قرّرت المملكة العربية السعودية فجأة، وتبعتها جاراتها الخليجيات باستثناء عُمان، تغيير طريقة تعاطيها مع لبنان، وانتهاج نهج فرض القيود والعقوبات للتأثير على سياساته الداخلية والخارجية. للمملكة مبرراتها بلا شك ولكنها تطلب من لبنان ما لا طاقة له عليه.
عندما قرّرت السعودية تقديم هبة قيمتها ثلاثة مليارات دولار إلى الدولة اللبنانية ثم أتبعتها بأخرى قيمتها مليار دولار، عبر ممرّ زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، بهدف تسليح الجيش اللبناني والقوى الأمنية لمواجة التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها، كانت على علم تام بظروف لبنان.
كانت المملكة تعلم أن اللبنانيين منقسمين مثلهم مثل كل الشعوب العربية، وخاصة المتنوّعة طائفياً، وأن جزءاً منهم مؤيد لسياساتها الخارجية كيفما دارت وجزءاً آخر منهم معارض لسياساتها كيفما دارت. مؤيدوها لا يؤيدونها عن قناعة برؤيتها فهم أيّدوا سياساتها الخارجية في زمن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز وفي زمن الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز. وفي الحالتين كانوا يؤيدونها بحماسة برغم أن سياسات المملكة الخارجية اختلفت بشكل شبه جذري. والأمر نفسه بخصوص معارضيها.
إنه الانقسام الهوياتي الحاد الذي تمرّ به الشعوب العربية. وفي هذا النوع من الانقسامات لا يسأل أحد عن الصح وعن الخطأ. تحرّكه غريزته الطائفية. ومَن يخرجون عن هذه الانقسامات لوعي منهم بخطورتها لا مكان لهم لا في لبنان ولا في أيّة دولة عربية أخرى. هؤلاء هم المشاهدين غير المتحمّسين لما آلت إليه الأمور.
وكانت المملكة تعلم أن حزب الله بنى منظومة أمنية وعسكرية خارج نطاق الدولة اللبنانية. هكذا كان الحال منذ وقت طويل. إذاً لا مفاجآت. وكانت تعلم أنه حين ذهب ليقاتل في سوريا لم يطلب إذناً من أحد من اللبنانيين، وحتى من قواعده الشعبية التي امتعض قسم كبير منها من قتاله خارج الحدود.
وكانت المملكة تعلم أن الاستقرار اللبناني هشّ جداً وأن القوى العسكرية والأمنية الشرعية لا طاقة لها على بسط سلطتها لا على كامل التراب اللبناني ولا على حدوده. لا بل أن الهبتين السعوديتين ارتبطتا في رواية منحهما للبنان بقول رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان للملك عبد الله أن الجيش عاجز مادياً عن السيطرة على الحدود اللبنانية السورية، بسبب ضعف تجهيزاته. إذن ما الجديد؟
الجديد هو تغيّر سياسة المملكة الخارجية لا تغيّر المعطيات على أرض الواقع، دون أن ننسى أن تصعيدها في الملفات الخارجية عملياً وخطابياً واكبه تصعيد من خصومها عملياً وخطابياً أيضاً.
لا شك في أن حزب الله بنبرة خطاباته المرتفعة والعدائية تجاه المملكة ساهم في توتير الأمور ووصولها إلى ما وصلت إليه. ولكن هذا لا يغيّر شيئاً في الوضع السابق. لا زال حزب الله يتصرّف وحيداً دون استشارة باقي اللبنانيين. ولا زال للمملكة حلفاء لم يزيدوا ولم ينقصوا كثيراً لأن تركيبة سكّان لبنان لم تتغيّر. ولا زالت الدولة اللبنانية ومؤسساتها هشّة فلا هي قادرة على التماسك وفرض سلطتها على كل الفئات اللبنانية ولا هي منهارة تماماً بحيث ينفلت الوضع تماماً عن السيطرة.
هل تظنّ السعودية أن خطوتها إذا أصرّت عليها ستغيّر في هذا الواقع قبل أن يخفّ الاحتقان في الشرق الأوسط برمّته؟ وهل تظنّ أن لبنان قادر على احتمال توقيع وزير خارجيته على بيان يصف حزب الله بأنه تنظيم إرهابي متطرّف، حتى ولو كان هذا الوزير أعتى صقر من صقور حلفائها؟ هكذا موقف هو إعلان حرب أهلية في لبنان. فهل هذا ما كانت تريده المملكة؟
فللتذكير، لم يرفض لبنان توقيع بيان وزراء خارجية العرب لأنه أدان الاعتداءات على سفارتها وبعثتها القنصلية في إيران. وزير خارجية لبنان قال ذلك في كلمته قبل يوم من صدور البيان. ولكنه، لا هو ولا أيّ أحد آخر، يحتمل أن يوقّع لبنان على بيان يصف حزب الله بأنه إرهابي، وقد أوضح لبنان موقفه وذكر البيان الختامي نص اعتراض لبنان بوضوح. وكان هذا الموقف مغطّى سياسياً من حلفاء المملكة في لبنان.
لبنان الآن يواجه جملة تحدّيات لا أحد قادر على مواجهتها إلا جيشه وقواه الأمنية. يواجه تحدي الخلايا الإرهابية التي تنشط داخله ويواجه، وهذا الأخطر، تحدي الجماعات الإرهابية الناشطة في الداخل السوري على مقربة من حدودة وأحياناً داخل حدوده. لهذا فإن الحكمة تقتضي تراجع المملكة عن قرارها خاصة أنها مسؤولة نسبياً عن ولادة هذه المخاطر.
إذا أرادت المملكة إضعاف قوة حزب الله في لبنان فلا سبيل أمامها إلا دعم اقتصاده لتساهم في فكّ العلاقة الزبائنية التي بناها هذا الحزب مع كثيرين بأمواله الإيرانية، وبدعم جيشه وقواه الأمنية لكي يبقى للدولة وجود. ويمكن لها أن تفتح أرشيف الصحف وترى مَن امتعض من الهبة التي منحتها للجيش.
وحالياً، ينصح المملكة بعض المتحمّسن الذين ثبت أن كل نصائحهم لا تأتي بمردودات سياسية مجدية بطرد بعض اللبنانيين العاملين داخلها وربما بحثّ جاراتها الخليجيات على حذو حذوها. هل هذا سيفيد؟ هل ستتغيّر سياسة لبنان الخارجية إن حصل ذلك؟ هؤلاء إنْ عادوا لن يكون أمامهم إلا الارتماء في أحضان حزب الله.
كان النظام السوري يشترط على لبنان تبعيةً له في سياسته الخارجية وتعرف المملكة تفاصيل هذا الملف الدقيقة كراعية لاتفاق الطائف وكضامنة لتطبيقه الذي لم يتمّ. لبنان لا يحتاج حالياً إلى استبدال وصاية بأخرى. لبنان يحتاج إلى أصدقاء، وقبل كل شيء يحتاج إلى الحفاظ على سلمه الأهلي الهشّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين