شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل الجماعات الإرهابية مشاريع اقتصادية ناجحة؟

هل الجماعات الإرهابية مشاريع اقتصادية ناجحة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اقتصاد

الأربعاء 31 مايو 201705:43 م
سؤالي هو دعوة لفتح دراسات علم الاقتصاد على ظاهرة الإرهاب التي نواجهها اليوم، والتي تتشابك فيها السياسة والدين مع المخاطر الاجتماعية والهواجس الأمنية. ولسؤال أنفسنا هل علم الاقتصاد قادر على مساعدتنا في فهم الإرهاب؟ حقيقة، يمكن لعلم الاقتصاد أن يساعدنا في فهم أي موضوع يقوم على تبادل اقتصادي، وهو دون شك منظور هام لفهم عمل التنظيمات الإرهابية. مع أن الإرهاب يتصدر مئات المقالات التحليلية والحوارات والمقابلات التلفزيونية، وآلاف الدراسات، من جميع بقاع العالم، فإن نسبة مقاربة الجماعات الإرهابية كتنظيمات اقتصادية قليلة وغير منهجية. ولكن إذا اعتمدنا علم الاقتصاد، وبحثنا في كلفة إنتاج الإرهاب، وتفاوت الإنتاج والطلب، فسنجد أن التنظيم الإرهابي حقيقة يشبه المشاريع الاقتصادية. وبمعنى آخر: التنظيم الإرهابي هو مشروع اقتصادي، هناك ظروف وشروط مادية لنجاحه، وكذلك أسباب اقتصادية لخسارته وفشله. وكما سيتبدى في هذه المقالة، بمقدور أيّ منا أن يحلل ويفهم الإرهاب من منظور الاقتصاد، وسيكون من المفيد إدراج مفاهيم الاقتصاد الأساسية ليس فقط في فهم الإرهاب، بل أيضاً في نظرتنا لما يجري في عالم السياسة وصراع القوى، فهناك جانب اقتصادي يلعب الدور الأهم في كل ذلك. إن دراسة قاعدة بيانات الإرهاب العالمي (GTD) من منظور علم الاقتصاد، تقدم لنا مجموعة من الاستنتاجات المثيرة للاهتمام، وهنا أهمها:

الملاحظة الأولى

الجماعات الإرهابية التي نشطت في القسم الثاني من القرن العشرين، كانت في الواقع وسطية، صغيرة الحجم كثيرة العدد. ويمكننا أن نشرح أسباب ذلك، بالاعتماد على نظرية الاقتصاد. أول ما يتبادر للأذهان عند قراءة هذه النتيجة، هو التساؤل عن أخطر تنظيم إرهابي اليوم، الذي هو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش، لأنه بعيد كل البعد عن كونه صغيراً، ولهذا أيضاً تفسير اقتصادي. فمع أن تنظيم الدولة يعتمد دون شك على الإرهاب كممارسة أساسية لوجوده، إلا أنه ليس تنظيماً إرهابياً بالمعنى التقليدي. بل هو نوع جديد لا يشبه أو يطابق مواصفات التنظيمات الإرهابية التي سبقته. ومع أن التنظيم يحصل على تمويل مادي خارجي دون شك، إلا أنّ له القدرة على تمويل نفسه. فيخلق موارد جديدة لأنه يحتل أراضي، ويستثمر بنى تحتية، وموارد في المناطق الواقعة تحت سيطرته. كما أنه يفرض الضرائب، وله حضور ناجح على وسائل التواصل الاجتماعي، ومشروع إيديولوجي وبرامج دعاية متطورة. فمن منظور اقتصادي، إلى حدّ ما، هو أقرب لكونه "دولة".
للقضاء على الجماعات الإرهابية، علينا أن نجعل الإرهاب مكلفاً... نظرة اقتصادية إلى واقع الإرهاب اليوم
بناءً على هذه الملاحظة الأولى، سأبدأ من مفهوم قدمه لنا آدم سميث الذي اكتسب لقبه الشهير كأب لعلم الاقتصاد الحديث، وأثبت أنه مفيد للغاية في الثورة الصناعية: والمفهوم هو ما اصطلح على تسميته "وفورات الحجم"، يعرف أيضاً بـ"اقتصادات الحجم" أو "اقتصادات السلعة". ويتلخص هذا المبدأ بانخفاض كلفة الوحدة المُنتَجة، من خلال زيادة كمية الإنتاج. فإذا أخذنا، مثلاً نموذج كلفة بسيط، وليكن توظيف عدد من العمال لتعمير شقق سكنية، فسيكون هناك كلفة ثابتة مثل كلفة الإيجار مثلاً، وكلفة متغيرة مثل أجور العمال. وفي هذا النموذج، تكون النتيجة أنك كلما أنتجت أكثر قلّت كلفة إنتاج الوحدة، والسبب أن الكلفة الثابتة (الإيجار في هذا المثال) لا ترتفع مع ارتفاع حجم الإنتاج (عدد الشقق التي ينفذها العمال)، ولكنها في الحقيقة تتوزع على وحدات أكثر. ولمزيد من الإيضاح، شركة "تسلا" لصناعة السيارات الكهربائية مثلاً، تدفع كلفة ثابتة على الأبحاث واختبارات الأمان والتصميم. ولكن مع كل إنتاج سيارة جديدة تنخفض الكلفة الشاملة لإنتاج السيارة الواحدة، لأن الكلفة الثابتة تتوزع على عدد أكبر من السيارات. وفي حين أن وفورات الحجم فعالة في نموذج التصنيع، فإن النقيض ممكن أيضاً: "تبذيرات الحجم"، ويتلخص في زيادة كلفة الوحدة بسبب التوسع وزيادة حجم الإنتاج. والمثال الأكثر شيوعاً لما يسبب تبذيرات الحجم هو كلفة الاتصال. فإذا كان عندك فردان (موظفان)، فأنت تحتاج إلى حلقة اتصال واحدة، ولكن إذا كان عندك عضو ثالث فأنت تحتاج إلى ثلاث حلقات اتصال. كيف ينعكس هذان المبدآن على التنظيمات الإرهابية؟ لكي أجيب على هذا السؤال أورد توصيفاً مختصراً لأهم سمات الجماعات الإرهابية: الجماعات الإرهابية تحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة، دائماً أكثر تطوراً من الجهات التي تلاحقها. وتحتاج لأن تكون خلاقة في طريقة ضرب أهدافها. فلا يمكن ضرب الهدف نفسه أكثر من مرة، فبعد ضرب مطار في مكان ما، تتشدد الحراسة الأمنية على كامل المطارات المجاورة، وعند استهداف مدرسة، تتنبه السلطات المسؤولة إلى ضرورة تشديد المراقبة عند المدارس، وهكذا، فعلى مخططي الإرهاب إيجاد طرق جديدة. كما أنها تحتاج إلى استجابة سريعة في زمن قصير. الوقت هو أهم العوامل في العمليات الإرهابية، فالثواني والدقائق قد تغير مصير منفذي العمليات الإرهابية. كما أن الجماعات الإرهابية تعتمد في استمرارتيها على ديناميكية في اتخاذ القرار. كل هذه العوامل، من منظور علم الاقتصاد، توضح لماذا على الجماعات الإرهابية أن تبقي على حلقات صغيرة لكياناتها دائماً.

الملاحظة الثانية

لن تقلل جهود الحكومة بالضرورة من عدد الهجمات الإرهابية (أي "كمية" الإرهاب) ولا من عدد الجماعات الإرهابية. تقول لنا نظرية الاقتصاد إن جهود الحكومات قد لا ينتج عنها حدّ لعدد العمليات الإرهابية التي تنفذ، لكنها قد تنجح في تخفيض شدة الإرهاب. بمعنى آخر، تستطيع الحكومة أن ترفع درجة الأمن، أو أن تحد من الطلب على الإرهاب (مثلاً، قطع أو الحد من التمويل الذي تعتمده الجماعات الإرهابية). التشديد على الأمن من قبل الحكومات يعني أن الكلفة الإجمالية لإنتاج الإرهاب، ترتفع بنسبة طردية. وهذا بدوره سيخفض من "حجم إنتاج" الإرهاب لأنه سيصبح أكثر كلفة. ولكن أي خطوات تقدم عليها الحكومات، مع قدرتها على الحد من "شدة" الإرهاب، لن تؤثر على العوامل الإنتاجية ذات التكلفة الثابتة. سأوضح هذه الملاحظة عن قدرة الحكومات على تقليص عدد العمليات الإرهابية والحد من شدتها، وكيف ينعكس ذلك عملياً على الجماعات الإرهابية في المثال التالي: إذا كانت لدى جماعة إرهابية كلفة ثابتة عالية (الإيجار، والتكنولوجيا، ورأس المال البشري، والسلاح، إلخ ...)، وبدأ التمويل من الرعاة للإرهاب بالانخفاض بسبب ممارسات الحكومة لمحاربة الإرهاب، فإنه في هذه الحالة تزداد الكلفة الهامشية لإنتاج الإرهاب. وهي التغير في الكلفة الكلية نتيجة تغير الكمية المنتجة بوحدة واحدة، بمعنى آخر الكلفة الهامشية هي كلفة إنتاج وحدة إضافية واحدة. لكن الكلفة الثابتة ستبقى قائمة في جميع الأحوال: إن أنتجت الجماعة أو لم تنتج، أي سواء قامت الجماعة بأعمال إرهابية أول لا. وهذا يعني أن الجماعة الإرهابية مضطرة لدفع تكاليف الإيجار، والسلاح والتكنولوجيا، سواء استخدمتها لأعمال إرهابية أم لا. ولهذا، فإن الجماعات الإرهابية تجد من مصلحتها الاقتصادية الاستمرار في الإنتاج (أي القيام بأعمال إرهابية)، ما دامت الكلفة الإضافية مساوية للسعر المدفوع (من رعاة الإرهاب). وهذا مثال لنموذج التنافس الاقتصادي، لأن الجماعات الإرهابية صغيرة، وعديدة ولا يمكنها التحكم بالسعر.

الملاحظة الثالثة

يجب أن لا تقاس فعالية سياسية الحكومة ضد الإرهاب على المدى القصير. فالتغير في نشاط الإرهابيين على المدى القصير لا يمكن أن يكون معياراً لفعالية إجراءات الحكومات ضد الإرهاب أو لفشل مساعيها، وبدلاً من ذلك يمكن للحكومات على المدى الطويل تقدير مدى فعالية سياساتها. الكلفة الثابتة كما يشير اسمها "ثابتة" لا تتغير، وبالتالي، فإن النشاط الإرهابي لن يعكس فعالية سياسة الحكومة على المدى القصير. أما إذا بقيت الكلفة الإجمالية للجماعات الإرهابية أعلى من السعر لفترة أطول، فإن الجماعات الإرهابية ستتردد في الاستمرار في"صناعة" الإرهاب، لأنها ستصبح مشاريع خاسرة اقتصادياً. لدينا أمثلة من التاريخ الحديث لجماعات اعتمدت الإرهاب لتحقيق أهدافها، وتحت ظروف معينة، وجدت أن الإرهاب لم يعد مجدياً اقتصادياً. فقررت أن تغير "صنعتها"، وتحولت إلى جماعات سياسية تعمل شرعياً، ضمن حدود القانون، من دون اللجوء لنشر الإرهاب في سبيل تحقيق أهدافها وأرباحها. الأمثلة عديدة من البلدان التي شهدت صراعاً مريراً بين الحكومات والجماعات الإرهابية: في أمريكا الجنوبية، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وغيرها. وعلى العكس من ذلك تماماً، إذا كانت سياسات الحكومات غير فعالة، أو غير جدية، فإنها لن تنجح في تحويل الإرهاب لمشاريع خاسرة. وبدلاً من ذلك، سيكون الإرهاب مغرياً إذا ما كان السعر يزيد على الكلفة الإجمالية (ما يدفعه الرعاة)، وسيجذب جماعات إرهابية جديدة إلى صناعة الإرهاب، لأنها ستغدو مشاريع اقتصادية مربحة، وقد يشجع الجماعات السياسية بأن تصبح إرهابية. نحتاج اليوم إلى نظرات متعددة لفهم ما يواجه مجتمعاتنا من أشكال الإرهاب، ولكن هذا النوع من المقاربة جديد نسبياً، ولهذا لا نزال بحاجة لدراسة معمقة من خبراء في مجال الإرهاب ومنظماته، لتتوسع الفرضيات التي تقدمها المقالة. ولأن تحليل الإرهاب من منظور السياسة والدين لا يكفي ليعطينا فهماً معمقاً متكاملاً لقيامها واستمرار نجاحها. وقد يتهم المنظور الاقتصادي بالتقصير والمحدودية في فهم الظروف التاريخية المعقدة التي تنبثق منها الجماعات الإرهابية، وهذا النقد له نجاعته، إلا أن اعتبار الجماعات الإرهابية مشاريع اقتصادية يكمل البحث في عوامل تشكلها السياسية والجيوبوليتيكية وحتى الاجتماعية، لأن التمويل، والتمويل أولاً، هو أخطر عوامل قوامها ونجاحها، وزواله أو تهديده، حين نجعل الإرهاب مكلفاً، قد يكون سبباً كافياً لدمارها وانتهائها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image