انطلاقاً من قاعدة "عدو عدوك صديقك"، سعت شخصيات عربية كثيرة إلى الاتصال بالزعيم النازي، أدولف هتلر، والدعاية لمشروعه معولةً على انتصاره على دول الحلفاء وتالياً على التحرّر من الاستعمار. من هؤلاء الشيخ التونسي محمد الشاذلي السنوسي الذي كاد النسيان يلفّ قصة مشاركته في الدعاية النازية كصحافي في إذاعة برلين.
شكّل الصعود السريع واللافت للزعيم النازي، أدولف هتلر، في ثلاثينيات القرن الماضي، والانتصارات المتلاحقة التي حققها على قوات الحلفاء في بداية الحرب العالمية الثانية، أملاً تعلق به عدد من النخب العربية لانتزاع استقلال دولهم من الدول المستعمرة. وكان الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، أشهر العرب المؤيدين للنازية آنذاك.
البحث عن الشهرة
ينتمي الشيخ محمد الشاذلي السنوسي إلى عائلة أرستقراطية، يتبوأ أبناؤها عادةً مناصب دينية أهمها التدريس في جامع الزيتونة. وحين تم إحداث التعليم العصري، أرسل والده جميع إخوته إلى المدرسة "الصادقية" التي تجمع التعليمين العربي والفرنسي ولكنه استثناه من ذلك وأرسله إلى جامعة الزيتونة لتلقي التعليم التقليدي تمهيداً لخلافته هناك. هذا القرار خلف فيه مركب نقص لازمه بقية حياته. فالتعليم الفرنسي كان جسراً لبلوغ المناصب الإدارية السامية في البلاد والاتصال بالنخب الفكرية في الخارج وكان يمنح صاحبه الحظوة لدى الطبقة السياسية يومذاك.
مركب النقص هذا، دفع الشيخ السنوسي إلى محاولة إثبات جدارته الفكرية والثقافية، فراح يراسل الصحف العربية في سوريا ولبنان والقاهرة مجاناً، ثم يجمع مواضيعه المنشورة ويعيد طباعتها في كتاب يوزعه في تونس على الكتّاب والشعراء والصحافيين. كذلك كان يغتنم فرصة إقامة مهرجانات أدبية لإلقاء خطب رنانة ضد بعض الكتّاب وكان يساير الجمهور كي يستقطب معجبين وأنصاراً. وقد شارك بحماسة شديدة في الحملة التي شنتها الأقلام المحافظة على المصلح الطاهر الحداد حين نشر كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
فرصة العمر
في خريف العام 1942، دخلت القوات النازية الألمانية إلى تونس بعد هزيمة فرنسا واحتلال باريس، وساد اعتقاد بين التونسيين بأن الألمان هم المخلص من كابوس الاستعمار الفرنسي. اعتقد الشيخ السنوسي أن فرصة العمر قد حانت وصار طريق الشهرة معبداً أمامه. فبعد شهر واحد من دخول الألمان إلى البلاد بادر إلى تقديم طلب للعمل في الإذاعة الألمانية بتونس وقُبل طلبه بعد وقت قصير. ومع بداية العام 1943 بدأ عمله في الإذاعة ثم تم نقله إلى روما حيث مكث ثلاثة أشهر، ولاحقاً انتقل إلى المقر المركزي للإذاعة في العاصمة الألمانية برلين، واستقر فيها مذيعاً في قسمها العربي، فقدم برنامجاً ثقافياً، كان موضوعه في السنة الأولى الردّ على كتاب طه حسين، "في الشعر الجاهلي". وتكشف طبيعة ردوده على طه حسين والطاهر الحداد، عن انتمائه إلى تيار محافظ يمثل المؤسسة الدينية الكلاسيكية آنذاك.
وبالتوازي مع عمله في الإذاعة، كانت للشيخ السنوسي هواية الإسراف والبذخ. يصف محمد صالح المهيدي في أوراقه، حال الشيخ في برلين قائلاً: "كان ما يتناوله من الأجر عن عمله في الإذاعة ينفقه في شراء الأثاث الفاخر كالسجاد الفارسي واللوحات الزيتية ذات الثمن المرتفع ويزين بها محل سكناه، مدعياً أنه لم يجد أين يصرف تلك الأموال لأنه كان ينتظر أن يزوره فيها القادة والزعماء من رجال الشرق النازلين في تلك المدة بالعاصمة الألمانية برلين حتى يكون محله أهلاً لقبولهم. وكان زميله المترجم يحذره من هذا الإسراف ويقول له إننا في حالة حرب فلا يمكن للإنسان أن يطمئن على شيء من هذا الأثاث الفاخر فإذ انتهت الحرب بنصر ألمانيا لك أن تفعل ما تشاء بالمال الذي عندك ولكنه لم يعمل بنصائح زميله".
نهاية مأسوية
مع بداية العام 1945، بدأت القوات النازية تتقهقر أمام تقدم الحلفاء، وتعرضت العاصمة الألمانية لغارات جوية أصابت إحداها منزل الشيخ السنوسي وحولته إلى ركام، مدمرةً الأثاث الفاخر والتحف الثمينة والسجاد الفارسي النفيس. وعندما حاول السنوسي إنقاذ بعض مقتنياته، التهمته النيران وأصيب بحروق بليغة أقعدته في المستشفى ثلاثة أشهر. وبعدئذ انتقل للعيش في ضواحي برلين منكسراً محبطاً. فقد ترافق فقده لبيته الفاخر مع الهزائم التي كانت تتكبدها القوات النازية، وانتهت بإعلان الزعيم النازي استسلامه في مايو 1945. حينذاك، تسرب المرض إلى الشيخ وأنهكه، إلى أن توفي في 24 يوليو 1945 في مستشفى الأمراض الصدرية بمقاطعة بافاريا، ودفن في مقبرة اللاجئين بقرية أخت دورف.
ويروي المهيدي في أوراقه أن السنوسي حظي بتكريم رسمي من الحكومة الألمانية: "وقد قدرت الحكومة الألمانية قيمة هذا الفقيد الذي جنى عليه اجتهاده فصنعت له قبراً منحوتاً من الرخام ووضعت فيه لافتة كُتب عليها بالعربية: "هنا يرقد المجاهد العربي، الأستاذ محمد الشاذلي السنونسي التونسي، المدرس من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة المعمور". وفي أعلى اللافتة تمثال لوجه الفقيد نحته نحات ألماني وهو ملتفت إلى العلم التونسي وكأنه يناجيه وقد بلغت تكاليف القبر 3 آلاف مارك من ميزانية الحكومة الألمانية وتحيط به حديقة غناء".
نشر هذا الموضوع على الموقع في 11.03.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...