يرقد موسوليني في قسم النساء والتوليد، وإلى جانبه هتلر مهموماً مغلوباً على أمره ينتظر المولود الجديد، قبل قرار إيطاليا دخول الحرب في العاشر من يونيو 1940، ويفكّر: هل يكون بنتاً (السلام)، أو ولداً (إله الحرب مارس).
ثم في يونيو 1943 ها هو موسوليني "المهرّج"، كما صوّره فنان الكاريكاتور الأرميني الشهير صاروخان، مرتدياً "طرطور النازيّة"، يُنادي عارضاً مؤخرته للجنرالات الممثلين جميع الدول، كأوتوغراف طبعوا عليه بأحذيتهم: هل من أحد لم يوقٰع؟ أما هتلر نفسه، فيُظهره صاروخان في أكثر الصور رعونة ونزقاً، ذا مؤخرة مشتعلة ومنساقاً لوزير إعلامه غوبلز "القزم المتحذلق".
[caption id="attachment_37198" align="alignleft" width="700"] بهذه الطريقة أوقف هتلر تقدّم الحلفاء[/caption]في إحدى لوحات كتاب "هذه الحرب.. كما رآها صاروخان: كاريكاتور سياسي"، التي تؤرّخ للحرب العالمية الثانية، يظهر هتلر على هيئة فأر يقع في مصيدة بترول أوكرانيا التي أعدّها له ستالين. انتبه ألكسندر صاروخان (1898 - 1977) مبكّراً لاشتعال الموقف، وبحسّ فنان الكاريكاتور الصحافي، دفعته رغبة قوية لتسجيل لحظات ويوميّات تلك الحرب التي اعتبرها "الصراع العنيف الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية". الكتاب بالفرنسية، مطبوع في القاهرة، ومن المنتظر أن تصدر ترجمته إلى العربية عن المركز القومي للترجمة من إعداد راوية صادق.
رسم صاروخان لدوريّات صحافية قاهرية ناطقة بالفرنسية، منها الجريدة اليومية La Bourse Egyptienneالتي صدر عنها كتاب "العام السياسي 1938"، الذي توقٰع فيه صاروخان الحرب الآتية، واعتمد على 46 رسماً كاريكاتورياً منه لكتاب "هذه الحرب" في القسم الأوّل "فترة ما قبل الحرب". ومن الجرائد الفرنسية المصرية أيضاً Le Progres Egyptienو Le Journal dEgypte.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصدر صاروخان هذا الكتاب جامعاً فيه صورة بانورامية عن أهم أحداث الحرب، التي ناصر فيها الحلفاء، وتوقع انتصارهم وحشد أسلحة السخرية اللاذعة ضد الفاشية. الكتاب يتضمن 148 صورة كاريكاتورية من نحو 1500 صورة رسمها صاروخان خلال سنوات الحرب ونشرها على صفحات الجرائد والمجلات، ومن بينها جريدته الأسبوعية السياسية الساخرة "لاكارافان" أو"القافلة" التي استمرت أربعة أعوام.
غوبلز
يعتبر المتخصصون رسوم تلك الحقبة من حياة صاروخان من كلاسيكيات فن الكاريكاتور في القرن العشرين. وجّه فيه فنان الكاريكاتور سهاماً عنيفة لآلة الحرب، التي لا تتوقف وتدمّر كل جميل. ووضح في إنتاج هذه المرحلة الأسلوب الصاروخاني، وأصبح أكثر نضجاً في اكتشاف بذرة الفكاهة في لب الموقف السياسي. والقدرة على السخرية العنيفة من "أعدائه السياسيين الذين هم أعداء الإنسانية"، كما آمن صاروخان، وعلى رأسهم "زعماء المحور هتلر وموسوليني وملفّق الآلة الإعلامية غوبلز وجورنج ورئيس وزراء اليابان".
ينقل كاريكاتور صاروخان السياسي في كتاب "هذه الحرب" انفعالاً حاداً بالأحداث، ورؤى صارخة. على الغلاف الأمامي يرسم نفسه وهو يتراقص بريشته الطويلة المسنونة، وهي ترشق رأسيّ موسوليني وهتلر. أما الغلاف الداخلي فيبدو فيه وهو يُدير مجسماً للكرة الأرضية، تطيح منه أوراق اللعبة المهزومة: هتلر وموسوليني وغوبلز وهيرو هيتو الياباني.
وفي مقدمة كتبها "أوين هولواي" من كلية الآداب جامعة فؤاد الأوّل حينذاك: "صاروخان مُحارب ممتاز، يمتلك ثقافة عميقة عمّا يمكن أن تعنيه الحرب للشعوب والمواطنين العاديين الذين ينشدهم في أعماله". يقصد هنا أن هذا الفنان في المقام الأوّل أرمنيّ، والأرمن "شيوخ معاناة قدامى"، بحسب ما تقول المقدمة: "يُسجّل صاروخان يوميّات الحرب محمّلاً بإرث قديم وثقيل من المذابح والمجاعات". وفي إحدى الصور يذكّرنا أن أكثر من ثلاثين من المحاربين الأرمن خدموا في الجيش الأحمر".
[caption id="attachment_37072" align="alignleft" width="700"] انهيار صرح النازية[/caption]وفي خاتمة خطابيّة، يكتب صاروخان أن الكفاح لم ينته بعد. وأن أمام الجميع نضالاً متواصلاً من أجل الحرية: "صرح الشر عبارة عن معبد لقوّة تحمل انهياراتها بين طيّاتها. وتحت أنقاض هذا المعبد مدفونة كل عصابات الفاشيّة النازيّة". هذه العبارة عكست مدى وعيه أن تلك الحرب دليل انهزام، وأنها "صدام مسلّح داخل المنظومة الرأسمالية متولّد عن تناقضاتها". كذلك يكتب: "يوم 8 مايو 1945 كان عيداً، لكنه سيظل ذكرى أليمة لمعاناة ملايين من الأبرياء دفعوا الثمن من أجل هذا النصر".
في لحظات كثيرة، يتخلّى صاروخان في مقالته عن خفّة السخرية لمصلحة كلمات ونصائح شديدة اللهجة والجديّة. يرى أن المهمّة شاقة بعد انتهاء الحرب لبناء السلام، وكبح جماح الطموحات العدوانية العسكرية، وأن المراهنة في ذلك بوجود البشرية نفسها. فيقول: "حان الآن وقت بناء عالم جديد، بعد كسر آلة الحرب الأكثر شراسة، حشد الجهود لتعميم السلام والعدل والعمل، لأجل هؤلاء الذين بذلوا حياتهم في هذه الحرب، علّنا نستطيع القول بضميرٍ مُرتاح: الآن لم تذهب أرواحهم هباءً".
في هذا الكتاب الجاد الهزليّ، وعلى طريقة العبارة الفرنسية الشهيرة "انتهت الحرب فلتحيَ الحرب"، يختتم صاروخان مقالته: "دعونا نتذكّر، هذا هو الشعار الذي علينا رفعه من الآن فصاعداً. دعونا نتذكّر جيّداً، الدرس الذي يشمل كل شيء تحمّلته الإنسانيّة لست سنوات".
[caption id="attachment_37070" align="alignleft" width="700"] أقتحم إنجلترا… لا أقتحم إنجلترا… أقتحم إنجلترا… لا أقتحم...[/caption][caption id="attachment_37207" align="alignnone" width="701"] سقوط الأحلام[/caption] [caption id="attachment_37209" align="alignnone" width="700"] كذبة أبريل لغوبلز هي أن ينقل الحقيقة[/caption]
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...