من منا لا يتذكر القبلة الأولى بكل ما حملته من مشاعر الرضا أو الإحباط، وما أثارته من حمم الرغبة أو برود خيبة الأمل، وما انطوت عليه من تفاصيل مبهجة أو محرجة؟
فهذا السلوك الذي يعبر به الإنسان عن الحب والمودة والاحترام والخضوع، وغيرها من المشاعر بات علماً يحمل اسم الفيلماتولوجي Philmatology، أو علم التقبيل. وتدور حوله العديد من الأسئلة، مثل هل عرفت الكائنات الأخرى هذا السلوك؟ ومتى ظهر بين البشر؟ وما هي أهميته بالنسبة لبني الإنسان؟
تقول دراسة نشرتها بي بي سي إن أقرب الحيوانات إلينا، وهي قردة الشمبانزي والبونوبوس، نقلت عنها عادة التقبيل. وقد شهد فرانز دي وال، عالم الثدييات من جامعة إيموري في أتلانتا جورجيا، عدة حالات تتبادل فيها قردة الشمبانزي القبلات والعناق بعد شجارها.
إذن التقبيل بالنسبة للشمبانزي شكل من أشكال المصالحة، وهو أكثر شيوعاً بين الذكور دون الإناث. وبمعنى آخر، ليس التقبيل سلوكاً رومانسياً لديها.
أما أبناء عمومتهم من قردة البونوبوس، فتقبل بصورة أكثر، وهي في الغالب تستخدم ألسنتها وهي تمارس التقبيل. ولعل هذا ليس بالأمر المستغرب لأن هذه القردة بالتحديد تعد مخلوقات ذات حس جنسي عالٍ.
ولكن هذين النوعين من القردة العليا يعتبران استثناء، فالحيوانات الأخرى لا تمارس التقبيل على الإطلاق، وربما يتماسان بالأنف أو يتلامسان بالوجه فقط.
متى ظهر التقبيل لدى البشر؟
في كتابه "تاريخ القبلة" يقول البروفيسور مارسيل دانسي أستاذ الأنثروبولوجيا اللغوية بجامعة تورونتو، إن تاريخ القبلة يبدأ مع العصور الوسطى مستشهداً على وجودها بقوة في الكثير من أشكال الأدب والفن، التي احتفت بالعلاقات الرومانسية العفيفة وغير العفيفة على السواء. إلا أن خبراء يرفضون ذلك، ويرون أن القبلة تحولت إلى ثقافة شعبية في العصور الوسطى، لكن جذورها التاريخية أبعد بكثير. ونسب تقرير لوكالة رويترز للأنباء، إلى هؤلاء الخبراء القول إن التقبيل تطور من الشم الذي كان الناس يمارسونه كوسيلة للتعرف بعضهم إلى بعض. ويقول فوغ برايان الأنثربرلوجي في جامعة تكساس: "عند نقطة تاريخية معينة انزلق الشم إلى الشفاه، فاعتقد البشر أن ذلك أفضل كثيراً". وتقول شيريل كيرشينباوم مؤلفة كتاب "علم التقبيل": "في معظم التاريخ الإنساني كان الشم أكثر أهمية من الحواس الأخرى في العلاقات البشرية، فالناس كانوا يستخدمون الشم لمعرفة مزاج الشخص وصحته وحالته الاجتماعية، كما كانت التحية بالشم".القبلة تحرق ما يراوح بين 68 و95 سعرة حرارية في الساعة. لما الذهاب إلى الجيم؟
حقائق كثيرة مثيرة عن القبلة، تاريخها، علمها وأهميتها في حياتنا اليوميةوتضيف: "كانوا يمررون الأنف على الوجه الذي يحوي غدداً للرائحة، وبمرور الوقت تحولت ملامسة الأنف للوجه إلى تلامس الشفاه، ومن ذلك ولدت التحية". أجرى رفايل فلودارسكي، من جامعة أكسفورد البريطانية، دراسة عام 2013 حول أفضليات التقبيل بالتفصيل. وسأل عدة مئات من الأشخاص عن أهم شيء في نظرهم عند تقبيل شخص ما. وجاءت الرائحة في المقدمة، وتزداد أهمية الرائحة في فترة الخصوبة عند المرأة. وتبين كذلك أن الرجال يفرزون نسخة من الفيرومون (مركب كيميائي يفرزه الجسد) الذي يتوفر في عرق الرجل، وعندما تتعرض له النساء تزداد معدلات الإثارة الجنسية لديهن قليلاً. ويقول فلودارسكي إن الفيرمونات تلعب دوراً كبيراً للغاية في كيفية اختيار الثدييات للشريك من الذكور والإناث، ونحن نشارك هذه الثدييات بعضاً منها. ويضيف: "لقد ورثنا كل عناصرنا البيولوجية من الثدييات، ولم نقم سوى بإضافة أشياء قليلة من خلال التطور الزمني". لكن الكاتب والباحث نيل بورتون يقول في موقع "سايكولوجي توداي" إنه من المحتمل أن تكون القبلة سلوكاً يتعلمه الإنسان وقد تطورت من "قبلة التغذية". ففي بعض الثقافات تطعم الأم طفلها بتغذيته من فمها لفمه مباشرة.
تطوّر عادة التقبيل
ويشير فلودارسكي إلى أن التقبيل، على النحو الذي نمارسه اليوم، يعد اختراعاً حديثاً نسبياً، وقد فحص العديد من السجلات التاريخية للعثور على أدلة على كيفية تطور عادة التقبيل. فوجد أن أقدم الأدلة التي تثبت سلوك التقبيل تأتي من نصوص الفيدا الهندوسية السنسكريتية، والتي ترجع إلى 3500 عام مضت. وفي المقابل، تظهر الصور باللغة المصرية القديمة - الهيروغليفية - البشر وهم قريبون بعضهم من بعض، ولكن ليس إلى حد ضم الشفاه إلى الشفاه. ويعتقد أن القبلة كتعبير عن الرومانسية بدأت في الهند، إذ صدرت قصيدة "مهابهاراتا" التي يعتقد أنها كتبت في نحو عام ألف قبل الميلاد، وورد بها وصف تفصيلي للقبلة الرومانسية. وتقول القصيدة: "وضعت فمها على فمي وأصدرت ضوضاء أسعدتني". وتضيف كيرشنبام أن القبلة وردت أيضاً في ملحمة الأوديسا لهوميروس، ولكنها لم تكن رومانسية وإنما تعبير عن التحية والحب والاحترام، فجاء فيها: "عاد أوديسيس للمنزل وقبله عبده".القبلة والمكانة الاجتماعية
وقال بورتون إن هيرودوت تحدث عن القبلة لدى الفرس، وكانت تعبر عن الدرجة الاجتماعية. وعلى مدار التاريخ الإنساني عبّر موقع القبلة على الجسد عن الرتبة في الأسرة الملكية أو الجيش. فالقبلة المعبرة عن المساواة الاجتماعية، تكون مباشرة في الفم، أما الجنود والخدم والعبيد فكانوا يقبلون الكتف والخد واليد والقدم وطرف الثوب، أو حتى الأرض أمام الشخص الذي يعتقد أنه أرفع مقاماً من تقبيل جسده. واستمر ذلك حتى القرن الثامن عشر."حملت البعثات التبشيرية في أفريقيا وآسيا معها كلمة القبلة تماماً كما حملت معها كلمة الرب"ويقول برايان: "ولكن في أيام يوليوس قيصر عرف الرومان القبلة التي وصفوها بقبلة الروح، والتي أشار إليها أوفيد في قصيدته أموريس ونعرفها حالياً بالقبلة الفرنسية". وتقول كيرشينباوم إن الإمبراطور الروماني تيبيريوس حاول فرض حظر على القبلة، لأنه اعتقد أنها تؤدي إلى انتشار مرض الجذام. وتضيف: "لكنه فشل لأن الناس يحبون حقاً التقبيل". ويوضح بورتون أنه بعد سقوط الدولة الرومانية اختفت القبلة الرومانسية ألف سنة، لتعود في العصور الوسطى وتعتبر قبلة روميو وجولييت رمزاً لها وللسعي للتحرر من وصاية الأسرة.
المسيحية تبشّر أفريقيا بالقبلة
مع ظهور المسيحية، وردت القبلة تسع مرات في الإنجيل. فهناك قبلة الخيانة (قبلة يهوذا)، وقبلة التحية وقبلة الخضوع، وقبلة الحياة (في سفر التكوين)، ولم يشر إلا مرة واحدة لقبلة الرومان (القبلة الرومانسية). وحاول العديد من الباباوات عبر السنين حظر القبلة الرومانسية، ففي عام 1312 أصدر البابا كليمنت مرسوماً جعل القبلة الرومانسية إثماً جزاؤه الموت. وفي ذلك الوقت، لم يكن التقبيل معروفاً في غالبية أنحاء العالم، وعندما انتشرت البعثات التبشيرية في أفريقيا وآسيا وأستراليا في القرن التاسع عشر نشرت معها ثقافة التقبيل. وقال برايان: "حملوا معهم كلمة القبلة تماماً كما حملوا معهم كلمة الرب". وعندما نقل الأمريكيون القبلة إلى اليابان في القرن 19، اعتبرها اليابانيون إهانة. وفي عشرينيات القرن الماضي، حين عرض تمثال "القبلة" في طوكيو، وضعوه وراء ستار. وبعد الحرب العالمية الثانية، عمد اليابانيون إلى إزالة القبل من أفلام هوليوود. ويقول جيفري سومبر، متخصص في العلاقات في شيكاغو، إن القبلة اليوم لها معانٍ عديدة. فهي وسيلة تواصل مع الأجساد وجسر بين الكلمات والأفعال.وماذا عن أهمية القبلة؟
يقول علم التقبيل (الفيلماتولوجي) إن الشفتين هما أكثر المناطق حساسية في الجسم، بل تفوق حساسيتهما 100 مرة حساسية الأصابع. ويشير علم التقبيل إلى أن عضلات عدة في الشفتين تشارك في سلوك التقبيل، ما يؤدي إلى الحميمية في القبلة، إذ ينصهر الحبيبان في روح واحدة. ويؤكد الفيلماتولوجي أن هناك العديد من الفوائد للقبلة. فهي توثق العلاقة سواء مع الحبيب أو مع فرد في الأسرة أو حتى مع وليد جديد يشعر بالمزيد من الأمان العاطفي مع قبلات والدته. والقبلة كذلك مفيدة للأسنان، إذ تطلق أنزيمات تزيل الرواسب وتؤدي لأن تكون الأسنان أكثر بياضاً. فضلاً عن أنها مثيرة للمرأة، وتحرق ما يراوح بين 68 و95 سعرة حرارية في الساعة. وفي النهاية، أياً كان تاريخ ظهور القبلة وكيفية تطورها، فمنذ عرفها الإنسان وهو غارق في "جحيم من القبل"، كما قال محمد عبد الوهاب.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...