"التشاوف": صناعة وطنية
منح اللبنانيون حبّ المظاهر تسمية "التشاوف". لا تحتوي المعاجم العربية على هذه الكلمة، ولكن ذلك لا يقلّل من مكانتها الأساسية في حياة اللبنانيين، كونها مستقاة من التعبير الإنجليزي Show off. فتحوير الكلمات الأجنبية عادةٌ درج عليها اللبنانيون (شأنهم شأن مجتمعات عربية أخرى). هكذا، يستولون على ما يحلو لهم من كلمات أجنبية، وينقحونها بلهجتهم لتخال أنّ مصدرها القاموس الوطني. فلا تفاجئك مثلاً مصطلحات كـ"شَوْفَرَ"، ومصدرها كلمة Chauffeur أي سائق بالفرنسية وقد صيغ منها الفعل المذكور والمقصود به القيادة ساعات طويلة. أضف إليها "مدبرس" Depressed أي مكتئب أو "منرفز" Nervous أي غاضب، المستقاة جميعها من الانجليزية.هذا إن لم يمتنع البعض تماماً عن استخدام اللغة العربية واستبدلها بلغة أخرى لا سيما الفرنسية. فلطالما شكلت "الفرنكوفونية" في ذهن عموم اللبنانيين علامة فارقة تضع مستخدمها، بشكل تلقائي، في مصاف المنتمين إلى "الطبقة المخملية" و"أعالي القوم".
السيارات لوحات إعلانية
من أبرز معالم "الوجاهة" التي يعتمدها اللبنانيون، من سياسيين إلى فنانين صاعدين، إحاطة أنفسهم بجمع من الحراس الشخصيين، وقوافل من السيارات الفخمة ذات الأرقام المميزة التي ما إن ترمقها العين حتى تدرك ماهية صاحب الموكب الجرّار، فتتحقق بذلك غاية الراكب: الشهرة والتباهي على الأخصام الذين يزاحمونه على المكانة والمقام. وإن قلّت سيارات "الفئات الشعبية" شأناً وفخامة، فلا تفقد دورها كأفضل معبّرٍ عن الهوية الشخصية، وكأنها لوحات إعلانية متجوّلة تخبرك، بالصوت والصورة، عن مزاج صاحب السيارة وآماله وأحلامه ورغباته وأهوائه و... هويته! "لا أعرف كيف يتمكّن السائقون اللبنانيون من القيادة وفي مرمى نظرهم تتدلّى سبحة للصلاة لا تتوقّف عن التمايل. أخشى أن يصابوا بالغيثان أو أن يتعرّضوا للتنويم المغناطيسيّ!" تتخوّف باتريسيا الآتية من فرنسا لإكمال بحث أكاديمي في بيروت من عواقب الإعلان الفاضح عن الانتماء للمسيحية أو للإسلام. فإبراز إشارة الصليب أو مجسّم القرآن وآيات مقدّسة قد يشكل نوعاً من التحدّي للمنتمين إلى مذاهب أخرى، ومدخلاً للنزاعات في بلد يعيش انقسامات دفينة حادّة. يبادر يوسف الذي يتولى مهمة إرشاد باتريسيا في بيروت بصفته "دليلها الشخصي" كما يعرّف عن نفسه، إلى التخفيف من روعها، ممازحاً: "إن مصدر الخطر الأكبر هو أبواق السيارات التي يصدح كلّ منها بإيقاع خاص بالحزب الذي يحظى بتأييد مالك السيارة". ويتابع: "حظك من السماء أن إقامتك في بيروت تتوافق وموسم الوئام بين أحزاب وتيارات ذاع صيت تنافسها لعقود طويلة، وإلا لكنت شهدت "مصارعة موسيقية" بين الإخوة الأعداء هي أشبه بقرع طبول الحرب أو على الأقل طبلات الآذان".الأوشام: بطاقة هوية من نوع آخر
لتثبيت الهوية والمفاخرة بها، لا يتوانى بعض اللبنانيين عن استخدام أجسادهم. لا يتردّد البعض، مثل حسن، في وشم عبارة "يا علي" على جباههم للدلالة على رفعة مقام الإمام علي بن أبي طالب بالنسبة إليهم وانتمائهم الراسخ للطائفة الشيعية وولائهم المطلق لحزب الله. كما ينال "ذو الفقار"، سيف الإمام علي، قسطه من التكريم بوشمه على الصدور وتعليقه في الأعناق. آخرون دقّوا على صدورهم - "على موقع القلب" كما يقولون - رسماً لأمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله "تأكيداً لحبّهم للرجل الذي يحمي لبنان". أما الوشم الأكثر رواجاً في أوساط الشباب الشيعي فهو الرقم 313 الذي يبرز أيضاً على ثيابهم ومختلف مقتنياتهم. يحمل هذا الرقم دلالة مباشرة إلى المهدي المنتظر إذ يعتبرون أن 313 هو عدد القادة العسكريين الذين سيتولون قيادة جيش المهدي في آخر الزمان. أما أكثر الرموز المسيحية انتشاراً، إضافة إلى الصليب، فهو السمكة. استخدمها المسيحيون الأوائل كشعار ليتعرفوا على بعضهم دون التعرض للمضايقات من الوثنيين. أحد المقاتلين القدماء الذي فضّل عدم ذكر إسمه أشار إلى أن المحاربين في صفوف الميليشيات المسيحية في زمن الحرب، عمدوا إلى وشم الصليب وصور القديسين ليس فقط طلباً لحمايتهم وشفاعتهم، ولكن أيضاً، في حال قتلوا خلال المعارك أو جرى التنكيل بهم إن قبض عليهم، ليتم التعرّف إليهم من خلال هذه العلامات الخاصة، إذ قد تتيح لهم فرصة العودة إلى أهلهم ولو بعد موتهم."أنت تراني إذاً أنا موجود"
يعتبر البعض أن إشهار الحلي والصور والأوشام ذات الطابع الديني و/ أو الحزبي قد يشكل استفزازاً للمنتمين إلى طوائف ومذاهب وأحزاب أخرى. لكن ماريان، وهي طالبة جامعية، ترى أن للرموز الظاهرة للعيان وظيفة إيجابية. "إنها تشير بوضوح إلى انتماء الشخص وبالتالي تمكّنك من التعامل معه بما لا يخدش اقتناعاته ولا يهين معتقداته عن غير قصد. هي إذاً تشكل مدخلاً لاحترام اختلافات الآخر وبالتالي للتواصل الإيجابي معه. عدا أنها تمنح حاملها نوعاً من الطمأنينة النفسية ما دام يشعر أنّها تؤمن له الحماية وتجلب الحظ". يختلف المحللون في تحديد أسباب وتداعيات حاجة قسم كبير من اللبنانيين إلى جذب الانتباه بل احتكاره. فمنهم من يعتبر ذلك دليلاً على عقد نفسية من نوع قلة الثقة بالنفس والغرور. فيما يشدد بعض آخر على إيجابيات هذه الظاهرة: لعلها أحد أهم محرّكات الروح التنافسية التي تحث اللبناني على الإقدام والجرأة والنجاح. وكأن اللبنانيين يقفون على طرفي نقيض مما وصفه الفيلسوف الألمانيّ كانط "بالجبن الفكريّ الذي يخشى الإباحة برأيه الحرّ بصدق وشجاعة، خوفاً من الانتقاد أو الاضطّهاد أو فقدان الحماية والعناية"، فيمارسون حرية التعبير والمعتقد إلى أقصى الحدود.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...