"كل يوم ليلاً، قبل أن أنام، أعدّ حبوب دوائي. إنها خمس. أسأل نفسي لماذا أنا؟ ولماذا عشت معظم حياتي أفكّر بالموت. وكلّ يوم صباحاً، حين أستيقظ، أقرّر أن ألملم أجزائي، جزءاً وراء الآخر، وأجمعها، وأنطلق إلى الحياة، وأحاول" – رشا الأمين (27 عاماً، حاولت الانتحار أكثر من مرّة منذ كانت في الرابعة عشرة من عمرها).
ما يُبلّغ عنه
بين عامي 2004 و2014، زاد عدد حالات الانتحار المسجّلة في لبنان، 2.4 أضعاف. في العام 2004، وثّقت 60 حالة فقط. في العام 2014، 143 حالة. منذ بداية العام الحالي، سجلت 92 حالة انتحار. يشهد لبنان كل ثلاثة أيّام حالة انتحار واحدة، بين مواطنين لبنانيين، ونازحين، وعمال وعاملات أجانب، إلى جانب المنتحرين في السجون. معظم الأرقام المسجلة لا تعكس الواقع بدقّة، فهناك انتحارات لا يبلغ عنها، وانتحارات قد يظهر التحقيق مع مرور الوقت أنّها كانت جرائم قتل.روك أند رول ومتفجرات
- انتحر برمي نفسه من الطابق الخامس في منزل صديقه لشغفه الحميم بموسيقى "الروك أند رول".
- قصد سقيفة منزله حيث يخبئ بعض المواد المتفجرة، ثمّ ذهب إلى الجامع حيث أدى صلاة الظهر. وتوجه من هناك إلى بستان بعيد عن الناس، كي لا يتأذى أحد. تربع تحت سنديانة طالما لعب تحتها في طفولته وأطلق العنان لزر صغير كان كافياً لأن يحول الجسد إلى أشلاء.
- رفضت عائلة حبيبته زواجها منه، فاختار شجرة بالقرب من نافذة غرفتها، ونصب عليها حبلاً، وشنق نفسه.
- غادر مكان عمله متوجهاً إلى عيادة طبية، وعندما همّ بالانطلاق بسيارته أخطأ في تحريك "الفيتاس"، فارتطم بجدار، مما أدّى إلى تضرّر مقدمة السيارة. ترجّل منها غاضباً وضرب الزجاج الأمامي بمسدسه ثلاث ضربات فحطمه، ثم وجه مسدسه إلى رأسه، وأطلق رصاصة واحدة على الصدغ الأيمن، وسقط أرضاً مضرجاً بدمه وتوفي فوراً.
الأرقام الضائعة
الإحصائيات الأدقّ عن الانتحار في لبنان، تصدر عن قوى الأمن الداخلي، كونها الجهة الوحيدة القادرة على جمع معطيات مباشرة فور وقوع الحادث. تصدر "منظمة الصحة العالمية" إحصائيات دوريّة، آخرها صدر في العام 2012، وحُدِّث في العام 2016، ويشير إلى أنّ معدلات الانتحار في لبنان، من بين الأقلّ عالمياً، أي بنحو 0.9 حالات انتحار بين كلّ 100 ألف. ولكن، إن افترضنا أنّ عدد سكان لبنان يناهز 4 ملايين، فذلك يعني أنّ وتيرة الانتحار عالية على قياسٍ محليّ. محاولة البحث عن أرقام الانتحار الدقيقة في لبنان، كالنبش في كومة قش. جمعية Embrace المعنية بالتوعية بشأن الصحة النفسية، ستصدر تقريراً جديداً عن معدلات الانتحار نهاية العام 2016. التقرير قيد الإعداد، ولم ينشر بعد. نشاط الجمعية جدي، لكنه حديث العهد، إذ أنّها تأسست في العام 2013، ولا تملك إحصاءات تمتد على فترة زمنية طويلة. لا يندرج الإحصاء ضمن مسؤوليات وزارة الصحة حالياً، بالرغم من إنشاء برنامج خاص بالصحة النفسية في الوزارة قبل عامين، من ضمن أهدافه، تحسين آليات الرصد والتوثيق حول الاضطرابات النفسية عموماً، وحول ما ينتج عنها من حالات انتحار بشكل خاص. شركة "الدولية للمعلومات" تصدر دراسات عن الموضوع، وتعدّ مصدراً موثوقاً به لوسائل الإعلام، إذ أنّها تستند إلى بيانات قوى الأمن. للحصول على ما بحوزة قوى الأمن من أرقام، يحتاج الأمر إلى أيّام، ويتطلّب ذلك أخذ إذن من مدير عام قوى الأمن الداخلي، للتواصل مع شعبة العلاقات العامة التي تتعاون عادةً بإيجابية وانتفاح مع الصحافة، ولكن عبر حلقة بيروقراطية طويلة، وبفعالية محدودة. مثلاً، نحصل على الأرقام كتلة واحدة، من دون تحديد وسيلة الانتحار، الأعمار، الجنس، توزع الحالات على المناطق، ونسبة الحالات بين النازحين والعمال الأجانب بدقة. معلومات كهذه، من المفترض أن تفصلك عنها نقرتان على الانترنت أو ثلاث على الأكثر. بعض المعلومات عن أرقام الانتحار في لبنان، تنشر بشكل متفرق في الصحف، لكنها تبقى ناقصة، وغير معممة. من المرجح أن الأمر غير ناتج عن نية في الحجب، بل عن افتقار حقيقي إلى بنية للرصد والتوثيق والنشر، إلى جانب تكتم بعض العائلات في حال إقدام أحد أفرادها على الانتحار، خوفاً من الوصمة. فوضى الأرقام هي جزء بسيط من سوء فهم كبير يحيط بموضوع الانتحار في لبنان.حب وعبدة شيطان وسمّ
- طلب من ابنته عدم سماع الموسيقى والأغاني، بعدما كان قد حذّرها من ذلك مرات عديدة. ولما لم تمتثل له نشب جدال بينهما أطلق على أثره النار عليها فقتلها، قبل أن يقتل نفسه حزناً وغماً.
- وجدت القوى الأمنية في أحد جيوبه ورقة طبية صادرة عن أحد مستشفيات المنطقة، تشير إلى أنه يعاني من أمراض عصبية.
- شاب قضى منتحراً... وملاحقة عدد من "عبدة الشيطان".
- "حب قاتل" وراء جريمة... طبيـب يقتـل محاميـة وعائلتهـا وينتحـر.
- أم أربعينية تنتحر بالسم بعد تسميم بناتها الثلاث... الوالدة سجلت شريط فيديو يوضح دسّها السمّ لها ولبناتها.
الاستنتاجات السهلة
شهد العام 2008 قفزة كبيرة في حالات الانتحار المسجلة في لبنان. في العام 2007، كان عدد المنتحرين 54. في العام 2008، قفز الرقم إلى 103، واستقر في محيط الرقم 100، ليقفز في العام 2013 إلى 143. لا أحد يملك إجابات دقيقة وعلمية عن السبب المحتمل لهذا الانهيار. غالباً، يقفز الإعلام نحو استنتاجات سهلة وبديهية: الوضع الاقتصادي الخانق، الوضع السياسي والأمني المضطرب، وضع المنطقة المأزوم، عبدة الشيطان، الفقر، موسيقى الروك أند رول، شجاعة التخلّي عن حياة لا تطاق، الكفر، الإدمان... في الواقع، فإنّ الحديث عن الانتحار يترافق غالباً مع خوف وارتباك، يجعل الجميع ينظرون في الاتجاه الخاطىء، محمّلين بالكثير من الأساطير الفردية والجماعية عن موضوع أعقد من حصره في حلقات السبب والنتيجة المبسّطة. ولأنّ الانتحار يشكّل مادة خصبة للأدب والسينما، فإنّه يكتسب في نظر الكثيرين بعداً صادماً ورومانسياً في آن. يمكن أن نرصد أنماطاً مكرّرة من الخطاب حول الانتحار، يناقض بعضها بعضاً. في معظم الحالات، تغيّب المعطيات البحثية والدراسات العلمية، لمصلحة إثبات منطق واحد مشبع بالاسقاطات الذاتية. فمن جانب، يهجم البعد الديني على المشهد. ما زالت العائلات اللبنانية التي تفجع بانتحار أحد أفرادها، تفكّر بأسئلة الدفن، وإمكانية الصلاة على المنتحر، وكلّ ما يرافق ذلك من عار وإذلال من قبل المؤسسة الدينية والمحيط العائلي والاجتماعي. ومن جانب آخر، وفي محاولة لنفي خطاب الثواب والعقاب والكفر وإزهاق الحياة بخلاف رغبة الخالق، تتوالد خطابات تجعل من كلّ فعل انتحار انتصاراً للانسان على عدمية الحياة، وتفترض بحتمية أنّ المنتحر اتخذ خيار الموت، كموقف واحتجاج. كلا المنطقين ينبعان من تصورات عامة لا تعترف بتعقيدات النفس البشرية، وتطلق على المنتحرين أحكاماً خارجية. فحين نقول انتحار، نتخيل شابة بثوب أبيض، تحاول القفز من سقف بناء عالٍ، لأنّها ملّت من الحياة. نتخيل شاعراً يقفز عن صخرة الروشة، لأنّه أصيب بخيبة. نتخيل حبيباً يقتل حبيبته التي رفضت الزواج منه، ثمّ ينتحر. في الواقع، ينطوي الأمر على الكثير من الدماء، وأشلاء الأدمغة المبعثرة، والعظام المهروسة، والأضلاع المكسّرة، والملابس المضرجة بالدماء والتراب، والفرص الثانية المزهقة. هناك إصرار على نفي الاضطراب النفسي بكثير من التعالي والاحتقار. فبالنسبة لمتبني الشرح الديني، لا داعي للحزن، الحياة جميلة بالصلاة والتوبة وتحمّل المصاعب برضاً وتسليم، ولا حاجة لعلاجات نفسية أصلاً. وبالنسبة لأصحاب الفرضيات العدمية المنسوبة إلى الفلسفة، تحاط الكآبة بهالة قدسية، وتقدّم الاندفاعة نحو الموت كموقف مثير للاهتمام من الوجود، مقابل خفة و"غباء" الإقبال على العيش. وتلك المقاربة وإن حملت ظاهراً "متمرّداً على الموروث الديني"، إلا أنّها في العمق ناتجة عن الموروث ذاته، لناحية تبجيل الحداد، والتعاطي مع السعادة عموماً بشيء من الذنب، وجلد الذات. بالنسبة للتيارين السائدين، فإنّ الإقرار باحتمال تعرّض أيّ كان لاضطراب نفسي، والتصالح مع الهشاشة والضعف البشريين، ينطويان على إهانة للنفس الإنسانية وعظمتها، بدل أن يكونا طريقة لفهمها في قوّتها وترهّلاتها.منذ بداية العام 2016، انتحر 92 شخصاً في لبنان... وخلال العقد الماضي، زادت نسب الانتحار في البلاد بنحو 2.4 أضعاف
للإعلام مسؤولية كبيرة في رفع وصمة العار عن الاضطرابات النفسية، وعدم تصوير الانتحار كفعل بطولي ورومنسي، بل كخسارة كبيرة تترك جروحاً في العائلة على مدى أجيال
جبان أم شجاع؟
بعيداً عن الخوض تفصيلاً في كلّ سرديات الانتحار، يمكن اختصار كلّ ما يطرح حوله في النقاش العام بسؤال: هل المنتحر/ المنتحرة جبان أم شجاع؟ الملفت أنّ إجابة المختصين النفسيين حول السؤال تأتي متطابقة، بشكل كافٍ لنفهم أنّ السؤال من أساسه إشكالية خاطئة، وبعيدة عن جوهر الموضوع. نوجه السؤال إلى أستاذة علم النفس الاجتماعي في الجامعة اللبنانية والمعالجة النفسية رجاء مكي، فتقول: "المنتحر ليس جباناً، ولا شجاعاً، والمسألة ليست مسألة تفاخر وتباهٍ، أو جبن واستسلام. الانتحار سلوك نفسي، وردة فعل نفسية، إذ تتفاعل الضغوط في نفس الفرد ويعمل على إبرازها بسلوك ما". كذلك تقول المعالجة النفسية في جمعية Embrace بيا زيون: "من يصل إلى مرحلة الانتحار، ليس جباناً ولا شجاعاً، بل هو شخص يعاني من ألم نفسي كبير، ويعيش في حالة نسميها tunnel vision، فلا يقدر على رؤية أيّ حلول للألم سوى إنهاء حياته. الموضوع غالباً ليس خياراً منطقياً ومحسوباً". يقول الطبيب النفسي ربيع الشمّاعي، مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة اللبنانية، أنّ هناك فئات أكثر عرضة من غيرها لمعايشة ضغوط اجتماعية ترفع من احتمال اصابتها باضطرابات نفسية، وهي في لبنان: النازحون، السجناء، عائلات المفقودين، الناجون من التعذيب، عاملات المنازل، الناجون من العنف المبني على النوع الاجتماعي، الأقليات الجنسية (LGBT)، المراهقون.من أكثر الفئات عرضة لمعايشة ضغوط اجتماعية ترفع من احتمال اصابتها باضطرابات نفسية: النازحون، السجناء، عائلات المفقودين، عاملات المنازل، الأقليات الجنسية (LGBT)...ويلفت الشمّاعي في حديث لرصيف22 إلى أنّ 1 من كل 4 أشخاص عرضة للإصابة باضطراب نفسي خلال حياته. ينشأ الاضطراب عن تكاتف عوامل بيولوجية (وجود تاريخ مرضي في العائلة مثلاً)، نفسية، اجتماعية (مثل التعرّض لضغوط حادة أو لصدمات). "من أسباب وصمة العار المحيطة بالاضطراب النفسي، وجود اعتقاد سائد بأنّه دليل ضعف، لكن الحقيقة أن كلنا عرضة للإصابة به، تماماً كما نصاب بالتهاب الرئة، أو بكسر في الرجل، أو بالسرطان".
"موتي، موتي، موتي"
تقول رشا الأمين: "الألم الذي يعاني منه المريض النفسي، أسوأ بمليون مرّة من أيّ نوع ألم آخر". تكرّر كلمة "وجع" خلال حديثها أكثر من مرّة. "في لحظة محاولة الانتحار، تنفصلين عن الواقع بشكل كامل. لا أفكّر إن كنت قوية أو ضعيفة، ولا أفكر بمن يحبونني. فكرة واحدة تستحوذ على الرأس: "موتي، موتي، موتي". وهذا ألم لا يشبه أيّ ألم آخر. الأفكار في رأسك تؤلمك، ولا شيء يزيلها. في تلك اللحظات، حين كنت أجرح نفسي، وأرى الدم، كنت أرتاح". تعرّضت رشا للتحرّش والتعنيف في طفولتها، وحين بلغت الرابعة عشرة من عمرها، أقدمت على أول محاولة انتحار في حياتها، في حمام المدرسة، من خلال تناول كمية كبيرة من حبوب الأسبيرين، وجرح معصميها. استيقظت في المستشفى مع والدتها. لم تعرضها العائلة على طبيب نفسي. طلبت منها أمها فقط بأن لا تخبر والدها بما حدث، لأنه لن يتقبل الموضوع، وستكون عقوبتها كبيرة. تعامل الأهل بنكران كامل مع حالة ابنتهم النفسية. "كان مستحيلاً أن يتقبلوا فكرة أن ابنتهم "مجنونة" بحسب التعبير المتداول، ورأوا الأمر فقط من منظار العيب". حاولت رشا البحث عن الشفاء لوحدها. لم تكن تعرف شيئاً عن العلاج النفسي. قرأت في مجلة عن معالجة نفسية تساعد القراء عبر البريد. تواصلت معها، وأخبرتها بمشكلتها. وفهمت للمرّة الأولى أنّها تحتاج إلى علاج. جمعت كلفة جلسات العلاج الأولى من مصروفها المدرسيّ الخاص. كانت تلك بداية رحلتها مع علاج طال لأكثر من عقد من الزمن، بين هبوط وصعود، بين نجاح وفشل، وبين أكثر من 15 طبيباً ومعالجة نفسية، ومحاولات انتحار أخرى. "استيقظت بعد إحدى محاولات انتحاري في المستشفى، بعد غسيل معدة استخدموا فيه الفحم. وجدت جسمي بأكمله مغطىً باللون الأسود، وثوب المستشفى الأبيض مليء بالبقع السوداء. متّ من الفزع. قررت يومها وجوب أن أشفى، كي لا أضطر لأن أستيقظ بهذه الحالة مرّة جديدة، لأنّي أعرف أني لن أمتلك الجرأة على رمي نفسي من الشرفة". خلال إحدى نوبات الاكتئاب، تدهورت حالة رشا بشكل كبير، وفقدت القدرة على النطق، وأصيبت بنوبات هلع متكررة، فعرفت أنها ستصل إلى نقطة تندفع فيها لإيذاء نفسها. أخفت كلّ الآلات الحادة من المنزل، وأفرغت غرفتها من حبوب الدواء. طلبت من أمها أن تتبعها أينما ذهبت، سواء دخلت إلى الحمام، أو توجهت نحو الشرفة. جلست في السرير، وحاولت تقييد يديها بالشراشف، كي تتفادى إيذاء نفسها في لحظة اللاوعي المطلقة. "مع اشتداد نوبة الألم، شعرت أني أمام حلّين، أو أنّي سأجنّ فعلاً، أو أنّي هذه المرة سأنجح بالانتحار. طبعاً، لم يأخذني أهلي إلى المستشفى. طلبت تاكسي، وتوجهت إلى مستشفى دير الصليب للأمراض العقلية والنفسية. أذكر أني حين وصلت، كنت أصرخ "بدّي موت، بدّي موت". طلبت المستشفى موافقة أهلي لاستقبالي. لم يوافق أهلي خوفاً من "الفضيحة". حاولت اللجوء إلى مستشفىً خاص، طلبوا مبلغاً كبيراً لا أملكه. عدت إلى المنزل مرغمةً، ولم أعرف كيف زالت النوبة. اضطررت أن أعاود رحلة البحث عن طبيب نفسي يساعدني، وعن معالجة". على طريق محاولة الشفاء، التقت رشا بآخرين يعانون من المشكلة ذاتها. "الحكي عن المشكلة مهم، لذلك قررت ألا أخجل، وألا أخفي مرضي. قد تساعد قصتي آخرين على طلب المساعدة. بعد سنوات علاج، فهمت أنّي فعلياً لا أريد أن أموت، وإن فكرت يوماً بإنهاء حياتي، أريد أن يكون ذلك بوعيي، وبإرادتي، وليس بسبب خلل كيميائي ما في دماغي، يشدني لاتخاذ خطوة مماثلة".إستراتيجية وطنية
بجهد ذاتيّ بحت، وبعد دفع الكثير من الأموال، وجدت رشا المعادلة المناسبة لعلاجها، بين طبيب يصف لها حبوب دواء خاصة بحالتها، ومعالجة تساعدها على فهم جوانب حالتها أكثر، ومواجتهها. غالباً، يفشل من يعانون من اضطراب نفسي في لبنان بالحصول على مساعدة مناسبة، لأسباب مالية بالدرجة الأولى، وخوفاً من الوصمة الاجتماعية، إلى جانب الأسباب المباشرة المرتبطة بترهل قطاع الطب النفسي. تنفذ وزارة الصحة اللبنانية إستراتيجية لإعادة هيكلة نظام الصحة النفسية بدأت في العام 2015، وتستمر حتى العام 2020. تهدف الإستراتيجية إلى "تطوير نظام مستدام للصحة النفسية يضمن توفير وإمكانية الوصول الشامل إلى الخدمات العلاجية والوقائية العالية الجودة في مجال الصحة النفسية". يقول الطبيب ربيع الشمّاعي مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية، أن الاستراتيجية تضمّ عدّة محاور، يجري العمل على تنفيذها تباعاً. يشمل المحور الأول قيادة وإدارة ملف الصحة النفسية في لبنان، بدءاً من القوانين المرتبطة بالملف، وصولاً إلى وضع خطة لجعل العلاج النفسي مغطىً من شركات التأمين، وإطلاق استراتيجيات إعلامية لنقل المعلومات الكافية عن الأمراض النفسية في الإعلام. ويشمل المحور الثاني من الخطة، بحسب الشمّاعي، "إعادة هيكلة الخدمات، ففي لبنان، كما في معظم البلدان النامية، أغلبية الخدمات النفسية محصورة في مستشفيات نفسية محددة، محصورة في مناطق معينة، وبعيدة عن متناول معظم الناس. بعد دراسات كتيرة، قدمت "منظمة الصحة العالمية" حقائق علمية على وجوب دمج خدمات الصحة النفسية بالرعاية الأولية، مع تدريب طبيب العائلة على التدخل الأولي، في حالات الاضطرابات النفسية، وتحويل الأفراد على طبيب مختص". حالياً تغطي وزراة الصحة تكاليف الاستشفاء للاضطرابات النفسية في بعض المستشفيات النفسية، وقد بدأت التغطية أيضاً في بعض المستشفيات الجامعية حيث توجد أقسام نفسية. ذلك قد يسهّل جزئياً حصول المحتاجين على علاج نفسي مناسب. لكنّ استراتجية إعادة هيكلة نظام الصحة النفسية، لا تقتصر على الاستشفاء، وتوحيد لوائح الأدوية النفسية، بل تشمل أيضاً بحسب الشماعي "توحيد المناهج في الجامعات، لتحديد كفاءة العاملين في المجال المفتوح على التجاوزات. يضاف إلى ذلك الاهتمام بنشر التوعية حول الأمراض النفسية في المدارس، ودمج التوعية حولها في المنهج". جزء من الإستراتجية الوطنية مخصّص للوقاية من/ ورصد حالات الانتحار. ويهدف بحسب الشمّاعي إلى "رصد كشف وعلاج الاضطرابات النفسية، العمل على الحد من الوصول إلى وسائل انتحار مميتة (مثل المواد السامة والأسلحة)، التعاون مع الإعلام ليقدّم خطاباً مسؤولاً عن حالات الانتحار، بناء نظام رصد علمي يعطي فكرة دقيقة عن الاضطرابات النفسية ويستخدم في توجيه السياسات، إنشاء خط ساخن لمن يمرّون بأزمة نفسية ويحتاجون لمساعدة سريعة".مسيرة الفجر
يصادف اليوم 10 سبتمبر، اليوم العالمي للوقاية من الانتحار. لهذه المناسبة، نظّمت جمعية Embrace مسيرة الفجر بعنوان "أكيد رح فيق" من أمام أحد مطاعم منطقة الروشة، باتجاه الصخرة، ضمن حملة للتوعية من الانتحار. تنظم الجمعية اللبنانية هذه المسيرة للسنة الرابعة على التوالي، وتستند على رمزية الفجر، كإنتقال من الظلام إلى النور، في إشارة إلى أنّ الرغبة الملحّة بالموت، لحظة عابرة، وأنّ الأفكار السوداوية يمكن أن تزول. واختارت الجمعية الفجر موعداً، لأنّ معظم حالات الانتحار تحدث عند الفجر، واختارت صخرة الروشة لرمزيتها المرتبطة بقصص الانتحار الشائعة في بيروت.سيتمّ إطلاق الخط الساخن للوقاية من الانتحار في لبنان في مارس 2017 على أمل أن يساعد في خفض حالات الانتحار إلى حالة كل 5 أيام بدل كل 3 أيامبحسب المعالجة النفسية في الجمعية بيا زينون، لا يمكن القول إنّ "معدلات الانتحار في لبنان أعلى من بلدان أخرى، ولكن الكلام عنها زاد في الآونة الأخيرة، ما يوحي بأنّ الأزمة مستجدة أو أنّها أضخم من بلدان أخرى حول العالم". تلفت زينون إلى أنّ أبرز "مشاريع Embrace إطلاق الخط الساخن لتلبية حاجة الأفراد الذين يعانون من صعوبات توصلهم إلى أفكار انتحارية، ليكونوا قادرين على الاتصال برقم محدد وطلب المساعدة. سيتمّ إطلاق الخط الساخن في مارس 2017، ومن المتوقع أن يساعد في خفض حالات الانتحار إلى حالة كل 5 أيام". بجانب جمع التبرعات لإنشاء الخط الساخن، عملت الجمعية بحسب زينون، مع شركات التأمين الناشطة في لبنان، ونجحت بالتفاهم مع 33 شركة من أصل 45 لتغطية كلفة العلاج النفسي.
الفقر أم العيش الرغيد؟
إلى جانب سؤال الجبن والشجاعة، يطرح دوماً سؤال الظرف الاقتصادي والسياسي، كمسبب للانتحار. مثلاً، يقال إنّ ضيق العيش واليأس من المستقبل في لبنان يسببان الانتحار، ثمّ يقال إنّ فقدان الطموح والحياة الرغيدة كما في السويد، يسببان الانتحار أيضاً. توضح المعالجة النفسية رجاء مكي، أنّ هناك مصطلحات سائدة في المجتمع اللبناني، للإشارة إلى الحزن والكآبة الناتجة عن ظروف خارجية، مثل "مدبرس". لكنّ "الدبرسة" تختلف عن الاكتئاب المشخص إكلنيكياً، كاضطراب عقلي نفسي، يجب أن يشخصه الطب العقلي، ويتعامل معه المعالج النفسي. وتضيف مكي: "النفس البشرية كتلة مصاعب، والانتحار أسبابه نفسية، لها علاقة بالرابط الاجتماعي، أي علاقة الفرد بالآخر، وعلاقته بالمؤسسة، وعلاقته بالتنظيم الاجتماعي. الضغوط النفسية نابعة من الرابط الاجتماعي، أي أنّ للبعد الثقافي تأثيراً حاسماً. لكن الانتحار سلوك نفسي، وردة فعل نفسية". وتلفت مكي إلى ضرورة الابتعاد عن إطلاق أحكام عامّة وضبابية حول ارتباط الانتحار بالظرف الاجتماعي. "كمعالجين نفسيين، ننصح الفرد ألا ينظر إلى نفسه كموضوع وحيد للغبن الاجتماعي أو السياسي، أو كموضوع وحيد للاضطهاد، فالغبن حين يقع، يقع على المجموعة. وذلك لا يعني أنّه يقبل بكل ما يحصل حوله، بل أنه يختار التأقلم، والتأقلم مختلف كثيراً عن القبول بالوضع القائم، لكنه طريقة للنجاة".الثمن الباهظ للأحكام الخاطئة
تلعب مقاربة الإعلام لموضوع الانتحار، دوراً كبيراً في فهمه، والحدّ منه. تقول رجاء مكي أنّ بعض "الإعلام يلجأ إلى رمي أحكام ثمنها باهظ، عبر اختراق خصوصية الأفراد المنتحرين. في أحيان كثيرة يكون السكوت أفضل". تلفت مكي إلى أنّه يجب أن نميز بين من يهدّدون بالاقدام على الانتحار لنيل العطف وجذب الانتباه، وبين من تظهر عليهم علامات الرغبة الفعلية بالانتقال من التفكير بالانتحار، إلى الفعل. "في معظم الحالات، ينتج الانتحار عن حالة اكتئاب أو فصام، ولكن في حالة بعض الشخصيات النرجسية، يستخدم الشخص التهديد بالانتحار كوسيلة للتلاعب الآخرين. ولكن حفاظاً على الدقة، لا يمكن المسارعة إلى الاستنتاجات، والقول إنّ كل من يهدد بالانتحار نرجسي. قبل تحديد مكمن الخلل، يجب التأكد من بنية الشخص النفسية، لنعرف إن كانت أفكاره الانتحارية ناتجة عن اكتئاب، أم مجرد جذب انتباه، وفي الحالتين هناك علاج".أعترف بهشاشتي. أتعامل مع مرضي ككيان منفصل عنّي. كأنّي أمسكه من يده، وأقول له تعال، اجلس بجانبي، ولنحلّ هذه المسألة معاًبدوره، يرى الشمّاعي أنّ للإعلام مسؤولية كبيرة، بعدم تصوير الانتحار كفعل "بطولي ورومنسي، بل كخسارة كبيرة جداً، تترك جروحاً وآثاراً في العائلة على مدى أجيال. ومن مسؤولية الإعلام أيضاً المساهمة في رفع الوصمة عن المرضى النفسيين، من خلال إيضاح معلومات خاطئة وراسخة حولهم. من أبرز تلك الالتباسات، الإشارة إلى الاضطرابات النفسية كأنّها "ظاهرة"، علماً أنّها شائعة جداً، وآنية، يمكن الشفاء منها، وكلنا معرضون لها، وليس لها علاقة بأنّ شخصية المصاب ضعيفة، ولا علاقة لها بأسباب إيمانية، بل هي اضطراب صحي مثله مثل غيره".
حضن للمرض
تقول رشا: "الأمراض النفسية ثقيلة جداً، ولا أحد يحس بألم من يعيشها، إن لم يختبرها بنفسه. ويجب أن يفهم من لم يختبروا الموضوع، أن من يصل إلى مرحلة الانتحار، "بيكون محترق سلاف لي جابه" (عبارة لبنانية تعني يعاني من إنهاك شديد). ولا ينفع الكلام من نوع "ما الذي ينقصك؟ لديكِ كل ما تريدينه تخرجين وتقودين سيارة وتعيشين حياتك؟"، "تحلّي بالأمل"، "هل أنت حمقاء؟". من يقول هذا لا يفهم حقيقة الموضوع. في لحظات الضعف، لا يحتاج من يعاني مرضاً نفسياً للكلام. عبطة (حضن، غمرة) تكفي". تدفع رشا الكثير من المال لقاء علاج نفسي ودوائي تحصل عليه شهرياً، على طريق الشفاء من مرضها. تعرف أنّ ذلك ليس حلّاً نهائياً، لكنها تصر على المحاولة: "حين أكون في أيّام هبوط، أحاول أن أحتضن الحالة، وأعترف بهشاشتي. أبتعد عن أيّ كلمة قد تسبب بانهياري. أتعامل مع مرضي ككيان منفصل عنّي. كأنّي أمسكه من يده، وأقول له تعال، اجلس بجانبي، ولنحلّ هذه المسألة معاً".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...