على مر التاريخ البشري الطويل، ارتبط كل دين بمجموعة من المعبودات والمقدسات الرمزية التي اصطبغت بصبغة التقديس والاحترام والتبجيل.
وتتنوع أشكال تلك المقدسات بحسب شكل الدين وطريقته والمبادئ الأساسية والمرتكزات الرئيسية التي يقوم عليها. فقد يميل دين معين إلى إسباغ القداسة على الماديات والمحسوسات، بينما من الممكن أن يوجه دين آخر طقوس قداسته ناحية الظواهر الروحانية غير المرئية.
والدين الإسلامي، كغيره من الأديان، عرف فكرة التقديس والمقدسات، وإن كان قد مال غالباً إلى البُعد عن تشخيص وتعيين المقدس بشكل واضح لما فيه من نزعة توحيدية خالصة.
وقد عرف الإسلام تقديس بعض الأماكن وإفرادها بالاحترام والتبجيل والتنزيه دون غيرها، ما أدى لظهور ما يمكن أن نطلق عليه المدن المقدسة في الإسلام.
مكة والمدينة وبيت المقدس
ورد في كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهما أصح كتب الحديث عند المسلمين السنة، أن الرسول قال: "لا تُشد الرحال إلا لثلاث، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وتفاعل المسلمون بشكل إيجابي كبير مع هذا الأمر النبوي، فأعطوا أولوية كبيرة لتلك المساجد، وقدسوها واتخذوا منها قبلة للزيارة والتبرك. ومع مرور الوقت اتسعت رقعة التقديس، لتشمل المدن التي توجد بها المساجد الثلاثة، الأمر الذي ظهر بشكل واضح مع الألقاب التشريفية التي التصقت بها. فقد وُصفت مكة بالمكرمة، واشتهرت المدينة بالمنورة، بينما سميت مدينة إيلياء ببيت المقدس، وتم إطلاق لقب "الحرم" على كل مدينة منهم. وكانت هناك أسباب منطقية تُجيز ذلك الاهتمام الكبير بتلك المدن، فمكة كانت قبلة العرب ومستقر عبادتهم قبل ظهور الإسلام، وارتبطت في العقلية الجمعية العربية بأنبياء الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. أما المدينة فقد بدأت قداستها بانتقال الرسول إليها، فكانت معقل الإسلام الأول وحصنه القوي المنيع. [caption id="attachment_79143" align="alignnone" width="700"] المدينة[/caption] أما بالنسبة لإيلياء، التي عُرفت بعد ذلك ببيت المقدس، فارتبطت قداستها عند المسلمين بنقطتين يحيط بهما الكثير من الجدل والغموض. النقطة الأولى هي أنها البقعة التي جرت فيها معجزة الإسراء، وهذه النقطة لا تزال محل مناقشات بين مؤيد ومعارض. أما النقطة الثانية، فتتمثل في ما نُسب إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من إقامتة لمسجد قبة الصخرة فيها، وأن هدفه الرئيسي من بنائه بحسب ما ورد في كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، للمؤرخ ابن تغري بردي المتوفى عام 874هـ، أن يحوّل الحج من مكة التي يسيطر عليها عدوه عبد الله بن الزبير إلى إيلياء، ليُضعف من مكانة خصمه الروحية والدينية ويستفيد من العوائد الاقتصادية المرتبطة بطقوس الحج. [caption id="attachment_79147" align="alignnone" width="700"] القدس[/caption]مدن الشيعة المقدسة
يختلف الشيعة عن السنة بشكل كبير في ما يتعلق بتقديس المزارات والمدن التي توجد بها. فلما كان الشيعة الإمامية يقدسون أئمتهم ويبجلونهم ويقربون مقامهم من مقامات الأنبياء والمرسلين، كان من الطبيعي أن تتحول مراقد ومدافن هؤلاء الأئمة إلى مشاهد وأضرحة مقدسة. فتزداد قدسية "المدينة المنورة" عند الشيعة الإثني عشرية، لأن أربعة من أئمتهم، هم (الحسن بن علي- علي بن الحسين- محمد الباقر- جعفر الصادق) دفنوا في مدافن البقيع الموجودة فيها. لذلك، ينفرد الشيعة الذين يزورون المدينة المنورة عن بقية المسلمين بزيارة مراقد الأئمة الأربعة، وتلاوة بعض الأدعية المخصصة لزيارتهم. أدى ذلك الإقبال على تلك الزيارات، إلى حدوث عدد من الصدامات الدامية بين الزوار الشيعة والأمن السعودي، أبرز تلك الصدامات حدث في عام 2009، وعرف وقتها بأحداث البقيع. أما "كربلاء"، فهي واحدة من أهم المدن مكانةً في المذهب الشيعي، لارتباطها بمأساة الحسين بن علي واستشهاده في أرضها في 10 محرم عام 61هـ. لاقت كربلاء اهتماماً متعاظماً من الشيعة منذ تلك الحادثة الأليمة، فتم تشييد ضريح كبير للحسين، وشُيد ضريح آخر لأخيه "أبو الفضل العباس"، واعتاد الشيعة على زيارة تلك المراقد المقدسة بأعداد هائلة. وكالعادة تم استخدام تلك المزارات سياسياً في العديد من المرات، لعل آخرها ما حدث من خروج بعض الدعوات الشيعية التي رحبت باستبدال إقامة الحجاج الإيرانيين لركن الحج من مكة إلى كربلاء العام المنصرم، عقب حدوث بعض التراشقات الإعلامية بين إيران والسعودية. [caption id="attachment_79139" align="alignnone" width="700"] كربلاء[/caption] وتتمتع مدينة "النجف الأشرف" بقدسية كبيرة عند الشيعة، لاحتوائها على مدفن الإمام علي بن أبي طالب، ويوجد فيها "حوزة النجف الأشرف"، التي تُعتبر أقدم وأهم المراكز الدينية في العالم الشيعي. فقد أسسها العالم الشيعي محمد بن الحسن الطوسي المتوفى عام 460هـ، والمعروف بشيخ الطائفة. وقد بدأ الاهتمام بعمارة مرقد الإمام علي في عهد هارون الرشيد، لكنه بلغ أوجه في عصر سيطرة السلاطين البويهيين على الخلافة العباسية. وما يدعم قداسة النجف، أن هناك اعتقاداً سائداً في الأوساط الشيعية، بأنه يوجد فيها مدافن لعدد من الأنبياء، مثل آدم ونوح وهود وصالح. [caption id="attachment_79144" align="alignnone" width="700"] مرقد الإمام علي[/caption] واحتوت مدينة النجف على قبور عدد من كبار رموز المذهب الشيعي في عهوده الأولى، مثل "مسلم بن عقيل بن أبي طالب" رسول الحسين إلى الكوفة، و"ميثم التمار" أحد كبار أصحاب الخليفة الرابع، و"محمد بن الحنفية" أخي الحسن والحسين، و"المختار بن أبي عبيد الثقفي" الذي أخذ بثأر الحسين وانتقم من قتلته.تعرفوا على المدن التي يقدسها المسلمون من مذاهب مختلفة، السنة والشيعة والإسماعلية والصوفيةكما أن ضريح الإمام "زيد بن علي بن الحسين" يوجد بجانب تلك الأضرحة السالفة الذكر، ما جعل أتباع المذهب الشيعي الزيدي يجلون تلك المدينة ويبجلونها. وفي الأراضي العراقية، تتواجد أيضاً ضاحية الكاظمية المتاخمة للعاصمة بغداد، وهي لا تقل في قداستها عن مثيلاتها من المدن الشيعية المقدسة الأخرى. تُنسب الكاظمية إلى الإمام السابع في سلسلة الأئمة الشيعة الإثني عشرية، وهو الإمام موسى الكاظم، وذلك لأن الكاظم كان أول من أشترى قطعة أرض في ذلك المكان، فاتخذ منها مدفناً. وبعد سنوات قليلة من دفن الإمام الكاظم، لحق به حفيده الإمام التاسع محمد الجواد، فجاوره في ضريحه، الأمر الذي أدى إلى إضفاء صفة القداسة على تلك المدينة. فقد درج الشيعة على زيارة القبرين والتوسل بالإمامين والتبرك بهما. ومع استيلاء الصفويين على بغداد في النصف الأول من القرن 16 الميلادي، زاد الاهتمام بالضريحين، وبدأ العمل في عمارتهما، واستكملت أعمال العمارة والزينة بعد استيلاء السلطان العثماني سليمان القانوني على العراق. أما مدينة "سامراء"، فتعتبر آخر المدن الشيعية المقدسة الكبرى في العراق، فمثلها مثل الكاظمية، تحتوي على مرقدين من مراقد الأئمة الشيعة. الأول للإمام العاشر "علي الهادي"، والثاني لابنه الإمام الحادي عشر المعروف باسم "الحسن العسكري"، ويُعرف المرقدان باسم "مرقد الإمامين العسكريين". ورغم أن مدينة سامراء، واسمها الأصلي سُر من رأى كما ورد في كتاب المحبر لإبن حبيب، بناها الخليفة العباسي (المعتصم بالله) لتكون عاصمة جديدة لدولته، وفي الوقت نفسه سكناً ومستقراً لجنده الجدد من الأتراك القادمين من أواسط آسيا. لكن الأقدار شاءت أن تتحول هوية المدينة من التسنن إلى التشيع، وتتبدل طبيعتها من الشكل العسكري النظامي إلى السمت الديني المقدس. أما في الجارة الفارسية، فنستطيع أن نجد مدينتين شيعيتين مقدستين. الأولى مدينة "طوس"، وهي المدينة الإيرانية الوحيدة التي يوجد فيها أحد مراقد الأئمة الإثني عشر، حيث دُفن الإمام علي الرضا المعروف باسم "غريب الغرباء" أو "غريب طوس". ويوجد في المدينة عدد من مراقد أبناء موسى الكاظم، وقبور لعدد من الشخصيات الشيعية المهمة، من أمثال شيخ الطائفة الطوسي. وارتبط مصير تلك المدينة بشكل كامل بضريح الإمام الرضا، فسرعان ما ازدهرت وانتشرت مظاهر العمران فيها، كما أن الضريح نفسه لاقى اهتماماً وعناية بالغين في العصر الصفوي، العصر الذي وجد فيه ملوكه أن ضريح الرضا يعتبر بمثابة تأكيد قوي على أصالة الهوية الفارسية للتشيع، فتم تغيير اسم المدينة ليصبح "مشهد الرضا"، وهو الاسم الذي تُعرف به الآن. ويتوافد ملايين الزوار سنوياً على ضريح الإمام الرضا، وهو من أهم مصادر السياحة الدينية في إيران حالياً. أما المدينة الشيعية المقدسة الثانية في إيران، فهي مدينة "قم"، وهي المدينة التي دُفنت فيها السيدة "فاطمة المعصومة" أخت الإمام الرضا. وتوجد في قم حوزة علمية كبرى حيث يقيم العديد من المراجع الكبار، ويدرس فيها الآلاف من طلبة العلم الديني.
السلمية: مدينة الإسماعيلية المقدسة
السلمية هي مدينة سورية تقع بالقرب من مدينة حلب، ارتبطت بشكل وثيق بتاريخ الشيعة الإسماعيليين وحاضرهم. فكما يروي الكاتب الإسماعيلي مصطفى غالب في كتابه "تاريخ الدعوة الإسماعيلية"، أنه بعد هروب الإمام محمد بن إسماعيل وابنه عبد الله من الحجاز، خوفاً من ملاحقة سلاطين بني العباس، توجه الأئمة الإسماعيليين إلى مدينة السلمية البعيدة عن الأنظار، ومنها بدأوا في نشر دعوتهم وأفكارهم وخططهم، فأرسلوا الدعاة شرقاً وغرباً، وألفوا المصنفات والكتب الفكرية والعقائدية. وقد ظلت تلك المدينة السرية عاصمة لهم حتى الأعوام الأخيرة من القرن الثالث الهجري، حين استطاع أحد الأئمة الإسماعيليين، وهو عُبيد الله المهدي أن يرحل إلى المغرب، ليؤسس الدولة الفاطمية، ولينتقل الإسماعيليون من طور السر والكتمان إلى عهد الخلافة والظهور. وبعد مرور سنين طويلة على تلك الأحداث، وتغيرات ديموغرافية كبيرة في التركيبة السكانية السورية، فإن الإسماعيليين في العصر الحديث، نزلوا في مدينة السلمية مرة أخرى، فأضحت مركزاً لدعوتهم للمرة الثانية، حتى أن والد الأغاخان الرابع قد دُفن بها بعد وفاته في حادث سيارة، كما أن الأغاخان نفسه يحرص على زيارة المدينة في أوقات متتابعة.طنطا ودسوق: مدن الصوفية المقدسة
كثيرة هي المدن التي يقدسها الصوفية ويحترمونها لما بها من مقامات وأضرحة لأولياء الله الصالحين. في مصر مثلاً، مثالان لتلك النوعية من المدن، الأول هو مدينة "طنطا"، التي يرجع اسمها إلى أصول فرعونية قديمة، وتقع في وسط الدلتا. فمنذ نزل الصوفي المعروف السيد أحمد البدوي إلى تلك المدينة، واتخذها مستقراً له في بدايات القرن السابع الهجري، أضحت طنطا محطاً لأنظار المتصوفة وأهل العرفان. بعد إقامة المسجد الأحمدي الذي يُنسب إلى البدوي، تم التدشين لاحتفال ديني سنوي يقام في طنطا، ويعرف بمولد السيد البدوي، ويحضر ذلك الاحتفال الذي يقام في أكتوبر من كل عام، مئات الآلاف من الصوفيين المنتشرين في أرجاء مصر. ويُقدر عدد الطرائق التي تشارك في هذا الاحتفال بـ67 طريقة. [caption id="attachment_79145" align="alignnone" width="700"] المسجد الأحمدي[/caption] أما "دسوق"، فهي مدينة تقع في شمال الدلتا، وتم اشتقاق اسمها من الدسق، وهو كما يعرفه مرتضى الزبيدي في "تاج العروس" امتلاء الحوض حتى يفيض. وقد ارتبطت تلك المدينة بالعارف بالله سيدي إبراهيم الدسوقي، الذي يعتبره الصوفية آخر الأقطاب الأربعة الكبار، وينسبون إليه الكثير من الكرامات. وفي شهر أكتوبر من كل عام، يتوافد أكثر من مليون متصوف من 77 طريقة صوفية مختلفة من داخل مصر وخارجها، للاحتفال بمولد الدسوقي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين