت مني أن أشتري بما تبقى من مال ثمن ما أخذته عن مسلسل كتبته بيتاً في ضاحية قدسيا بالتقسيط.
سأشتري البيت من صاحبه الذي سجل عليه منذ قرن، وأسكنه، وأدفع ما تبقى عليه من أقساط. وبالفعل اشترينا، دفعنا ما كان قد دفعه طيلة عشرين عام وقرأنا الفاتحة. سندفع الأقساط الشهرية لمدة خمسة عشر عام لا أبا لكَ يسأمِ، إلا أن حماتي التي تقطن في منطقة شرقي التجارة الراقية قرب ساحة العباسيين اقترحت فكرة أخرى، لماذا لا تعمرون بيتاً مخالفاً للقوانين في حديقة بيتي؟!
أسرتنا الفكرة. يجب أن نستعيد أموالنا من صاحب البيت المقسَّط، فهو بيت بعيد، والمواصلات إليه صعبة، وسندفع كل ما نملك لسائقي التكاسي الصفراء إذا استقرينا في الضاحية. لكن السؤال يا حماتي الغالية هو كيف سنعمر بيتاً مخالفاً وسط دمشق دون أن تهده البلدية؟!! هل لديكِ واسطة؟! هل أنت ضالعة في علوم الفساد والإفساد في هذه البلاد؟! كان الجواب أن لا، حماتي تقترح من عندها، بينما كان عقلي يعمل بسرعة لا متناهية قبل أن تبدل رأيها...
ووجدتُها يا صاح! وجدتُها، لن أحتاج إلى واسطة، لن ألوث نفسي بالفساد العام، لأن البلدية لن تهدم داري. ليس لأنها رحيمة لطيفة، وليس لأنني سأضع في فمها الجشع حفنة من الدولارات، لا، السبب وطني بحت، وطني قومي عربي إشتراكي جمهوري بعثي عمالي فلاحي طلابي، فالبلدية أسوة بكافة دوائر الدولة عاطلة عن العمل هذه الأيام، أو فلنقل معطلة...
ولمَ لا، ففي هذه الأيام من نهاية القرن العشرين، يقوم الشعب العربي السوري كما وصفنا التلفزيون بتجديد البيعة للأب القائد حافظ الأسد، ودوائر الدولة منهمكة بالفرح، بل وغارقة بالفرح، الكل يدبك، الكل يرقص، الكل يستخدم ابتسامة عريضة تشق الأحناك، وما أدراك ما الأحناك، مجلس الشعب قدوة المجتمع يدبك، حلقات ضخمة يقيمها الأعضاء الذين كانوا سابقاً ينامون في الجلسات النهمة. لا… لا وقت للنوم الآن، فالحدث جلل، والفرح إجباري.
مجلس الشعب يرقص، دوائر الدولة ترقص، سجلات قيد النفوس بأمواتها وأحيائها وأجنتها ونطفها ترقص، الشعب يرقص، ومجلس الشعب يمسك برأس الدبكة، وحافظ الأسد في قصره يراقب عبر شاشة التلفاز كم هو محبوب، وأنا في شارعي المفضل أراقب وأفكر، إذا كان الجميع يرقصون فلا بد من أن البلدية أيضاً ترقص.
قمت بالدورية، حتى تأكدت أن كل البلديات في هياج راقص سعيد، الجميلات البعثيات وسط الدبكة، ولابسو الطقم السافاري يتزاحمون على كسب ودهن وأكفَّهن الوطنية، والوزراء يتسابقون في الرقص، وأنا أفكر… عقلي بدأ يرقص، سأعمر البيت المخالف، فلا حياة لمن تنادي، واستعدتُ نقودي منقوصة ألف دولار يا رعاك الله من صاحب بيت الضاحية، وبدأت بنهج العمران، وارتفعت الحيطان.
هرع الجار الحقير العوايني إلى البلدية شاكياً، بيت مخالف في حي التجارة، يا للهول، لن تسمح البلدية بذلك! ذهب الجار إلى البلدية الأولى فوجدها ترقص، يا شباب هذا الرجل الأندبوري يريد أن يصبح جاراً لي أنا ابن الحكومة الفاضلة، يريد أن يخالف القوانين ويمتلك بيتاً وسط المدينة، لكن موظف البلدية سحبه من يده إلى وسط الدبكة، ارقصْ ارقصْ، لا وقت لهذه الأشياء، ارقص على أنغام أبو باسل قائدنا يا ابو الجبين العالي، ارقص على أنغام سوريا بلدنا وحافظ يا أسدنا، ارقص يا فتى فالرئيس قد أتى...
ورقص الجار بينما كنتُ أعمِّرُ الدار، ولما بدأتُ بصب السقف وقف الجارُ يتأملني بحيرة واضحة، وسألني راقصاً إذا ما كنت أمتلك واسطة، فأجبته أن لا، فهرع من جديد إلى البلدية، وقدم تقريره إلى الموظف الذي استلمه منه وهو على رأس الدبكة، وبدأ يلوح بالتقرير عوضاً عن المنديل، ويدعو الجار بعينيه إلى جواره في الدبكة، وأمسك الجار بيد كبير الموظفين الراقص، وصرخ في أذنه أنني سقفتُ البيت المخالف، لكن سقف بيتي لم يكن بأهمية سقف الوطن الذي يدبك تحته الموظفون الآن...
سقف بيتي الذي زينته بالقرميد الأحمر والبلدية ترقص، بيتي الذي كسوته والبلدية ترقص، ودهنته والبلدية ترقص، وركَّبتُ له حنفيات المطبخ والحمام والبلدية ترقص، وبلطته ببلاط يشبه رقعة الشطرنج والبلدية ترقص، ونقلتُ إليه أثاثي والبلدية ترقص، وسكنتُ فيه مع عائلتي والبلدية ترقص، ثم طلقتُ زوجتي بعد أن أطمأن قلبي إلى أنها تملك بيتاً والبلدية ترقص. ودامت الأفراح في دياركم.
نعم لقد استفدتُ في لحظة تاريخية من الفساد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون