علاقتي وعلاقة العديد من أبناء جيلي، ممن وُلد ونشأ في ثمانينيات القرن الماضي، بمحمود عبد العزيز، الذي توفي مساء السبت، تتعدى الإعجاب بموهبة تمثيلية. هى علاقة ليست كالانبهار بأيقونة ما، أو الإعجاب بممثل بارع، بل هي حبنا لشخص شعرنا أنه يمثلنا ويمثل ما نحلم أن نكون عليه، وكأنه واحد منا على الرغم من فارق السن الكبير بينه وبيننا.
"إحنا بنخاف من الموت ليه وإحنا كلنا متنا كذا مره" - محمود عبدالعزيز في مسلسل "جبل الحلال"
ألمّ المرض بعبد العزيز، الذي لقب لسنوات بساحر السينما المصرية، خلال الأشهر الأخيرة، ونالت منه إشاعات وفاة متتالية، نفتها عائلته حتى حضره الموت يوم السبت 12 نوفمبر. امتلأت صفحات فيسبوك بصوره وأشهر أقواله من أفلام أدى فيها شخصيات مختلفة كـ"رجل الحارة الكفيف" و"سائق التاكسي" و"المطرب الهابط" و"الجاسوس المحب لمصر" و"الزوج الغاضب". أكثر من 80 فيلماً ودوراً، تعلقنا من خلالها بعفوية محمود عبدالعزيز على الشاشة، وانسياب الشخصيات بسلاسة."احنا اللى خلينا الشكرمون طاخ في الترالوللي" - محمود عبدالعزيز من فيلم "الكيف"
بدأ محمود عبد العزيز حياته المهنية كممثل متوسط بأوائل السبعينيات، أي قبل ميلاد معظمنا بعدة سنوات على الأقل. لكنه وصل لذروة تألقه وأريحيته في الأداء الفني في وقت كنا جميعاً نتكون كشخصيات يافعة في عصور ما قبل القنوات الفضائية والإنترنت. لا أتحدث هنا عن "القدوة" طبقاً لمفهوم الفنان "محمد صبحي"، لكن عبد العزيز جمع بين التمثيل المقنع والسلاسة في تقديم الشخصية التي جعلتنا، كأبناء جيل شاب، نريد أن نكبر لنتكلم مثله ونضحك مثله ونرتدي مثل ثيابه، بل نقع في نفس مواقف وصعوبات شخصيته التمثيلية ليكون رد فعلنا تجاهها مثل ما قام به بأدواره.من الشاب الوسيم إلى الأب الكفيف
يقول الناقد السينمائي محمود مهدى، الذي يقدم ويعد برنامج "فيلم جامد"، أنه تعرف على عبد العزيز عن قرب لأول مرة عن طريق فيلم "الشقة من حق الزوجة" والذي تم إنتاجه عام 1985 وتناول مشكلة الشباب فى تدبير مصاريف معيشتهم بعد الزواج. "من الغريب الآن أن يكون هذا الفيلم هو سر تعرفي على محمود عبد العزيز كممثل حقيقي برغم أنه يأتي تحت التصنيف الكوميدي الخفيف ضمن سجل أعماله، بل قد يكون تجرأ فيه على رسم أبعاد كوميدية صارخة لا تتوافق مع وسامته ومكانته في مقدمة نجوم الدور الذكوري الأول في ذلك الوقت. ضحكت ضحكات طفولية كثيرة أثناء مشاهدة الفيلم ولكني أذكر بوضوح تألمي الشديد لمعاناة "سمير" ومعضلاته الاقتصادية، وأني بدأت في مشاهدة محمود عبد العزيز بعين مختلفة منذ ذلك الوقت". يقول الناقد السينمائى أحمد يوسف إن حقيقة مثيرة للاهتمام في فنون الأداء، كالغناء والتمثيل تنطبق على عبدالعزيز. فكثيراً ممن يدخلون هذا العالم يكونون متواضعي الموهبة فى البداية، لكن مع الأيام والأعمال يتقنون الأداء أكثر، وكأنهم اكتشفوا مفاتيح خاصة بهم بشكل فطري. "نرى مثلاً بدايات عبد الحليم حافظ الباهتة فى أوائل الخمسينيات، ونضج صوته فى منتصف الستينيات بنفس الطريقة، أما محمود عبد العزيز فدخل التمثيل من باب الشاب الحليوة، لكن ذكائه جعله يدرك بعد حوالى عشرة أعوام من العمل الفني إنه يتوجب عليه البعد عن مسألة الوسامة. دائماً ما أضرب هنا المثال بالغ الوضوح في فيلم الكيت كات". يتفق مهدي مع يوسف في كون فيلم "الكيت كات" الذي انتج عام 1991 محطة مهمة في مشواره. فهو يراه الفيلم الثاني والأبرز، بعد "الشقة من حق الزوجة"، في مسيرة عبد العزيز. &list=RDeABeKCNsrB8#t=5 "هو العمل الذي دل على أن محمود عبد العزيز كان تواقاً للانتقال لتحديات كل مرحلة عمرية وكان سريع التأقلم مع طبيعة كل مرحلة. فبينما كان يقوم بدور الشيخ حسني، والد شخصية يجسدها "شريف منير" وهو في عمر 32 سنة، كان أقرانه يتشبثون بأدوار أكثر إلفة مع مراحل شبابهم، فكان عادل إمام يقدم "اللعب مع الكبار" وكان أحمد زكي يقدم "الراعي والنساء"."حد له شوق في حاجة؟" - محمود عبدالعزيز من فيلم "إبراهيم الأبيض"
نحن، جيل الثمانينات، نستخدم "الإيفيهات،" أو عبارات الأفلام الشهيرة للتعبير عن حزننا وفرحنا وانبهارنا. وجدنا في أفلامنا ما قل ودل من الكلمات لنحكي عن أحوالنا. وإن كانت "الإفيهات" لغة جيلنا، فعبد العزيز هو من أحد أشهر من اقتبسنا منه. لعل الإبداع يكمن في نصوص بعض أفلامه القوية الي كتبت في الثمانينيات، لكن الأداء العفوي لعبد العزيز هو الذي أوصلها لقلوبنا مباشرة. شادي أمير هو أحد محبي عبد العزيز، وقد حفظ أقواله عن ظهر قلب، وهو يرى أن هناك شخصيتين لعبد العزيز هما الأبرز سينمائياً والأكثر حضوراً في أذهان المصريين. أولاهما شخصية الشيخ حسني في فيلم "الكيت كات" وهي الأقرب إلى قلب أمير، ولعب فيها عبد العزيز دور الرجل الكفيف الفقير في حارة شعبية. أما الشخصية الأخرى فهي تاجر المخدرات "عبد المالك زرزور" في فيلم "إبراهيم الأبيض"."بحبك يا ستمونى مهما الناس لاموني" - محمود عبدالعزيز في فيلم "الكيف"
جاء عبدالعزيز إلى ساحة تربع على قمتها مبدعو جيله، نور الشريف وعادل إمام وأحمد زكي. وقد خاض في جميع الألوان، الدراما، والكوميديا والرومانسية والجاسوسية والتشويق، فبرع بها جميعاً. فكاهيته لم تكن مجرد كتابات حفظها ويمثلها ببراعة بل كان في أدائه كمن يستمتع بالأداء برفقة أصدقائه. فصرنا نحن، أبناء جيل الثمانينيات، نقلده في كلامه وفي نكاته وحركاته، ونستخدم أقواله في حواراتنا. أحمد زكي، على سبيل المثال، كان ممثلاً بارعاً، لكنه لم يمثل جيل الثمانينيات، في ضحكاته وسخريته ومشاكله. وقد ظل عادل إمام يمثل دور الشاب الفقير الذي يتحدى مؤسسة الأغنياء لكنه كان أشبه بأميتاب باتشان، الذي يلعب أدواراً نحبها ونعلم في نفس الوقت أنها غير واقعية. يقول يوسف: "محمود أدرك أنه لا يوجد "نجم" يحقق الاستمرار، وأنه كان يجب أن يتحول إلى "ممثل" ونجح فى ذلك، ومع ذلك كان يدخل بطريقة بسيطة وبدون مبالغة لمسته على الشخصية. كل شخصياته تقريباً بوهيمية، حتى أسير مفهوم السجن في "سوق المتعة"، خلق ذلك نوعاً من خفة الظل المحببة للمتفرج وحالة من التوحد بين المتفرج والشخصية، حتى لو كانت متفردة تماماً مثل الشيخ حسنى". ويضيف يوسف أن عبدالعزيز جسد فكرة الأداء بالفطرة، بمعنى أنه لم يكن يؤدي بشكل منهجي أو بجهد، كنور الشريف أو أحمد زكي، بل كان يمسك بالشخصية دون جهد دراسي، فتخرج حيوية فى تصرفاتها.وفي تل أبيب...
تلفزيونياً، ارتبط اسم عبد العزيز بعميل المخابرات المصرية، الجاسوس رأفت الهجان. الهجان، أو ديفيد شارل سمحون كما كان يعرف بإسرائيل، ليس كجيمس بوند، بل كجارك الذي يسكن أمامك. طيب ومتواضع، لا يبهرك، بل يحرك مشاعر الألفة لديك. كان ساحراً بطيبته في المسلسل الذي استمر على مدى 3 سنوات، فأقنعنا بحب النساء له. يرى أمير أن حبه لعبد العزيز فى دور الهجان يفوق حبه للجاسوس الأصلي رفعت الجمال. "قيل الكثير عن الجمال حتى أنني قرأت أنه كان عميلاً مزدوجاً يعمل لصالح العدو. لكن كل ما قيل وسيقال لا يهم، فحبي هو للهجان في الشخصية التي قدمها عبد العزيز وسيبقى هكذا للأبد".يموتون ونكبر
لعل حزن أبناء جيل الثمانينيات على وفاة عبدالعزيز هو لإدراكه أنه دخل في منتصف العمر، وأن رموز هذا الجيل دخلوا خريف عمرهم وبدأوا بالرحيل، وبوفاته ينتهي ثلاثي الدراما الأبرز الذي مثل طموح وأحلام ومخاوف جيل الثمانينيات، محمود عبدالعزيز ونور الشريف وأحمد زكي. "أدرك فداحة خسارة فنان بحجم محمود عبد العزيز ولكني لا أرى في مسيرته ما يستدعى أي شيء غير الاحتفال"، يقول مهدي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه