شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"المستعربون" جواسيس إسرائيليون في فراش العرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 31 يناير 201811:29 ص

باريس، 1964. جلست سيدة فلسطينية من عرب 48 خلف منضدة متواضعة في غرفة صغيرة في السفارة الإسرائيلية بعد أيام قليلة من وصولها فرنسا. وإلى الجانب الآخر من الطاولة جلس رئيس عمليات جهاز الموساد في فرنسا في تلك الفترة شموئيل (سامي) موريا الذي كان يجهّز السيدة العربيّة لصدمة كبيرة. "زوجك ليس من اعتقدتِ"، أخبر موريا السيدة. "هو ليس عربيًّا. زوجك يهودي كان في مهمة من قبل وزارة الدفاع داخل قريتكم. صحيح أنكما تزوجتما وأنجبتما أولادًا، لكنّه شخص آخر ليس الذي تعرفينه". لم تتمكن السيّدة من التفوه ببنت شفة. حاول المسؤول في الموساد تهدئتها، وتعهّد لها أن إسرائيل ستعمل على تهويدها (جعلها تعتنق اليهودية) وفقًا للشريعة اليهودية هي وأولادها. "سنرعاكم حتى بلوغكم سن 120 عامًا"، قال لها، قبل أن تسقط فاقدة الوعي. نُقلت المرأة لتلقّي العناية الطبيّة خارج الغرفة، لكنّ موريا العراقي الأصل أدرك أن مهمته لم تنته، إذ كان مضطرًّا لتكرار ما قاله أمام المزيد من النساء الفلسطينيات، اللواتي لم يعرفن أن أزواجهن، آباء أبنائهن، ليسوا عربًا بل ضباط اسرائيليون، وعملاء سريون لجهاز الشاباك، زُرعوا قبل 12 عامًا في قراهن.

قصّة حقيقيّة

المشهد السابق ليس جزءًا من الفيلم المصري "أولاد العم" الذي لعب فيه الفنان شريف منير دور ضابط مخابرات إسرائيلي خدع زوجته منى زكي لسنوات طويلة، اعتقدت خلالها أنه مصري مسلم، وأنجبت منه طفلين، لكنّه كان في مهمّة رسمية من قبل الموساد.

ما نرويه قصة حقيقية وقعت أحداثها في قرى وبلدات فلسطينية في الجليل والمثلث والنقب في خمسينيات القرن الماضي. بدأت القصّة باندساس وحدة تابعة لجهاز "الشاباك" الإسرائيلي تعرف بـ"المستعربين" داخل تلك القرى. وانتحل عناصرها صفة شباب عرب، واخترقوا النسيج الفلسطيني، وتزوجوا بنساء فلسطينيّات مسلمات، وأنجبوا منهن. كيف بدأت العمليّة ولماذا انتهت؟ وما هي قصة المستعربين الحقيقيّة، كما استعرضتها تقارير في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ومجلة "إسرائيل ديفينس" الإسرائيلية وتقرير ثالث في موقع "سيحا ميكوميت" العبري، نشر بتاريخ 31 يوليو 2016؟ تختلف وحدة المستعربين محور القصّة، عن وحدات المستعربين المستحدثة والتابعة لأجهزة الأمن الإسرائيلية، إذ تقتصر مهماتها الحاليّة على الاندساس بين المتظاهرين الفلسطينيين لساعات قليلة واعتقالهم، وأحيانًا تنفيذ عمليات اغتيال بحقّ ناشطين في المقاومة. يقول الصحافي والناشط الاجتماعي والسياسي نوعام روتم في تقريره المنشور على "سيحا ميكوميت": "هل سمعتم عن المستعربين؟ أتعلمون كيف بدأوا؟ ليسوا مثل بلطجية اليوم الذين ينتحلون صفة عرب لساعة أو ساعتين ويطلقون النار على الأطفال الذين يرمون الحجارة. ذات مرة وقبل أكثر من ستين عامًا، كانوا جواسيس حقيقيين. ليس لأنهم أفادوا في شيء ما، لكنهم لأكثر من 12 عامًا عاشوا كفلسطينيين في الجليل والمثلث وحتى بين البدو في النقب، تزوجوا بنساء فلسطينيات، وأنجبوا أطفالًا، وعملوا في المصانع الفلسطينية، وفعلوا كل شيء وكأنهم فلسطينيون. كل هذا كجزء من عملية اتضح بعد 12 عامًا، أنها عديمة الجدوى".

بدايات سامي موريا

لم تحظ قضية "المستعربين" على النحو الذي نرويه بتغطية موسعة في الإعلام الإسرائيلي، فيما عدا تقارير قليلة تحصى على أصابع اليد الواحدة. بدأت القصة العام 1952، بعد أربع سنوات فقط من إعلان قيام "دولة إسرائيل". كان الفلسطينيون الذين احتلّ الجيش الإسرائيلي قراهم خلال نكبة العام 1948، ونجوا من مقصلة التهجير، يعيشون تحت حكم عسكري، فلكلِّ قرية حاكم عسكري معيّن من جيش الاحتلال. كان الاعتقاد السائد لدى القادة في منظومة الأمن الإسرائيلية أن الجيوش العربية ستغزو إسرائيل عاجلًا أم آجلًا وتحرر الأراضي المحتلة، وأنّ الفلسطينيين (عرب 48) سوف يشكّلون "طابورًا خامسًا ينضمّ للعدو العربي في القتال". على هذه الخلفية جاء تشكيل وحدة المستعربين العام 1952، بمبادرة إيسار هرئيل، المسؤول في ذلك الحين عن جهازي الموساد و"الشين بيت" (الاسم القديم لـ"الشاباك"). مع الإشارة إلى أنّه في بداية الخمسينيات لم تكن هناك تفرقة تامة بين شعبة المخابرات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي التي تعمل على جمع المعلومات الاستخبارية العسكرية، وبين الشاباك الذي ينشط في مجال إحباط العمليات المعادية لإسرائيل داخل الحدود، والموساد الذي يعمل خارجها. ألقيت مهمة تشكيل وحدة المستعربين على عاتق شموئيل (سامي) موريا الذي خدم في القسم العربي في "الشاباك"، وكان دوره إحباط عمليات التجسس التي تقوم بها الدول العربية. اليوم، سامي موريا هو محام يواصل عمله من مكتبه في "رمات غان"، برغم أنّه في التسعين من العمر. تشير لهجته إلى أنه ولد في مدينة البصرة جنوب العراق. يمكن أن تملأ قصة حياة موريا كتبًا سميكة، فعندما كان شابًا، اعتبر أحد مؤسسي الحركة السرية الصهيونية في العراق. في العام 1947، انتقل إلى بغداد وبدأ في تنظيم عمليات "الموساد للهجرة الثانية"، وهو التنظيم الذي تشكل على يد "الهاغاناه" في إسرائيل لتنظيم هجرة غير شرعية، للالتفاف على قرارات حكم الانتداب البريطاني حينذاك، والتي حظرت ذلك.

قاد موريا عمليات تهريب جريئة عبر استخدام جوازات سفر مزورة أو دفع رشوة للموظفين الحكوميين في العراق لتهريب اليهود من هناك، عبر صحراء الأردن. في إحدى العمليات وصلت إلى إسرائيل مجموعة أطفال، بينهم الفتى مائير كوهين (اسم مستعار) وكان يبلغ 14 عامًا، وهو من مواليد بغداد. ووفقًا لتعليمات موريا، تظاهر الفتى بأنه أصم وأبكم، ورافق تاجرًا عربيًّا من العراق إلى الأردن، ومن هناك وتحت جنح الليل فر الفتى إلى مستوطنة "سيدوت يعقوف" في غور الأردن.

تدريبات مكثّفة

عندما أنهى موريا مهمته، وهاجر إلى إسرائيل، مطلع الخمسينيات، اقترحوا عليه الانضمام إلى القسم العربي في الشين بيت، فوافق على العرض. وبعد تلقيه دورة في المخابرات طلب منه إيسر هرئيل، تشكيل وحدة مستعربين. منذ البداية، لم يجر الحديث عن "مستعربين ينتحلون صفة عرب لساعات معدودة فقط، مثلما يحدث الآن في وحدات خاصة تابعة للجيش الإسرائيلي أو حرس الحدود، بل وحدة تعتمد على شباب يزرعون داخل المجتمع العربي، ويندمجون داخله لسنوات". لم تكن هناك حاجة استخبارية ملحة للمعلومات التي سينقلها المستعربون. بل كان الهدف استيقاظ تلك الخلايا النائمة في "ساعة الصفر"، عندما تندلع حرب شاملة جديدة بين إسرائيل والدول العربية. بدأ "موريا" بتجنيد عشرات الفتيان، معظمهم مهاجرون جدد من الدول العربية، وكان مائير كوهين واحدًا منهم، وكان وقتها في الثامنة عشرة من عمره. في قاعدة قريبة من مدينة الرملة، درب موريا الشبان الذين يتحدثون العربية بطلاقة، وتعلموا الحديث باللهجة الفلسطينية المحلية، ودرسوا القرآن والشريعة وتعلموا الصلاة، وحصل كل واحد منهم على قصة مفصلة محبوكة جيدًا لحياته المفترضة كان عليه حفظها جيدًا، كما تعلموا هناك استخدام الشيفرة واللاسلكي والسلاح. يقول "موريا" لمجلة "إسرائيل ديفينس": "الشرط الأول في اختيار المرشحين هو الإخلاص لدولة إسرائيل. كل المرشحين كانوا مهاجرين جدداً، خريجي حركات الطلائع الشبابية السرية. كان يجب أن تكون هيئتهم مقنعة، لزرعهم في المجتمع العربي من دون إثارة الريبة. بعض المرشحين اخترتهم بنفسي، وهم شباب كانوا مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل إسرائيل، وحتى الانفصال عن أسرهم لفترة طويلة". ترك الوحدة عدد من المجندين وبمرور الوقت بقي فيها نحو 10 من اليهود العراقيين. ظلَّ الرقم الحقيقي للمستعربين سرًّا حتى اليوم.

"خبرة" جديدة

كانت ظاهرة العرب المتسللين في تلك الفترة في أشدها. بعض اللاجئين الذين فروا من فلسطين بعد احتلالها إلى دول عربية، حاولوا تجاوز الحدود والعودة لأبناء عائلاتهم الذين لم يتركوا بلدهم، وظلّوا تحت الحكم العسكري. اعتقلت قوات الأمن الإسرائيلية معظم هؤلاء المتسللين وزجت بهم في السجن. في وحدة المستعربين قرروا استغلال القبضة الحديدية لقوات الأمن لمنح المستعربين "خبرة" جديدة، ولإضفاء صدقية على القصة المتفق عليها. أرسل الشبان اليهود الذين باتوا يجيدون اللهجة الفلسطينية بملابس رثة ممزقة للتجول في المدن اليهودية، بهدف إثارة الانتباه. لم تكن الشرطة الإسرائيلية على علم بما يحدث، بل حتى كان عدد من يعرفون بأمر المستعربين في "الشاباك" محدودًا جداً. يقول موريا: "كان الشبان قذرين بشكل مثير للريبة، بهدف دفع الناس للاتصال بالشرطة للاشتباه. وصلت الدورية على الفور وكنا نشاهد ما يجري من بعيد بارتياح. ركض عناصر الشرطة باتجاههم وهم يستلون مسدساتهم. كالوا الضربات لشبابنا، وبعدها زجوا بهم كأكياس من البطاطا داخل سيارة الجيب. ثم وضعوهم في السجن". في واقعة أخرى، نفذت الشرطة عملية اعتقال عنيفة لـ"المستعربين" الذين عملوا بشكل غير قانوني بأحد المطاعم في تل أبيب

. عندما كان الشبان في السجن، وقعت حادثة أخرى غير متوقعة. يتذكر موريا: "طوال الوقت كنا نراقب الشباب ونرى أنهم يندمجون جيّدًا. زرتهم على فترات، وكأنني محقق الشاباك الذي جاء للتحقيق معهم. كان ذلك إجراءً مقبولًا ولم يشك أحد في الأمر. في إحدى الزيارات أخبرني المستعربون أن المسجونين الآخرين يبتعدون عنهم بعدما شكوا أن شيئا ما ليس على ما يرام". كشف الفحص أن أحد حراس السجن الذي هاجر هو الآخر من العراق، شك في أن أحد المسجونين يهودي، وكشف ذلك للمساجين الآخرين، ما أثار مخاوف هائلة من أن تنكشف القصة برمتها، وأن يعتدي المساجين العرب على عناصر الشاباك إذا ما كشفوا هوياتهم الحقيقية. يقول موريا: "أمرت شبابنا بالاستمرار في التصرف بشكل عادي. قلت لهم لدى كل واحد منكم مصحف في جيبه، اجلسوا في الزاوية واقرأوا فيه، ولا تنظروا إليهم حتى، اجلسوا في زاويتهم وواصلوا التلاوة، ولنرٓ من سينكسر أولًا". لكن هذه الخطوة لم تزد المساجين "الحقيقيين" إلا شكاً، فقرروا وضع المستعربين في اختبار... انتظروا يوم الجمعة، يوم صلاة المسلمين، وطلبوا منهم أن يؤم أحدهم المصلين ويلقي خطبة كالتي يلقيها الإمام في المسجد. قالوا لهم "إذا نجحتم في إلقاء خطبة - فسوف نتأكد أنكم مسلمون، وإذا لم تفعلوا فستكون نهايتكم سوداء". سادت أجواء من التوتر خلال خطبة الجمعة. لكن أظهر المستعربون خبرة كبيرة في الدين الإسلامي وتجاوزوا الاختبار. دراسة الدين التي تلقوها في دورات الشاباك آتت أكلها. وعندما انتهت الخطبة استقُبل المستعربون بالأحضان من قبل باقي السجناء، وعندما أطلق سراحهم، حافظوا على علاقات صداقة مع بعضهم.

في العمق

مرّ عام على التدريب القاسي، في هذه المرحلة كان كلّ مستعرب قد حصل على هوية جديدة، وقصة مفصّلة عن حياته المفترضة، وعادةً ما كانت هوية فلسطيني من لاجئي 1948. حانت ساعة الصفر، أيّ مرحلة الاندساس في القرى والمدن والتجمعات البدوية في النقب. سرعان ما وجد المستعربون أنفسهم في بيئة غريبة. مائير مثلًا زُرع بين الفلسطينيين في يافا التي كانت تضم بضعة آلاف فقط ممّن لم يغادروا المدينة عقب النكبة. جاءت الخطوات الأولى متردِّدة، قدّم عدد من المستعربين أنفسهم على أنَّهم متسلِّلون عبروا الحدود وعادوا للوطن. آخرون وصلوا إلى وجهتهم الجديدة مدرّسين في منظومة التعليم العربية. حرص الشاباك على توفير عمل لهم كمدرسي قرآن، ما منحهم مكانة مرموقة في البيئة الجديدة.

اختبار يافا

لم تستقم الأمور للمستعربين بهذه السهولة، إذ كان في انتظارهم الكثير من المواقف الحرجة والاختبارات. يروي موريا أحدها قائلًا: "ذات يوم، في إحدى القرى، توفى قريب لرئيس القرية، وجلست قبيلته في سرادق العزاء. ذهب فتانا إلى هناك، ودخل السرادق شيخ عجوز من يافا. رأى الشاب وسأل رئيس القرية "من ضيفك؟" أجابه الرجل "إنه شاب من يافا". شك العجوز وبدأ التحقيق مع الشاب "أين تسكن عائلتك؟ في أي شارع؟ في أي بيت؟ جاوب الشاب عن كل الأسئلة وفقاً لقصته المفترضة. فجأة قال له العجوز "ما تقوله صحيح، في ذلك الشارع كانت تسكن هذه العائلة لكنها فرّت إلى غزة. وعلى نحو مباغت نظر العجوز للشاب وقال أمام الجميع. "حمدًا لله، أتذكر هذا الولد، وكذلك والده، كان يأتي به للمقهى وكنت أجلسه على ركبتي". يقول موريا: "هذه المرة لعب الحظ لمصلحتنا، لكن كان بالإمكان دائمًا حدوث سقطات. لا يمكن توقع كل شيء من البداية. يكفي خطأ واحد، كلمة واحدة ليست بمحلها، كي يتفجر كل شيء". ويضيف: "أحد شبابنا كاد يكشف على يد شرطي إسرائيلي. حدث ذلك خلال زيارة لقائد الشرطة في إحدى القرى. وقف سكان القرية وبينهم المستعرب في طابور لتقديم التحية لقائد الشرطة، وفجأة تعرف سائق القائد على رجلنا، كشخص كان يعرفه جيدًا منذ الطفولة في العراق". اقترب السائق من المستعرب الذي أدرك خطورة الموقف وحافظ على ملامح جامدة، وسال الشرطي "أهناك شيء؟". يواصل موريا روايته للواقعة: "قال السائق لقائده في انفعال "اسمع هذا الفتى يهودي، أنا أعرفه من العراق". لم يصدقه قائد الشرطة وقال له: "مجنون. صحيح أن العربي يسعى للتظاهر بأنه يهودي، لكن لماذا يريد اليهودي أن يصبح مسلمًا، وأن يعيش في هذه القذارة والزبالة، لا، هذا مستحيل". لحسن حظنا انتهى الأمر عند ذلك الحدّ. انهار السائق تقريبًا، لأنّ الجميع اعتقد أنه يهذي". وجد المستعربون أنفسهم في بيئتهم الجديدة بسرعة. لم تعرف أسرهم في إسرائيل ماذا يفعلون أو أين هم. ومُنعوا من محاولة معرفة التفاصيل حول ذلك.

زوجات فلسطينيات

قال بعض المستعربين لموريا إن "بنات القرية يطاردنهم". قال أحدهم وكان يستأجر غرفة في بيت رئيس القرية إنّه في إحدى الليالي استيقظ على طرقات ضعيفة لكنّها مصرة على باب الغرفة. همست له إحدى بنات الرئيس أن يفتح، وأن يسمح لها بالدخول. أجابها المستعرب المذهول: "أجننتِ؟ يحظر علينا أن نكون سويّا!". ورفض أن يفتح لها الباب. وبشكل مواز لأحداث مماثلة ضغط وجهاء القرية على الشباب كي يتزوجوا مثلما جرت العادة. في محاولة لتقليل الضغط، قال أحد المستعربين لجيرانه في قرية بالجليل، إنه خطب قبل الحرب ابنة عمه، لكنها فرّت مع أسرتها إلى غزة. صدق وجهاء القرية قصته، وعندما احتلت إسرائيل قطاع غزة لعدة شهور، بعد العدوان الثلاثي على مصر (أكتوبر- نوفمبر 1956)، طالب الوجهاء من منسق الشاباك وكان معروفًا لهم، منح الشاب تصريحاً خاصاً لزيارة غزة والبحث عن خطيبته هناك. وبالفعل خرج المستعرب، وتجول عدة أيام بشوارع غزة، اشترى عددًا من الكتب، التي تثبت أنه كان فعلًا هناك، لكنه عاد بقصة أنه لم يعثر عليها رغم جهوده المضنية في البحث، لأنّه اتضح له في النهاية أن خطيبته وأهلها سافروا للأردن.

تزايدت الضغوط على المستعربين للزواج. ونصحهم رؤساؤهم بالإقدام على هذه الخطوة لضمان نجاح المهمة، وحتى لا ينظر إليهم بتشكّك. وبالفعل تزوج معظمهم فتيات عربيات من دون أن يعرفن الهوية الحقيقة لأزواجهن. عُقد القران بحسب الشريعة الإسلامية، وأجريت حفلات الزفاف وفقًا للتقاليد الفلسطينية. كان مائير في عداد الذين تزوجوا بعربيات. وهي القصة التي يكشفها شقيقه شمعون (اسم مستعار هو الآخر) الذي يسكن في إحدى المستوطنات الشماليّة، على مقربة من الحدود اللبنانية. يقول شمعون إن شقيقه مائير الذي توفي منذ سنوات أخبره في النهاية بعد انتهاء مهمته، بكل شيء. ويضيف: "في وقت لاحق عرفنا أن مائير وصل إلى مدينة يافا، واستأجر هناك غرفة صغيرة، وعمل معلّمًا في مدرسة قريبة. وتعرف على رانيا، وهي عربية مسيحية درست في مدرسة الراهبات في يافا. قدم مائير نفسه أمامها كعربيّ مسلم. تعارفا ووقعا في الحب، كانت قصة حب عظيمة. كانت رانيا امرأة فاتنة الجمال، بشعرها الأسود، وعينيها السوداوين المذهلتين. تعرفنا عليها بعدما تكشفت العملية كلها. تطورت القصة بسرعة، وانتقل مائير"ورانيا للسكن في شقته بيافا.

كذلك كثيراً ما سافرا للخارج، لا سيما للدول العربية المجاورة وكذلك لدول أوروبية". وتابع: "أخبر مائير رانيا أن لديه تجارة وأوضح بذلك سبب أسفاره المتلاحقة. رافقته رانيا إلى كل مكان ذهب إليه وتزوجا في كنيسة بالأرجنتين. قضيا معظم الوقت في سوريا والأردن. لا أعرف تحديدًا ماذا كان يفعل. كان على ما يبدو على علاقة جيدة بأشخاص هناك، وكان يحصل منهم على معلومات. كان مقرّبًا من شخصيات قياديّة في لبنان وسوريا. بعد وقت قصير من زواجهما أنجب مائير ورانيا ابنهما بيني (اسم مستعار) في بيروت. أعرف أنهما عاشا في سعادة إلى أقصى درجة أمكنهما أن يكونا سعيدين في هذا الموقف. أحب مائير أسرته جداً".

بداية النهاية

في بداية الستينيات، دارت نقاشات حادة في قيادة الشاباك ونشبت خلافات كبيرة حول مسألة استمرار نشاط الوحدة، أو بشكل أدقّ حول طريقة إنهاء المهمة. كان واضحًا للجميع أن الفائدة الاستخبارية للمستعربين صفراً مقارنة بالثمن الشخصي الذين دفعوه. كان واضحًا أن كل يوم يمر يفاقم المأساة التي تنتظر العملاء وأسرهم، عندما يضطرون للكشف عن سرهم العظيم. جاء القرار بتفكيك الوحدة، لكن موريا وجد نفسه في أزمة كبيرة: هل يبقي على النساء والأطفال في القرى العربية، ويعيد المستعربين فقط إلى أحضان عائلاتهم الأصلية، أم يطلب من النساء اعتناق اليهودية، والاستمرار في تربية أولادهم كيهود.عارض المستعربون أنفسهم التخلي عن أسرهم، لذلك جاء القرار بكشف السر وإعادة توطين الأسر في بيئة إسرائيليّة. يقول شمعون: "اضطر أخي أن يخبر زوجته الحقيقة بنفسه، لأنهما كانا في إحدى العواصم العربية آنذاك. أدركت رانيا أنها كانت ضحية، وتلقت علاجًا نفسيًّا لعدة شهور. بعدما تعافت وضعها "مائير" أمام أزمة أصعب. قال لها إن عليها الاختيار، أن تقبله كما هو، يهودياً، عميلاً للشاباك، وأن تربي ابنهما كيهودي، أو أن يغادرا إلى أيّ دولة عربية تختارها والاندماج هناك، بينما يغطي الشاباك النفقات المطلوبة".

تهويد الأسرة

بعد فترة التعافي، سافر مائير ورانيا وابنهما بيني إلى فرنسا، وانضموا لباقي أسر المستعربين الذين سافروا مباشرة من إسرائيل. حدث ذلك العام 1964، لأن الجدل في الشاباك حول كيفية إنهاء تلك "المأساة الإنسانية" استغرق وقتًا طويلًا. وقتذاك لم تكن غالبية زوجات المستعربين يعرفن شيئًا، عن سر الرحلة العاجلة لباريس. وكان على قيادة الشاباك كشف الهويات الحقيقية للعملاء الإسرائيليين أمام زوجاتهم الفلسطينيات. كان موريا في تلك الفترة مبعوث الموساد إلى فرنسا، ويعود بالذاكرة ويقول: "أذكر أنني قلت لإحدى النساء "سيدتي، زوجك ليس مسلماً، بل يهودي. هو يحبك، لكنه لن يتخلى عن أسرته. تعالي إلى إسرائيل، لتعيشي كيهودية، وتربي أبناءك كيهود، وسوف نهتم بك حتى تصبحي في سن الـ 120". لم تجب السيدة، لأنها ببساطة فقدت الوعي. استدعي ثلاثة حاخامات إلى سفارة إسرائيل في باريس، بينهم شلومو جورن، الحاخام الرئيسي للجيش الإسرائيلي، لتهويد النساء وفقًا للشريعة اليهودية. حار الحاخامات بشأن الأطفال، هل يمكن اعتبارهم يهوداً أم مسلمين. في نهاية الأمر أفتوا أنّه، بالرغم ممّا جاء في الشريعة اليهودية حول أنّ الابن على دين أمه، لكن على ضوء الظروف الخاصة لتلك الحالة والتي ولد فيها الأطفال نتيجة لمهمة آبائهم، يمكن اعتبارهم يهودًا، من دون الحاجة لإجراءات التهويد الرسمية. بعد تهويد الزوجات المسلمات، أجريت طقوس الزواج اليهودية وسط إجراءات مشددة. ولإنقاذ المتهودات من القتل على خلفية شرف العائلة تقرر إبقاؤهنّ لفترة في باريس، وهناك جرى دمجهم في عائلات يهودية، وارتاد الأطفال مدارس يهودية. لم تكن رانيا بين النساء اللواتي وافقن على التهود، بعدما عرفت سر الزوج.

الخيار الصعب

عادت معظم أسر المستعربين إلى إسرائيل خلال عام 1967. وكذلك فعلت رانيا ومائير، إذ عاشا فترة في مدينة "بت يام" واستقبلتها عائلة زوجها بترحاب. لكن بعد هزيمة حزيران 1967 ضاقت رانيا ذرعًا بالحياة في إسرائيل، ولم تعد قادرة على الحياة مع عميل للشاباك تحت سقف واحد، أو تربية طفلها هناك. تروي غبريالا (اسم مستعار) شقيقة مائير أن "رانيا كانت تفكر خلال إقامتها في إسرائيل بالتهود، لكنّ الأمر لم يتعدَّ مرحلة التفكير. عشنا معاً كأسرة كبيرة بكل معاني الكلمة، بما في ذلك الزيارات المتلاحقة، ووجبات السبت المشتركة، واللقاءات في الأعياد اليهودية. كنا نزورهم في "بت يام"، وكانوا يزوروننا في شقتنا بالشمال. كان أطفالي على علاقة جيدة مع بيني وهم في العمر نفسه، وكانت تجمعهم الكثير من الأشياء".

"زوجك ليس من اعتقدتِ. هو ليس عربياً. زوجك يهودي كان في مهمة من قبل وزارة الدفاع داخل قريتكم"

ويقول شمعون: "أعتقد أن مشاعر رانيا القومية غمرتها بعد حرب الأيام الستة. رغم كل شيء هي عربية وطنية وقد شعرت ببساطة أن الكيل قد طفح. قالت لمائير إنها ليست قادرة على البقاء فترة أطول في إسرائيل، وأنها تريد أن تأخذ الطفل وتسافر إلى فرنسا حيث تنوي العيش. لم يكن مائير مستعدًا للتخلي عن بيني وكذلك لم يرغب الطفل في الرحيل. لكن "مائير" حاول تهدئته وقال له إنّ ذلك سيكون مؤقتًا، لكن الطفل لم يصدق وشعر أن ذلك نهائي وأنه لن يعود إلى إسرائيل. كان في تلك الفترة طفلاً يهوديًا خالصًا". "في البداية كان مائير يسافر كثيرًا إلى فرنسا"، يتذكّر شمعون، ويضيف: "كان يقضي الأسابيع هناك ثم يعود إلى إسرائيل. وبعد عام تقريباً تعرف على أرملة قتل زوجها في حرب الأيام الستة وتزوجها. بعد مرور عام على ذلك أنجبت زوجته الجديدة ولدًا. وعندما بلغ الطفل عامًا، توفي مائير بمرض السرطان. أعرف أن وزارة الدفاع حرصت على إعادة تأهيل رانيا شريطة ألا تكشف أمورًا معينة. كان يصل كل شهر إلى منزلها بفرنسا مندوب عن الشاباك ويترك في يدها النقود. في وقت لاحق، عرفنا أن المرأة التي كانت تحظى بإعانة دائمة من الشاباك، تزوجت في باريس من مسؤول كبير في منظمة التحرير الفلسطينية".

أطفال في الضياع

برغم تفكك أسرة مائير بدأت معظم أسر المستعربين التي عادت إلى إسرائيل في عملية إعادة تأهيل بطيئة لحياتهم بعد هزيمة يونيو 67، وذلك ما يوضحه موريا بالقول: "حاولنا حلّ المشاكل الماليّة للأسر، لكن كان من الصعب تجاوز عملية إعادة التأهيل الشخصي. الثمن الشخصي، والتضحية الشخصية التي اضطر المستعربون إلى دفعهما، كانا قاسيين. بعدما عادوا لإسرائيل، بدأت المشاكل بالظهور. حاولنا إعادة تأهيل الأشخاص لكننا لم ننجح.  لقد عاشوا وهم شاعرون أن الدولة تخلت عنهم". وتابع: "أصيب أطفال المستعربين بصدمات نفسية حادة في طفولتهم. كانت أعمارهم تقريبًا بين خمس وستّ سنوات عندما انكشفت الحقيقة، واضطروا للتنازل عن هويتهم العربية. كانوا مضطرين أيضًا لقطع العلاقة بعائلات أمهاتهم الفلسطينيّات. تخيل أن اسمك اليوم أحمد وصار روني، كانت هذه مأساة الأسر. حاول هؤلاء الأطفال إعادة الاندماج، ونسيان الماضي، ومن أين جاءوا، لكنهم لم يكونوا قادرين. عدد يسير منهم نجح في الحياة، لكن غالبيتهم بقيت في الخلف. وهم يعانون مشاكل حتّى اليوم". معظم أبناء المستعربين لم يلتحقوا بالجيش الإسرائيلي. سأل أحدهم أسرته قبل التجنيد "أسأوجّه بندقيتي نحو الأسرة العربية أم نحو الأسرة اليهودية؟"، ولم يزل سؤاله بلا إجابة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image