بذريعة "خدش الحياء العام" أصبحت الحرية الشخصية في الأردن عُرضةً للقمع والانتهاك لتصل في غالب الأحيان إلى حد الاغتيال وتشويه السمعة. وشكّل "خدش الحياء العام" المصطلح الأبرز خلال الأشهر القليلة الماضية، بعدما تكرر عقب عدد من الأحداث، التي أثارت الرأي العام المحلي، وتجاوز بعضها المواقع الإخبارية والتواصل الاجتماعي ليصل إلى أروقة القضاء.
أبرز تلك الأحداث التي تناقلها أردنيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيديو لشاب يُقبّل صديقته بعفوية في الشارع العام.
لقي الفيديو سخطاً كبيراً من الرأي العام، باعتبار أن سلوك الشاب والفتاة مناف للعادات والتقاليد، وخادش للحياء العام. وتحوّلت القبلة مادة دسمة للمواقع الإخبارية، وخضع الشاب والفتاة لمحاكمة مجتمعية قاسية، عبر إطلاق الأحكام والصفات عليهما. وبعد المحاكمة المجتمعية، صدر بيان من الأمن العام الأردني يفيد بأنّ "القوى الأمنية تمكّنت من القبض على الشاب الذي ظهر في فيديو مناف للأخلاق وأُحيل للجهات المعنية".
بعد تلك الحادثة بفترة قصيرة، ظهر فيديو آخر لشاب يتقدّم لخطبة حبيبته أمام مبنى الجامعة التي تدرس فيها. لقي الفيديو الهجوم والانتقاد نفسيهما، ووصل الأمر حد تشكيل إدارة الجامعة لجنة تحقيق للبحث في ما اذا كان سلوك الشاب والفتاة انتهاكاً لقوانين الجامعة والآداب العامة أم لا.
في هذا السياق، يقول الخبير في مجال إعلام حقوق الإنسان محمد شما: "أصبح مفهوم خدش الحياء العام أداة لقمع حرية الأفراد من قبل الدولة والمجتمع على حد سواء، إلى جانب التعدي على خيارات الآخرين. ويتم استخدام هذا المصطلح للإساءة للأفراد واغتيال شخصياتهم، وتشويه سمعتهم". ويضيف: "الإشكالية تكمن في أن مصطلح الحياء العام فضفاض وعام. ففي وقت يعتبر البعض التصرف العفوي بين حبيبين أمراً طبيعياً، فقد يراه البعض الآخر منافياً للأخلاق. المشكلة هنا في التفكير القمعي، الذي يحرم الاختلاط والتواصل مع الجنس الآخر".
ويوضح أن "هذه الاتهامات لا تطال الأفراد العاديين وحدهم، إنما تمتد إلى المؤسسات والشخصيات العامة. في هذه الحالات، غالباً ما يكون هناك أهداف وراء هذه الإساءة والمبالغة في الفعل، كالنيل من الشخصية العامة أو الاضرار بمصالح مؤسسة معينة".
وتشكل قضية تلفزيون رؤيا نموذجاً للحالات التي تمت بها الإساءة لمؤسسة استثمارية ضخمة في الأردن. فقد تعمدت القناة، التي يمتلكها أحد أكبر رجال الأعمال الأردنيين في سبتمبر الماضي، بث مقطع ضمن برنامج كوميدي ساخر، تناول البرامج المخصصة للأطفال. وفي الحال تعرضت القناة لهجوم كبير هذه المرة، ليس من رواد مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، إنما من وسائل إعلامية مطبوعة وإلكترونية، والتهمة كانت أيضاً "خدش الحياء العام".
الفقرة موضوع الاتهام، تتحدث عن فتاة تروي قصة للأطفال، لكنها بعد قراءة أسطر قليلة تكتشف أن القصة غير مناسبة وتحوي إيحاءات جنسية. لكن إدارة القناة أكّدت أن الفقرة بُثّت في ساعة متأخرة من الليل، في برنامج منوعات، وتهدف إلى توعية الأهالي من خطورة ما قد يتعرّض له أطفالهم من مفاهيم لا تتناسب مع أعمارهم في برامج الأطفال. إلا أن تبرير القناة لم يكن مقبولاً لدى الغالبية. وتفاقمت التبعات إلى حدّ إصدار هيئة الإعلام بياناً اعتبرت فيه أن "المقطع خادش للحياء، ولم يراعِ الأنظمة والقوانين". وعقب ذلك، أحالت الهيئة القناة التلفزيونية إلى القضاء وعملت على إيقاف البرنامج.
علماً أن أعضاء مجلس النواب لم يسلموا كذلك من اتهامات خدش الحياء العام. فنهاية العام الماضي، أقام النائب حازم قشوع مأدبة عشاء على شرف السفيرة الأمريكية في عمان أيليز ويلز، وتعرض لنقد قاس بعد تسريب صور له وهو يصافح السفيرة ويقبّل وجنتيها، في ما طلب البعض محاسبته أمام مجلس النواب. غزا هذا الخبر معظم المواقع الإلكترونية الإخبارية وزاحم الأخبار المهمة.
يقول شما: "الإعلام هنا أيضاً ليس بريئاً، فهو الذي يجاري التهويل في اغتيال الشخصية والإساءة للأفراد عن طريق طرح سلوكيات على أنها خادشة للحياء العام، إما بهدف جلب عدد أكبر من المتابعين أو لأهداف واعتبارات سياسية معينة". ويشير شما في هذا السياق إلى الإساءة الكبيرة التي تعرّضت لها الشابة نداء شرارة، التي فازت في برنامج The Voice، إذ باتت مادة إعلامية دسمة، إذ تعرضت لانتقادات شديدة ولاذعة، باعتبار أنها تسيء للحجاب لأنها تغني وهي محجبة، وتجاوزت الاتهامات هنا خدش الحياء العام إلى اتهامها بالإساءة لصورة الإسلام والمرأة المحجبة.
ودفع الانتقاد القاسي الذي تعرضت له شرارة بمروان المعشر، نائب رئيس وزراء سابق إلى كتابة مقال للدفاع عن شرارة وحريتها في اختيار الحجاب والغناء في الوقت نفسه.
ويقول المعشر في مقالته إن الانتقادات التي تعرضت لها شرارة تدل على ثقافة خطيرة تتغلغل في مجتمعنا. فإضافة إلى ما توحيه هذه الاعتراضات، من أن الغناء مخالف للدين أو للمصلحة العامة، وأن القيام به مع ارتداء الحجاب يشكل انتقاصاً للقيم والأخلاق ومخالفة للدين، فإنها تشير إلى أخطر من ذلك، وهذا ثقافة إقصائية ترفض أي ممارسة لا تتفق مع مفهوم البعض للدين، وتشيطن كل من يقوم بها. ويضيف أن "غياب ثقافة تقبّل التنوع في المجتمع واحترام الاختيارات الشخصية للآخرين، أوصل البعض لأن ينصّب نفسه وصياً على الدين والأخلاق والمجتمع، يحرّم ويحلّل كما يشاء! ثقافة تقزيم الآخر خطيرة جداً إن بقينا نسمح لها بالتمدد من دون مواجهتها بكل صراحة وشجاعة، لأنها تؤدي لانغلاق المجتمع، ولا ازدهار مع التقوقع، ولا ابتكار مع العصبية".
وختم شما أن "أكثر الجوانب خطورة هي تلك المتعلقة بردة فعل المؤسسات الرسمية"، واصفاً ردود الفعل تلك بـ"الانتقائية". ويقول إن "الجهات الأمنية تعمل على توقيف شاب بتهمة تقبيل حبيبته، لكن بالمقابل هل جرى توقيف أي من دعاة الكراهية، الذين يستغلون مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لأفكار الكراهية والفتنة؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...