كان هنالك في بلد ما سجن كبير وسجين مظلوم لا يحلم إلا بالحرية. ظلّ يحلم ويحلم لسنوات طويلة حتى فقد الأمل. لكن حدث شيء غريب ذات صباح. وجد أبواب السجن مفتوحة والسجانين قد اختفوا.
هرول السجين كالمجنون واخترق باب السجن الكبير وأصبح خارج الأسوار جاهزاً لرؤية النور واستنشاق الهواء بحرية والذهاب إلى أيّ مكان يريده. لكنه توقف فجأة وفكر ملياً واكتشف أن جوّ الحرية لم يعد مناسباً له وأنه يحن إلى السجن.
وعندما عاد، وجد شيئاً عجيباً وهو أن زملاءه القدامى في الزنزانة لم يحاولوا مغادرة السجن أصلاً. وعندما اكتشف السجانون أن خطتهم نجحت تماماً قرروا أن يتركوا أبواب السجن مفتوحة واثقين أن لا أحد سيفكر في الهروب بعد اليوم.
هذه القصة المعبّرة التي كتبها شعراً الشاعر المصري "عماد أبو صالح" ربما تكون ضرباً من الخيال، لكنه خيال له أصل في الواقع ويستطيع أن يضع الشعوب التي اعتادت العيش داخل سجن الديكتاتور أمام تساؤل منطقي تماماً. هل يخضع الناس لأن الطغاة أحكموا قبضتهم عليهم؟ أم لأنهم اعتادوا السجن ووجدوا أن الحياة بداخله هي التي تناسبهم وأن الحرية لا تصلح لهم؟ هذا التساؤل المشروع طرحه عدد من المفكرين منذ أرسطو وحاولوا الإجابة عنه بطرق مختلفة.
الخداع السياسي
تحدث الفيلسوف اليوناني أرسطو عن طريقتين تؤديان إلى ترسيخ الحكم الاستبدادي، أولاهما أن يروّع المستبد شعبه ويرهبه ويضطهد معارضيه، والأخرى أن يتّبع بعض أساليب الخداع السياسي لتجميل صورته أمام الشعب وتصدير نفسه إليه باعتباره المستبد العادل والترويج لأعمال عظيمة يصنعها له، لكنها لا تحدث في الواقع، أو حتى تضخيم أعمال حدثت بالفعل.
وأكد نيقولو ميكافيللي، صاحب كتاب "الأمير" الشهير، أن المستبد يستطيع أن يفعل بشعبه ما شاء شريطة أن يتبع هذه الآلية الثانية بدقة.
وهنالك أيضاً بعض الآليات الشهيرة في عالم السياسة كخلق عدو وهمي أو تضخيم الصورة الوحشية لعدو موجود بالفعل بهدف توحيد الناس تحت شعار "محاربة الأعداء".
ولكن كل هذه الآليات التي تعطينا فكرة عن كيفية إخضاع الديكتاتور لشعبه المطيع لا تعفينا من السؤال "لماذا يخضع الناس؟". ولماذا يكون بعض الناس أكثر قابلية للاستجابة لمثل هذه الآليات؟ وهل هنالك شعوب تكون أكثر استعداداً من غيرها لتقبل الديكتاتور؟
الشعوب النهرية لا تثور
يقول المفكّر جورج دبليو هالجارتين George W. F. Hallgarten، في كتابه "لماذا الديكتاتور؟" Why Dictators، أن كل الشعوب من الممكن أن تمر بتجربة الحكم الديكتاتوري إذا توفرت بعض الشروط والملابسات التاريخية والاجتماعية التي تجعلها مستعدة لتقبل فكرة الحاكم المستبد والتعايش معها.
وقد عمل بعض المفكرين على تحليل الملابسات التي أدّت ببعض الأمم إلى الدخول تحت سطوة الطغيان.
النموذج الأول من الشعوب التي خضعت للاستبداد على مدار فترات طويلة من تاريخها هو نموذج الشعوب النهرية. والجملة الشائعة في هذا الشأن هي مقولة المفكر المصري جمال حمدان: "الشعوب النهرية لا تثور".
وحقيقة الأمر هي أن جمال حمدان نفسه كان قد استقى فكرته هذه من كتاب المفكر الألماني ويتفوجل Wittfogel بعنوان "الاستبداد في الشرق" Oriental Despotism، وفيه يضرب بعض الأمثلة عن الشعوب التي نشأت على ضفاف الأنهر في ظل طبيعة جغرافية خاصة تجعل من النهر وحده المورد الرئيسي للحياة كمصر والصومال القديمة والصين.
ويفسّر ويتفوجل نظريته بقوله إن هذه الشعوب أقامت حضاراتها على الزراعة حول مياه النهر، بالشكل الذي يجعل المطلب الأول للمزارعين هو التحكم بسير النهر وتنظيم الفيضانات العارمة وإقامة المجاري وقنوات الري.
وكانت الإمبراطوريات التي نشأت في هذه البلدان تقوم على فكرة أن يقوم الملك بالتحكم في هذه الأمور، ويضمن بذلك ولاء السواد الأعظم من الناس وهم المزارعون.
وعليه، أنشأ الحكام نظام حكم شديد المركزية وهيكلاً وظيفياً هرمياً يجلس الملك على رأسه، مع وجود جيش قوي يحكم هذا النظام ويسخِّر المزارعين لإنشاء الترع والقنوات. ويؤكد ويتفوجل أن الشعب في ظل نظام محكم قائم على تبادل مصالح كهذا يستحيل أن يفكر في الثورة مهما كان الأمر.
خطورة المراحل الانتقالية
وبخصوص الدول النامية، يشير المفكران الأوروبيان جابرييل ألموند Gabriel A. Almond وجيمس كولمان James S. Coleman، في كتابهما المشترك "الأنظمة السياسية في الدول النامية" The Politics of the Developing Areas، إلى قابلية مجتمعات الدول النامية للاستسلام أمام أنظمة ديكتاتورية نتيجة وجودها في مرحلة انتقالية، فقد حققت تطوراً نسبياً في أنظمتها السياسية لكنها لم تبلغ بعد النضج السياسي الكافي لاستقرار النظام.
ويشير ريتشارد بهرندت Rechard F. Behrendt، وهو أحد فلاسفة معهد فرانكفورت، إلى وجود مفاهيم خاطئة في المجتمعات الناشئة مفادها أن الحل الوحيد لإحداث تطور سريع هو سيطرة شخص واحد على الحكم وتمكينه من تطبيق خطة نهضوية شاملة.
ويحذر في كتابه "الاسترتيجيات الاجتماعية للبلدان النامية "Social strategies of developmental states من أن سيطرة هذا المفهوم، مهما كانت النتائج الإيجابية الناتجة عنه، تؤدي إلى تأخير التطور المجتمعي المتمثل في الارتقاء بوعي الجماهير وسلوكهم الحضاري. وبرأيه، هذه الأشياء لا تتطور إلا من داخل المجتمع لا بالإملاء من الخارج، كما أن هذا التأخير من شأنه أن يذهب بكل الإيجابيات المحتملة.
الجهل والديكتاتورية
ويتحدث كثيرون عن أهمية التعليم الجيد في الارتقاء بوعي الإنسان. وربما يفسّر هذا الأمر شيئاً من المشكلة في بعض البلدان التي يرتفع مستوى الجهل فيها وتتدنى جودة التعليم، ما يجعل شعوبها عرضة للتأثر السريع بأساليب الديكتاتور.
لكن الجهلاء وقليلي التعليم قد لا يكونون وحدهم المعرّضين للخضوع للاستبداد، وهذا ما حاول ان يثبته تشيسلاف ميلوش Czeslaw Milosz في كتابه "العقل الأسير" Captive mind.
يقول أن المثقف الذي يمتلك وعياً كافياً يفترض أن يؤهله لرفض الديكتاتور يمكن أن يتحوّل إلى أداة في يد النظام، لكن ما يختلف هو أنه يخضع بوعي، وهذا يجعل شعوره بالذنب أقوى. لذلك، يلجأ إلى آليات نفسية لتنحية هذا الشعور بالذنب. فقد يمنح ضميره بعض المسكنات من قبيل المعارضة السرية للسلطة وقد يكتب بعض الكتابات سراً ويضعها في درج ليشعر بممارسته شيئاً من الحرية الذاتية.
التجربة الأوروبية
وفي تحليل نفسي واجتماعي، حاول الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو Theodor Adorno تفسير سبب خضوع بعض شعوب أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي لأنظمة ديكتاتورية دموية مثل هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا.
يقول أدورنو أن الأمر حدث نتيجة لبعض التغيّرات المحورية التي أصابت الشخصية الأوروبية في القرن العشرين، وهي انهيار نظام الأسرة الأبوية التي يلعب فيها الأب دوراً محورياً في تنشئة الأبناء وتوجيههم.
وبحسب أدورنو، دفعت الظروف الاقتصادية الجديدة في ذلك الوقت الأبناء إلى أن ينشأوا في غياب دور الأب، مما نتج عنه تشوّه في نفسية الأجيال الجديدة من الأوروبيين. وبسبب هذا التشوّه راحوا يبحثون عن شخص يلعب دور الأب البديل.
ويقول إن الديكتاتور الذي استولى على الحكم في ذلك الوقت كان يقدم نفسه بشكل أو بآخر لا باعتباره الزعيم المخلص وحسب بل باعتباره هذا "الأب البديل" الذى سيرعاهم ويوفر لهم الحماية ويغمرهم بشخصيته المهيبة الكاريزماتية. ونتج عن ذلك حماسة كبيرة للديكتاتور بين صفوف الناس.
اتّباع التيار السائد
ومن الممكن أن نضيف إلى كل الأفكار السابقة أن العقل البشري يميل إلى التسليم بالأمور الشائعة والتوجهات العامة في المجتمع، وبشكل أدق هو يبحث عن فكرة واحدة يفسر من خلالها كل ما يحدث في العالم. وهذه الفكرة الواحدة هي التي نسمّيها الإيدولوجيا.
وقد لعبت الإيديولوجيا دوراً كبيراً في الخضوع التلقائي للديكتاتور والأمثلة على ذلك كثيرة وموجودة بوفرة في ديكتاتوريات القرن العشرين، إذ لعبت الإيدولوجية الماركسية دوراً مهماً في إخضاع الناس للديكتاتوريات الشيوعية، وفكرة "الجنس الألماني النبيل" أدت إلى نشوء ديكتاتورية هتلر...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...