حين تراهم معلقين في الهواء، والسيارات تجري أعلى الكوبري (الجسر) على إيقاع الساقية الكبيرة، التي كلما دارت، ضجت صيحات الأطفال حماسة وفرحة ومغامرة، ستشعر بقلق ما. ألا يخافون؟
فالفرق شاسع بين معايير الأمان الصارمة في مدن الملاهي الكبيرة الذائعة الصيت، وبين المعايير المرتجلة في حديقة الملاهي الفقيرة أو الشعبية، ويبدو واضحاً للعابرين فوق الجسور، أو المسافرين في القطار المار في خلفية المشهد، بينما الساقية تدور وتتصادم السيارات في الحلبة الضيقة، وتدور السلسلة مطوحة الضحكات في الهواء.
عشرات الأمتار تكفي للمتعة
تشكل تلك الحدائق، التي لا تتجاوز مساحتها عشرات الأمتار، مساحة شاسعة من البهجة للأطفال الخارجين من الكتل الإسمنتية المتلاصقة لحواري وشوارع منطقة أبو قتادة العشوائية، المقابلة للجهة الجنوبية لجامعة القاهرة في الجيزة، وأقرانهم من المناطق المحيطة القريبة. وبينما يدخلون المغامرة، يتسامر الأهالي، الذين لم يحالفهم الحظ بلقاء مع الأقارب منذ وقت طويل. أو يلوح شاب إلى شقيق خطيبته في الأعلى، مودعاً إياها ليحظى بفرصة مع عروسه المحتملة، على غرار العبارة الشهيرة لشحاته أبو كف (نور الشريف)، عندما قال لنجل سعاد حسني خلال أحد مشاهد فيلم "غريب في بيتي": "روح إلعب مع الأسد يا أشرف".إنها حقاً مغامرة مع معايير أمان مرتجلة
لا الحرارة المرتفعة، ولا أي تحذيرات يمكن أن تجدي نفعاً مع الأطفال الفرحين بالعيدية، والملابس الجديدة في عيد الفطر الماضي. فتوافد المئات منهم إلى حديقة ملاهي الفردوس، بعد أيام من التكهن بالعيدية، والتخطيط للفسح واللعب وأكل الكشري وغزل البنات والتسلح بالمسدسات والصواريخ، وكل ما يلزم ليكون العيد صاخباً. ومع أغاني المهرجانات، تعالت صيحات ركاب إحدى الألعاب، مسافرين في رحلاتهم الخيالية إلى الأعلى. ولكن الدورات القليلة للّعبة لم تلبث أن تنتهي، حتى فوجىء الأهالي بها تهوي من ارتفاع 10 أمتار، لترتطم الصرخات بالأرض، ويجري الآباء لمحاولة الإنقاذ التي نجحوا فيها، قبل أن تأتي قوات الحماية المدنية، وترصدها عدسات مصوري الصحف والقنوات والمواقع المصرية حينها. لوقت قليل، زاحمت الأنباء عن حادث ملاهي الفردوس بمنطقة العباسية، الأنباء والأحداث على نوافذ وسائل التواصل الاجتماعي. واختفت وسط أنباء متكررة عن التحرش تارة، والإقبال على دور السينما والمتنزهات، والكثير من الكوميكس الذي يتناول العادات والتقاليد الشعبية في العيد. ومع تحذير الفنيين للمسؤولين بعد تحقيق السلطات في الحادث، تم إغلاق فردوس أطفال العباسية والوايلي، للتحقق من إجراءات السلامة فيها. وعقب الحادث، اقترح أحد الفنيين في تصريحات للصحافة المصرية، حلاً لأزمة الصيانة، عبر رفع أسعار الألعاب، وتخصيص تلك الزيادة في إجراء الفحوص والصيانة اللازمة."شغل موالد"
كانت الساعة نحو السادسة. الغروب وانعكاساته على النيل لم تزح الهموم عن صدر العم إسماعيل السبعيني. الملاهي خاوية، لا يوجد غير اثنين من الفنيين وعامل الكافيتريا في المنيل بارك، الذي كان قبل سنوات تحت احتلال الخارجين عن القانون. "مأوى للقتلة والحرامية" أسفل كوبري عباس، أحد الجسور الشهيرة بين القاهرة والجيزة، إلى أن قام المهندس هادي إمبابي بتحويل "المكان الموبوء"، بحسب والده السبعيني، إلى مساحة نظيفة للمرح واللعب. لكن الحكومة التي وصفها العم إسماعيل بـ"الفاشلة"، تجعل الأمور صعبة، والربح مستحيلاً من المشروع الذي تخطت كلفة تنظيفه وتهيئته المليون جنيه (112 ألف دولار)، ليتحول إلى "المنيل بارك" ذي الألوان السماوية والجداريات البسيطة. تجاوزت فاتورة الكهرباء الـ11 ألف جنيه (1200$)، بعد أن كانت 4 آلاف (450$)، إضافة إلى الزيادات المستمرة لبدل إيجار الأرض التي أقيم عليها المشروع. في ظل التكاليف الكبيرة، يصبح رفع الأسعار ضرورة، وإلا صار المشروع "شغل موالد"، يقول إسماعيل، يعتمد على المواسم فقط. ولكن يعتبر العم إسماعيل، الذي قابلناه متجهماً ومستعداً للعراك مع الهواء بسبب هدوء المكان وخلوه من الزبائن، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تحميل الكلفة للمستفيدين من خدمات الملاهي. فغالبية روادها من الطبقات الفقيرة. يقول: "هو جاي مقتول أصلاً... هازودها عليه؟!".فرصة للاستثمار.. ومطالبات بالرقابة
قبل أيام من لقائنا به، لم يملك كريم نصر متسعاً من الوقت للحديث إلى الصحافة، أو حتى للراحة. فقد ازدحمت ملاهي "سلمى بارك"، الواقعة أسفل كوبري الملك فيصل، بالمنطقة التابعة لحي بولاق الدكرور، في أيام عيد الأضحى. وعلى الرغم من صغر مساحتها، فهي مدينة الملاهي الوحيدة التي تغطي احتياجات الكثير من سكان المناطق المحيطة بها. وهي تتبع لعدد من مدن الملاهي الشهيرة المنتشرة في أرجاء القاهرة، ويتشارك فيها أكثر من 10 مستثمرين. في الظهيرة قابلنا نصر، مدير التشغيل المسؤول عن المشروع، بترحاب وحفاوة، قبل أن تدخل مجموعة من المراهقات فضلن اللعب والضحك قبل أن تزدحم الملاهي بالأطفال.لا تختلف الأزمات والمشاكل التي يواجهها نصر عن تلك التي يواجهها العم إسماعيل. ولكن الأول حدثنا بشغف عن مستقبل وضرورة مدن الألعاب، التي توصف بالشعبية، نظراً لانخفاض أسعار التذاكر، وسهولة الإجراءات التي تشرف عليها الحماية المدنية، ومن شأنها أن تعزز الاستثمار في ذلك "السوق المفتوح"، إذ تكفي 300 ألف جنيه (34 ألف دولار) للبدء في المشروع. في جعبة نصر الكثير من المقترحات التي قد "تجعل الدولة تستفيد من تلك المشاريع، وتعود على المجتمع بفوائد كبيرة، أهمها حق الطفل في اللعب والمتعة". فاجأنا نصر بأن كل الألعاب الموجودة لديه "بلدي"، أي صناعة مصرية. تمت صناعة المحركات في ورش الخراطة في حي شبرا الخيمة، وتم تجهيز الألعاب في المكان نفسه، على يد الحاج بلال، المالك القديم، قبل أن يشتري الألعاب 5 مسثمرين. يعرف كل من عمل في هذا المجال، أن المعلم قباني، أو "مسيو قباني" من رواد تلك الصناعة، ويخلفه "عماد مكرونة"، الذي "يُطلب بالاسم" سواء في محافظات مصر، أو الدول العربية مثل ليبيا والسودان. وعلى الرغم من جودة الألعاب المستوردة من إيطاليا، والتي تستخدم في مناطق أخرى كالعباسية، يفضل نصر الصناعة "البلدي". إذ تتم بمعرفة المالك والمسؤولين عن الملاهي حتى لا يقعوا في أزمة كبيرة، وتصبح "تجارة خاسرة في أرواح البشر"، خصوصاً بعد حادث الفردوس. وكانت اللعبة التي سقطت هناك، مستوردة، وليست محلية الصنع. يرى نصر أنه من الضروري أن يكون هناك جهاز متخصص للمتابعة والإشراف على تلك المشاريع. فكما أن هناك موظفاً من الضرائب للتحصيل، فليكن هناك جهاز كامل بإدارة هندسية وفنية وأخرى تشرف وتراقب، لتتحقق من معايير الأمان باستمرار. وتطرح هذه الإدارة الأراضي الصالحة لإقامة المشروعات، "فغالبية الملاهي قامت في أماكن كانت تعج بالقمامة والمشردين"، كما ذكر العم إسماعيل، وتدرس حاجة المناطق في المحافظات المختلفة، لتلك الملاهي، التي تعد متنفساً لطبقات كثيرة، خصوصاً من يعيلون أكثر من طفل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين