تشهد الساحة اللبنانية اليوم حراكاً بلدياً، يخرجها قليلاً من وطأة الشلل الذي فرضه ويفرضه غياب الانتخابات النيابية بعد تمديد المجلس النيابي لنفسه مرتين على التوالي، وفي ظلّ الشغور الرئاسي المستمر منذ نحو عامين، والقصور الحكومي عن التشريع. الانتخابات البلدية، في الثامن من الشهر الجاري، هي الرابعة منذ وقف الحرب الأهلية مطلع التسعينات، والمجالس البلدية هي آخر الهيئات المنتخبة في لبنان. لكن ليس ذلك ما يعطي الحراك الانتخابي نكهة مختلفة هذا العام، بل مجموعة من المبادرات المدنية والفردية التي تحركت، فأعطت انطباعاً بتحرك ماء الأحزاب والطوائف الراكد بلدياً منذ أعوام طويلة.
"بيروت مدينتي"
رمت هذه "المبادرة" حجراً كبيراً في مياه العاصمة بيروت، المعروف انتماء مجلسها البلدي لـ"تيار المستقبل"، إذ يشكو الكثير من أهالي بيروت من تقصيره. لكن البلديات كانت على جري عادتها تُدار سياسياً، وعند كل استحقاق يشد الحزب السني العصب الطائفي والمناطقي. وهكذا خرج "المستقبل" بلائحة "بيروت للبيارتة" في وجه "بيروت مدينتي" التي أتت بوجوه جديدة من الاختصاصيين وذوي الخبرات."بيروت مدينتي" أو "للبيارتة"؟
منذ العام 1998، كان "المستقبل" يحسم المعركة لمصلحته في غياب منافسين جديين، لكن الانتقادات تطاله من حيث نسبة المشاركة. فعام 2010 بلغت النسبة أدنى مستوياتها بنحو 18%. واليوم في ظل وجود منافس حقيقي كـ"بيروت مدينتي"، يصب التيار طاقته حول كيفية رفع نسب المشاركة، لا سيما أن أسباب الاستياء من أداء التيار لا تزال موجودة، والبلدية الحالية تتهم بالفشل. أما مظاهر الفشل فكثيرة، وقد اعتمدت "بيروت مدينتي" على الأرقام لتبيانها. مثلاً، أكثر من نصف مليون سيارة تدخل وتخرج من بيروت يومياً. 93% من سكان بيروت معرّضون لمستويات عالية من التلوث الجوّي. تقدم بيروت أدنى الحصص في العالم للمواطن من المساحات الخضراء (أقلّ من متر مربّع للفرد الواحد)، وهي ثالث أغلى مدينة في الشرق الأوسط، وتحتلّ المرتبة 44 من أصل 211 عالمياً، وسعر المتر المربع الواحد فيها يساوي عشرة أضعاف الحدّ الأدنى للأجور. كانت هذه المقدمة ضرورية للإضاءة على حجم الخرق الذي أحدثته لائحة "بيروت مدينتي". فهي انطلقت من عدم قدرة الشارع على ابتلاع حجم تقصير البلدية والتيار وراءها، ومن اختناق أهل العاصمة من الأداء المتردي في حل أزمة النفايات المستمرة منذ الصيف الماضي. أما الأهم فقد اعتبر دخول هذه اللائحة بأعضائها الـ24 من اختصاصات متنوعة، امتداداً للحراك المدني الذي بدأ في لبنان الصيف الماضي، في وجه السياسيين الذين أوصلوا البلاد إلى حافة الهاوية خدماتياً وصحياً واجتماعياً واقتصادياً… وتلخص "بيروت مدينتي" برنامجها بعشر نقاط أساسية توزعت بين وضع خطة للسكن تسعى لملاءمة كلفته مع قدرات أهل المدينة، والحفاظ على الصحة العامة بتوفير مياه نظيفة، وتقديم نظام إضاءة متكامل، والمحافظة على الحيز العام والمساحات الخضراء. وتأمين خدمات ومرافق اجتماعية مشتركة، وتكريس مبادئ التنمية المستدامة. بينما يبقى الأبرز في البرنامج هو إدارة النفايات الصلبة وتطوير النقل المشترك، فضلاً عن الحوكمة الصالحة. يبدو البرنامج أقرب إلى الحلم لدى أهالي بيروت، بيد أن الحملة تؤكد أن تحقيقه ممكن، فالبلدية التي تصل موازنتها إلى مليار دولار لا يعوزها المال (كما كانت توحي البلدية السابقة)، بل خطة العمل الجيدة والنزاهة. ركزت الحملة على شعار "من الناس للناس"، فكونت مجموعة نموذجية لجهة تمثيل المرأة (مناصفة بـ12 مرشحة) وذوي الحاجات الخاصة (المرشحة آمال الشريف)، والفئات الكادحة (نقيب صيادي السمك نجيب الديك)، والاختصاصيين غير الحزبيين، من خبير بيئي إلى ناشطة تراثية وطبيب وباحث وباحثة ومهندسة ديكور، ومخرجة أفلام ومهندس معماري ومستشار اقتصادي… وهم أشخاص يعرفهم الشارع من خلال الحراك المدني، والسجالات التلفزيونية والنشاطات المطلبية المتنوعة. كما حرصت الحملة على إقامة مهرجانات عامة والاختلاط بالأهالي وسماع همومهم عبر ألف متطوع انضم للعمل معها. يأخذ البعض على الحملة طابعها النخبوي، ويرى أن التحدي أمامها هو التقاط حس الشارع الحقيقي في العاصمة. وهو إن تعب من الأداء السابق فإن التغيير، والثقة بمن يقوده، لا يعدان سهلين في بلد كلبنان. كما أتى لقاء الحملة ببعض الأحزاب السياسية مناسبة لتوجيه سهام النقد إليها، بينما أوضحت الحملة استقلاليتها مبررة خطوتها بضرورة التواصل.مواطنون ومواطنات في دولة
في أبريل الماضي أطلقت مجموعة من الصحافيين والناشطين ورجال الأعمال حركة سياسية جديدة سميت "مواطنون ومواطنات في دولة"،وبرز على رأسها الوزير السابق شربل نحاس. هدفها كما جاء في بيانهم التصدي للسلطة الفاسدة، معتبرين الثامن من مايو صفارة انطلاقتهم. تواصلت الحركة مع أشخاص من مختلف الانتماءات المناطقية والحزبية، في مقاربتين تطرقتا إلى الهموم المحلية من جهة، والهم الوطني الشامل من جهة أخرى. ورشحت الحركة مجموعة من اللوائح المستقلة في المدن والبلدات الرئيسية في لبنان، بغية خرق جدار القوى المهيمنة على السلطة. ففي منطقة بعلبك رشحت ثلاث نساء، في محاولة لكسر المألوف الذكوري والمألوف الحزبي، إذ يسيطر "حزب الله" على معظم بلديات المدينة وجوارها. ويدعو إلى التصويت على قاعدة "التكليف الشرعي" وربط العمل البلدي بالمقاومة. في مدينة زحلة رشحت الحركة امرأة، في تحدٍ للائحتين العائليتين المدعومتين سياسياً وتاريخياً فيها. في مناطق أخرى كان الوجود النسائي واضحاً كذلك، في وقت جال نحاس يرافقه ناشطون في "بوسطة" (باص) احتفالية على المناطق اللبنانية. وتتمثل المرأة في المجالس البلدية الحالية بـ4.5%، بحسب أرقام "الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية"، وكثيرات من النساء من خلفيات سياسية أو عائلية. وهو تمثيل يشابه تمثيل المرأة في المجلس النيابي. بينما تغيب النساء عن التمثيل في الحكومة الحالية. لذا تبدو الانتخابات البلدية فرصة جدية أمام النساء للانخراط في المجال السياسي. ويأخذ البعض على "مواطنون ومواطنات في دولة" و"بيروت مدنتي" عدم تخطي الاختلافات بينهما، والاتحاد في بيروت في وجه سلطة تلجأ إلى جميع الوسائل وحتى الائتلاف بين خصوم السياسة، للحفاظ على سلطتها وفسادها."حراك إلكتروني"
على خط مواز، انطلقت حملات توعية على مواقع التواصل الاجتماعي اتخذت طابعاً فكاهياً هادفاً كان أبرزها "البلدية نص البلد" (من تنفيذ "الجمعية اللبنانية لديموقراطية الانتخابات") انطلقت من ارتباط البلدية بتأمين الكهرباء والمياه والمدارس والاستشفاء، وسخرت من الحملات الاستعراضية لمرشحي الأحزاب التقليديين، في ظل محاولة لتوعية المواطن الذي يغيب عنه في معظم الأحيان الدور الحقيقي للبلدية. وظهرت سلسلة بيروتية بعنوان "عفيف وعكيف"، وهما شخصيتان بيروتيتان توضحان انقسام المواطنين بين الحالم بالتغيير وبين من "غسل دماغه" ولا ينفك يكرر الشعارات العصبية التقليدية. وتساهم حملة أخرى بعنوان "الباب على الباب" (Door to Door) أيضاً في موضوع التوعية.تحديات التغيير الحقيقي
ينبئ الحراك المدني الحاصل بالتزامن مع الاستحقاق البلدي، تبلور اعتراض ناضج يجعل الطريق المعبدة دائماً أمام الأحزاب غير ميسرة. وهي محاولة جديدة للدفاع عن المواطنة والحق في العيش بشروط إنسانية محترمة، وصوت جديد في وجه ثقافة القطيع التي تعتمدها الأحزاب التقليدية مع الناخبين. ويبقى التغيير الحقيقي المطلوب متمثلاً بقانون الانتخاب الحالي، الذي يستبعد مكان السكن والعمل أو حتى الولادة من دائرة اقتراع المواطن، ويلزمه الاقتراع وحتى الترشح في المكان حيث سجل نفوسه. فحتى لو ولد شخص أو عاش في العاصمة سنوات طويلة يبقى عليه أن يقترع حيث تسجل بياناته العائلية في قرية بعيدة لا يزورها، علماً أنه يدفع الضرائب لبلدية العاصمة. كذلك تُسجل للحراك إعادة الاعتبار للسلطة البلدية بعد اختطافها، في وقت يواجه تحدي استخدام الأحزاب للانتخابات البلدية كمجال لإثبات هيمنة كل فريق على العدد الأكبر من البلديات، في ظل الانقسام السياسي العمودي القائم، محلياً وإقليمياً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...