بدايةً بصوت محمد عبدالمطلب وهو يصدح بـ"رمضان جانا وفرحنا به" في الشوارع، مروراً بإعلانات المنتجات والمأكولات الرمضانية على شاشات التلفاز، وتزاحم الناس في البقالات ومحالّ السوبرماركت، وروائح البخور والمستكة في أكواب الماء، وأصوات فناجين القهوة وكؤوس العصير، وانتهاءً بأشكال أطباق التمر والمعجنات وصينيات الحلويات التقليدية المختلفة. هكذا تبرق الصور الرمضانية في أذهان المغتربين. فبالرغم من إقامتهم في بلدان تغيب عنها الأجواء والطقوس الرمضانية، فهم يحتفظون بذكرياتهم عنها بالحيوية نفسها. وإذا بهم يستحضرون تلك الذكريات التي تسكنهم، بل يحاولون أحياناً اجترارها واستيلادها في مكان إقامتهم الجديد.
يعوضون فقدانهم للحميمية بالتوافد إلى التجمعات العربية
في محاولات المغتربين للتحايل على الحنين، يجدون أنفسهم في حالة خلق لذاكرة جديدة من أجل مُعايشة الطقوس التي اعتادوا ممارستها منذ طفولتهم في بلدانهم، ولكن في مكان مختلف، وظروف مختلفة. لهذا تجد المسلمين العرب في العاصمة البريطانية لندن يتوافدون إلى التجمعات العربية ليعوضوا فقدانهم لحميمية التجمعات العائلية الكبيرة في شهر رمضان. فبعضهم يذهب للإفطار في المطاعم العربية، ليشعر بالمشاركة الوجدانية، والتآلف الاجتماعي، والبعض الآخر يُفضل الذهاب إلى المساجد للإفطار مع غيره من الصائمين هناك. كما يزداد حس المسؤولية المجتمعية لدى البعض، فيشاركون في بعض المبادرات الخيرية كـمشروع خيمة رمضان (Ramadan Tent). وقد بدأ المشروع بمبادرة من طلبة كلية الدراسات الشرقية والإفريقية (SOAS) في جامعة لندن عام 2013، لتعزيز التكافل الاجتماعي، من خلال تقديم الوجبات المجانية للفقراء والمشردين من غير الصائمين، والطلبة وسواهم من الصائمين. لكن طبيعة الحياة الرأسمالية بإيقاعها السريع، تحدّ من قدرة المسلمين، خصوصاً الطلبة والعاملين، على المشاركة في مثل هذه الفعاليات الرمضانية في لندن. وفي حديث مع بعض المسلمين المُقيمين في بريطانيا، تبين أن جميعهم يتفقون على أن رمضان هنا، يختلف تماماً عن رمضان في البلدان العربية، حيث تأخذ الطقوس الرمضانية الصبغة الاحتفالية. وتُشكل المشاركة الجماعية مع الأهل والجيران والأصدقاء المَعلَم الأهم لها. مع سهولة الحصول على المأكولات الرمضانية التقليدية، يبقى واضحاً افتقاد الأجواء الكرنفالية في الشوارع، ودفء العائلة الكبيرة، وحميمية الأصدقاء. ناهيك عن بعض الطقوس القديمة كالمسحراتي، والفوانيس، ومدفع الإفطار، والخيم والموائد الرمضانية التي تقام في الشوارع والحارات القديمة، والحلويات الرمضانية التي تباع على الأرصفة، والبرامج والفوازير والمسابقات الرمضانية على الشاشات العامة. كل ذلك يجعل التجربة الرمضانية بالنسبة إلى المغتربين تجربة منقوصة.فردانية المجتمعات الغربية تقابلها الروح الجماعية الشرقية
وإذا كانت الثقافة الفردانية تُسيطر على جميع مناحي الحياة في المجتمعات الغربية، فإن التجربة الرمضانية في بريطانيا تبدو مصبوغة بها أيضاً. تقول علياء باكير، وهي طالبة دكتوراه سعودية في جامعة لندن: "رمضان في بريطانيا تجربة روحية، يغلب عليها الطابع الفردي. على عكس ما هي عليه في السعودية". وعن التحديات التي يواجهها الصائمون، تشير علياء، وهي أم لثلاثة أطفال، إلى أن الصعوبة هي في جعل رمضان تجربة جماعية، بسبب تعارض وقت الإفطار مع موعد نوم أطفالها، الذين يذهبون إلى مدارسهم باكراً كل صباح. فالمغترب الذي يصوم في بلد غالبية سكانه غير مسلمين، يضطر إلى ممارسة حياته بشكل طبيعي فيداوم طوال ساعات العمل، على عكس المجتمعات العربية، التي تبدأ فيها ساعات العمل متأخرة وتكون أقصر نسبياً في رمضان. هذا عدا طول ساعات النهار، وقصر المدة بين الإفطار ووقت الإمساك، ما يضعِف احتمالية تناول وجبة السحور، ويجعل الصوم مرهقاً جداً. يقول أحد أئمة المركز الثقافي الإسلامي ومسجد لندن المركزي، الذي فضّل عدم الإفصاح عن اسمه، إن هذه الإشكالية جعلت الكثير من المسلمين يلجأون إلى المركز للسؤال عن حُكم الإفطار بالنسبة لطلبة العلم. وبالرغم من إصدار فتوى تُجيز الإفطار، مع لزوم القضاء، لطلبة العلم، فإنه يشجع المسلمين على الصيام، خصوصاً أن الجو البارد يساعد الصائم على تحمل العطش، عكس الجو في البلدان العربية. شهر رمضان مرتبط في الذاكرة الوجدانية العربية بالكثير من الطقوس والأجواء والتفاصيل الصغيرة، التي يتعذر توفرها خارج نطاق العالم العربي. وهي ليست بالضرورة مرتبطة بالدين، كما أنها ليست حِكراً على المسلمين من العرب. فالكثير من المسيحيين العرب معتادون تعليق فوانيس رمضان، كما يعلقون زينة شجرة الميلاد في عيد الميلاد في بيوتهم. تسمع الكثير من المغتربين يقولون إن رمضان من دون مأكولات أو مشروبات رمضان ليس رمضاناً. في حين أنهم في الحقيقة يحنّون إلى ما تمثله تلك المأكولات والمشروبات، وما ترتبط به في ذاكرتهم العاطفية. لا يمكنك أن تأكل قطعة كنافة في لندن في رمضان من دون أن تستطيع استرداد ذاكرة الكنافة الرمضانية في مخيلتك. شهر رمضان تذكير للمغتربين بأنهم ما غادروا بلدانهم يوماً، وأنهم سيبقون محبوسين في ذاكرتهم مهما حاولوا التملص منها، أو التحايل عليها. إنه تجديد لخيبتهم في إمكانية التحرر من الذاكرة العاطفية التي تسكنهم بمجرد تجاوز الحدود الجغرافية للوطن.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين