لم يتوقف تنظيم داعش عن إثارة العديد من الأسئلة حوله منذ أن أعلن إنشاء دولته. بدءاً بمصادر التمويل، مروراً بالإدارة والعمل والتنفيذ، يحاول الجميع فهم سر قوة هذا التنظيم. ولعل الخطوة الأولى للإجابة عن هذه الأسئلة تكمن في فهم بدايات التنظيم وطريقة عمله.
وقد أصدرت مؤسسة راند الأمريكية في يونيو 2016 تقريراً مفصلاً عن تجربة "الدولة الإسلامية في العراق"، وهو الاسم الأول للتنظيم، قبل أن يمتد ليشمل بلاد الشام، محللاً أكثر من 140 وثيقة مسربة من التنظيم، ومؤرخة بين عامي 2005 و2010. تضم تلك المجموعة سجلات مالية ورسوماً وجداول تفصيلية تعطي صورة عن الأساليب التي اعتمدها التنظيم، في الإدارة والتواصل والتمويل في الماضي، وهو ما استمر عليه، ليصبح اليوم الأقوى والأخطر والأكثر ثراءً.
في البدء، دولة على الورق
شكل التقدم السريع لتنظيم داعش عام 2014 صدمة للكثيرين، لكن التنظيم لم يكن وليد اللحظة. داعش هو محصلة نشاط وتخطيط "الدولة الإسلامية في العراق"، طوال الفترة الممتدة بين 2006 و2012.
وُلد تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق"، من رحم "القاعدة في العراق"، الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي في أكتوبر 2004. خلال فترة قصيرة، أصبح الزرقاوي مرجعاً لمختلف التنظيمات الجهادية في العراق، فخلف غيابه فراغاً كبيراً بعد أن استهدفته ضربة جوية أمريكية في يونيو 2006، أي قبل شهر من الموعد الذي حدده الزرقاوي لإعلان قيام دولته المفترضة.
لكن التنظيم نجح في تجاوز ذلك المنعطف بعد أن تسلم حامد داود خليل الزاوي، المعروف بأبي عمر البغدادي، القيادة في أكتوبر 2006. أسس البغدادي "دولة العراق الإسلامية"، التي تحولت لاحقاً إلى "الدولة الإسلامية في العراق"، بعد أن غلب البعد الإسلامي والجهادي للتنظيم بعده الوطني العراقي. فأصبح تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" لكل المسلمين، ويسعى لتأسيس دولة متمايزة عن العراق ولا تعترف بحدوده السياسية الحديثة.
عموماً، حافظت التنظيمات الجهادية في العراق على تمسكها بهدف إقامة دولة إسلامية منذ عام 2006، ورسمت معالم تلك الدولة المفترضة وهيكلها، لكنها لم تقدر على تطبيق ما تم رسمه على الورق.
[caption id="attachment_64013" align="alignnone" width="700"] الهيكل التنظيمي لولاية الأنبار، خريف 2008. (المصدر:Harmony)[/caption]
لكن نشاط الدولة الاسلامية في العراق تراجع بين عامي 2008 و2010 نتيجة الضربات التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية والجيش العراقي. لم يبق منه سوى مستوى متدنٍ من النشاط كان كفيلاً بإبقائه على قيد الحياة، ليعود ويستعيد قوته عندما سمحت الظروف بذلك بعد 2011.
تقرير يحاول فهم سر قوة تنظيم الدولة الإسلامية داعشيظهر تقرير مؤسسة راند الأمريكية أن "الدولة الإسلامية في العراق"، اتبعت منذ عام 2008 النموذج التنظيمي نفسه الذي اعتمدته القاعدة في التسعينيات. فتولى تنظيم القاعدة تدريب وتأهيل العناصر، قبل إرسالهم لتأدية مهمات معينة أو لتأسيس إمارات وفروع للتنظيم، في مناطق جغرافية متباعدة. وطبقت "الدولة الإسلامية في العراق" هذا التنظيم على مستوى محلي، فقسمت العراق قطاعات وعينت لكل منها قيادة واضحة ومختارة بعناية، من العناصر الموثوق بها والمدربة والأكثر خبرة.
الأجانب في المناصب الحساسة والعرب في التجسس والاستخبارات
كشف التقرير أن أداء "الدولة الإسلامية في العراق" تميّز بنجاحه في الإدارة العقلانية للموارد البشرية برغم التحديات. فالنقطة الأبرز، والتي أبقت عليه، هي استثماره في رأس المال البشري، بمعنى أنه لم يسعٓ لزيادة عديده فقط بما يكسبه قوة آنية، لكنه اعتمد على جذب وتجنيد العناصر الموثوق بها والمدربة قتالياً وفنياً، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب. واستقدم مقاتلين أجانب من ذوي الخبرة القتالية والتنظيمية، واعتمد عليهم بدرجة أكبر من اعتماده على العراقيين. فشغل المجاهدون الأجانب المناصب الاستراتيجية والإدارية الحساسة في التنظيم، وتولوا أمور تخطيط العمليات القتالية، وتنفيذ غالبية العمليات الانتحارية. في المقابل، كلّف التنظيم عراقيين مهمات الأمن والاستخبارات، لدرايتهم باللغة والثقافة المحلية والأمور اللوجستية. أيضاً من الملاحظات الهامة، التي خلص إليها التقرير، أن توزيع المناصب والتعيينات الجديدة لم تصدر عن القيادات العليا أو المركزية في التنظيم، إنما صدرت عن مستويات قيادية فرعية. هذا الأسلوب جعل من مواضيع السمعة والعلاقات الشخصية، العوامل الرئيسية أثناء توزيع المهمات والمسؤوليات على العناصر والقادة. ضمنت السياسات التي انتهجها التنظيم، تماسكه داخلياً واستمراره، بالرغم من الضربات المتواصلة التي تعرض لها، لكنها أعاقت اندماجه في البيئة التي ينشط ضمنها. في هذا السياق، يرى الخبير في شؤون التنظيمات الجهادية، براين فيشمان، أن أهم العوائق التي واجهت "الدولة الإسلامية في العراق"، ومن قبله "القاعدة في العراق"، نجمت عن تزايد سطوة العنصر الأجنبي وسعي القيادات إلى فرض سلطتهم على سنة العراق، واستبدال الولاءات القبلية التقليدية، والانتماء الوطني، بالتزام إيديولوجي صارم بمبادئ وأهداف التيار السلفي-الجهادي.رواتب منخفضة
من ناحية أخرى، في ما يتعلق باستراتيجية التنظيم المالية، من الأمور غير المتوقعة التي تظهرها الوثائق، هي منح رواتب منخفضة للقيادات والعناصر. أرضت الرواتب المنخفضة فقط المؤمنين بالتنظيم ومشروعه وعقيدته. فلم تكن مغرية لأولئك الباحثين عن منفعة مالية فقط، وبالتالي ساعدت تلك السياسة في تجنب الكثير من مشاكل الولاء والإخلاص للتنظيم.
[caption id="attachment_64010" align="alignnone" width="700"] نموذج طلب مساعدة مالية (المصدر: Harmony)[/caption]
كما خصص التنظيم تعويضات مالية لعوائل القتلى والمفقودين والمعتقلين من عناصره، ووزعها بدرجة عالية من المساواة، ما عزز ثقة العناصر وتمسكهم به. أيضاً كشفت الجداول والبيانات المسربة عن وجود تلاعب وفساد مالي.
على سبيل المثال، بعض الأسماء التي ظهرت في جداول الرواتب لم تظهر في قوائم أخرى تضم جميع أسماء العناصر، علماً أن التنظيم يبقي على أسماء القتلى ضمن قوائمه ولكن يميزها عن غيرها.
[caption id="attachment_64009" align="alignnone" width="700"] وثيقة تظهر تفاصيل الرواتب والتعويضات (المصدر: Harmony)[/caption]
أغنى تنظيم إرهابي في العالم
أفاد تقرير نشرته صحيفة النيو يورك تايمز في منتصف عام 2015 أن داعش حصل يومياً على مليون دولار من الضرائب والمصادرات، ومليون و300 ألف دولار من تهريب النفط، ومبالغ إضافية من عمليات الخطف وتهريب الآثار والتحف والسطو على بنوك. مصادر التمويل تلك جعلت من داعش أغنى مجموعة إرهابية في العالم، لاحقاً. وعلى الرغم من اشتداد ضربات التحالف لمنشآت القطاع النفطي الخاضعة لسيطرة داعش، استمرت العائدات النفطية بنحو مليون دولار يومياً في إبريل 2016، واستمر بيع النفط الداعشي للنظام السوري ولأطراف أخرى في سوريا، كما ازدهرت سوق سوداء لتهريب النفط لتركيا عبر شمال العراق. وتكشف الوثائق أن دخل القاعدة في العراق و"الدولة الاسلامية في العراق"، كان أدنى بكثير مما يصل لخزينة داعش حالياً. لكن دخل "الدولة الإسلامية في العراق"، كان كافياً لاستمرار العمليات ومقاومة الحملات العسكرية والضربات الجوية المتواصلة، وكافياً ليمهد الطريق للصعود الصاروخي لتنظيم داعش، عندما تغيرت الظروف المحلية والإقليمية. على الرغم من أن افتراق داعش عن القاعدة الأم لم يحدث حتى مطلع عام 2014، تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق" تمايز منذ نشأته عن التنظيمات السلفية-الجهادية على غرار القاعدة، خصوصاً في مواضيع تمويل النفقات. أحد أهم الفروق يكمن في عدم لجوء تنظيم الدولة الإسلامية إلى مصادر تمويل خارجية والاستعاضة عن ذلك بتنويع مصادر التمويل المحلية. ليس الحال كذلك بالنسبة لتنظيم القاعدة، فهو لم يكن ليحقق ما حققه من شهرة، وتنامٍ في القوة والتأثير لولا دعم نظام طالبان في أفغانستان. في حين أظهرت الوثائق المسربة أن تنظيم "الدولة الاسلامية" وجد أن الدعم الخارجي سيضعف قوته ويُسهل تحكم الداعمين بمصيره وقراره. فاتجه نحو تأمين مصادر تمويل محلية لتغطية نفقاته، وهو ما نجح حتى الآن في تحقيقه. يوضح التقرير أنه في بداية 2008، مثلاً لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية، يحظى بشهرة واسعة ولكن دخله في تلك الفترة، تراوح بين 50 و100 ألف دولار يومياً من محطة تحويل بيجي وحدها. عموماً، قارب دخل "الدولة الإسلامية في العراق" قبيل عام 2010 نحو 550 ألف دولار يومياً، واستمر بتأمين دخل مالي جيد طوال الفترة الممتدة بين 2010 و2012، بالرغم من الضربات الجوية المكثفة ضده. تجربة "الدولة الإسلامية في العراق" خلال تلك الفترة فيها عدة دروس، أهمها أن هكذا تنظيمات تستطيع الاستغناء عن التمويل الخارجي، ما دام بإمكانها استخدام العنف والترهيب لحصاد الاقتصاد المحلي وجمع الضرائب لتغطية النفقات.العشوائية والاعتباطية
بيّنت الوثائق أنه على الرغم من أن أساليب الإدارة والتواصل والتنسيق التي اعتمدها التنظيم قد تبدو متقدمة بالنسبة لهكذا تنظيمات جهادية سرية، لكنه لم يؤسس نوى لمؤسسات دولة، نتيجة للعديد من الأسباب الذاتية والموضوعية. فأداء عناصر التنظيم ووحداته فيه من العشوائية والاعتباطية الكثير، ما يجعل التنظيم غير مؤهل للمقارنة بأبسط الجيوش العادية، أو الهياكل البيروقراطية الحكومية المتعارف عليها. أحد أسباب تلك العشوائية هو تنوع خلفيات العناصر، واعتمادهم أساليب مختلفة في التواصل والتوثيق وكتابة التقارير. فضلاً عن غياب الرقابة والإشراف المباشر على سير العمل في الكثير من الأوقات. تُظهر الوثائق معاناة تنظيمي "القاعدة في العراق" و"الدولة الاسلامية في العراق" أثناء محاولاتهم المتكررة لتقريب سلوك وأداء عناصرهم ومقاتليهم. ولا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد ما قد يمنع وجود المشاكل نفسها لدى تنظيم داعش في الوقت الحالي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون