إذا أصبحت بغداد اليوم مثالًا للفساد والعنف، اللذين لم نشهد مثيلاً لهما من قبل، فإن تأسيسها منذ 1250 سنة اعتبر بمثابة إنجازٍ في تاريخ التصميم الحضري. وعلاوةً على ذلك، شكّل بناء بغداد، التي أصبحت بعد فترةٍ وجيزةٍ البوصلة الثقافية للعالم، معلماً للحضارة.
على عكس الاعتقاد السائد، فإن بغداد مدينة عتيقة ولكنها ليست قديمة. فقد تم تأسيسها عام 762 ميلادي على يد الخليفة العباسي المنصور، لتكون عاصمة للإمبراطورية الإسلامية.
نعلم الكثير عن التخطيط الفائق الدقة الذي وضع لبغداد، بفضل المحفوظات المتعلقة بأعمال البناء. فقد علمنا أن بعد عبور الخليفة المنصور نهر دجلة للبحث عن مكانٍ مناسبٍ لعاصمته الجديدة، نصحه كهنةٌ نسطوريون بمكان يعتبر مناخه ملائماً لبناء عاصمته.
وبحسب عالم الجغرافيا والمؤرخ العربي اليعقوبي، الذي عاش في القرن السابع والذي كتب "كتاب البلاد"، فإن موقع بغداد على ضفاف دجلة وبالقرب من الفرات، أعطى المدينة فرصةً لتكون نقطة تقاطع كونية. وبينما كان اليعقوبي يؤلف، أصبحت مدينة السلام بغداد محور العالم وعاصمة دار الإسلام من دون منازعٍ، وموطن العلماء الرائدين، وعلماء الفلك والشعراء وعلماء الرياضيات والموسقيين والمؤرخين ورجال القانون والفلاسفة.
بعد أن وافق الخليفة المنصور على موقع البناء، انصب العمل على إعداد التصميم، ومجدداً قيل لنا إن الخليفة قام بهذا العمل بمفرده. وتحت رقابةٍ صارمة، جعل العمال يقومون بوضع خطوطٍ دائرية من الرماد على الأرض، وكانت الدوائر المتقنة تقديراً لدراسات إقليدس الهندسية، التي درسها الخليفة وأعجب بها. بعد ذلك جال الخليفة في مخططه الدائري وأعطى موافقته على التصميم، وأمر بوضع كرات قطنية منقوعة بسائلٍ نفطي على الدوائر المصنوعة من الرماد، وإضرام النار لتحديد مكان تشييد الجدران الخارجية المدعمة.
في 30 يوليو عام 762، وبعد أن صرّح المنجمون الملكيون أنها الفترة الأنسب لبدء أعمال البناء، قام المنصور بالصلاة لله ووضع حجر الأساس، وأمر بجمع العمّال وبدء العمل.
يعتبر حجم هذا المشروع الحضري من بين أهم المحطات المتميزة في تاريخ بغداد، وقد برزت بصمة الخليفة المنصور في المحيط الدائري، الذي يمتد على مساحة 4 أميال والجدران القرميدية الضخمة التي ترتفع على ضفاف نهر دجلة. واستناداً إلى العالم الخطيب البغدادي، الذي يعتبر كتابه تحت عنوان "تاريخ بغداد" منجماً للمعلومات المتعلقة ببناء المدينة، فقد تم استعمال 162,000 حجر لبناء الثلث الأول من الحائط، و150,000 للثلث الثاني، و140,000 لبناء الجزء المتبقي. وقد جرى ربط الحجارة بعضها ببعض بحزم من القصب، أما الحائط الخارجي، فقد شيد على ارتفاع 80 قدماً، وفي أعلاه بنيت أسوارٌ بمنصات، كما حفر خندقٌ عميقٌ حول المحيط الخارجي للحائط.
شارك في أعمال البناء عددٌ هائلٌ من العمّال وآلافٌ من المهندسين المعماريين، والمهندسين والخبراء القانونيين، والمسّاحين والنجارين والحدادين، والحفارين والعمال العاديين من مختلف مناطق الإمبراطورية العباسية. قاموا بدايةً بأعمال المسح والقياس وحفر الأساسات، ثم بإعداد عجينة الطين لصنع قوالب القرميد، التي لطالما كانت مادة البناء الأساسية في سهول بلاد ما بين النهرين، لغياب مقالع الحجارة. شادوا المدينة التي تشبه القلعة حجراً تلو الآخر. لقد كان بناء بغداد أعظم مشاريع العالم الإسلامي، إذ يقدّر اليعقوبي عدد العمال المشاركين بنحو 100,000.
كان التصميم الدائري للمدينة مبتكراً، وفي هذا الصدد يؤكد الخطيب قائلًا: "يقولون إنه لا توجد مدينة أخرى في العالم دائرية الشكل". وللمدينة أربعة أبوابٍ متساويةٌ في البعد بعضها عن بعض، وتمر فيها طرق تؤدي إلى وسط المدينة. تؤدي بوابة الكوفة في الجنوب الغربي وبوابة البصرة في الجنوب الشرقي إلى قناة "سارات" المائية، التي شكلت جزءاً أساسياً من شبكة المياه، التي تجرّ المياه من الفرات إلى النيل، لتجعل المكان جذابًا. أما بوابة الشام في الشمال الغربي فتؤدي إلى طريق الأنبار، وإلى الصحراء نحو سوريا، أما في الشمال الشرقي فتقع بوابة خراسان، التي تؤدي إلى جسرٍ من القوارب في نهر دجلة.
وعلى امتداد فترةٍ طويلةٍ من حياة المدينة، لجأ السكان إلى استعمال جسور عائمة تتألف من قوارب مربوطة بعضها ببعض، ومثبتة بالضفتين، وقد اعتبرت هذه الجسور بصمة خلابة من بصمات بغداد. لم يتم تشييد جسور ثابتة حتى وصول البريطانيين في القرن العشرين، الذين بنوا جسراً حديدياً فوق دجلة.
وعلى قمة البوابات الأربع، تم تشييد نقاطٍ لتأمين رؤية تتيح السيطرة على المدينة من الداخل، كما على أميالٍ من بساتين النخيل المتشابكة، وعلى سهول الزمرد التي زينت مياه دجلة. كانت قاعة الاستقبال الضخمة فوق بوابة خراسان المفضلة لدى الخليفة المنصور، حيث كان يستريح في فترات ما بعد الظهر من الحرّ الشديد.
جرى تزيين الطرق الأربع التي تؤدي إلى وسط المدينة، بالممرات المقنطرة، حيث أقيمت المتاجر والأسواق، وتفرّعت من هذه الطرق ممرات تؤدي إلى سلسلةٍ من المربعات والمنازل. أما المساحة الضيقة بين الجدار الرئيسي والجدار الداخلي، فتماشت مع رغبة المنصور في إبقاء قلب المدينة منطقةً ملكية.
تكوّن وسط مدينة بغداد من منطقة مسيّجة ضخمة، يصل قطرها إلى نحو 6500 قدم، تحتوي في منتصفها على المنطقة الملكية. وخصصت الهوامش الخارجية لقصور أبناء الخليفة، ومنازل الموظفين في البلاط والخدم، ومطابخ الخليفة وثكنات للخيالة من الحرس، بالإضافة إلى مراكز حكومية. أما الوسط فكان خالياً إلا من أجمل مبنيين في المدينة: الجامع الكبير، وقصر البوابة الذهبية للخليفة. يمثل هذان المبنيان الاتحاد بين السلطة الروحية وسلطة الخليفة. باستثناء الخليفة، لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى المنطقة الملكية، فحتى عمه، الذي كان يعاني من داء النقرس، مُنع من الدخول بعد أن طلب ذلك متذرّعاً بمرضه. لكن الخليفة سمح له أخيراً بالدخول إلى تلك المنطقة، شرط أن يتم نقله إلى هناك باستخدام وسيلة نقل تستعمل عادةً للنساء، بعد أن شكا عمه من وهن أطرافه. لكنه رفض قائلاً: "سأشعر بالخجل من الناس"، ليجيبه الخليفة: "وهل بقي أحد لتخجل منه؟".
كان قصر المنصور بناءً مميزاً، يمتد على مساحة 360,000 قدم مربع، وأهم خاصياته قبة خضراء فوق قاعة الاستقبال ترتفع 130 قدماً عن الأرض، وتؤمن رؤية شاملة، تمتد لأميال. وقد وُضع عليها تمثال خيّال يحمل سلاحاً في يده. ادّعى الخليفة أن هذا التمثال يستدير كالبوصلة، ويوجه سلاحه إلى الجهة التي سيأتي منها أعداؤه. أما جامع منصور الكبير فكان أول مسجدٍ في بغداد، امتد على مساحة 90,000 قدم مربع، لعبادة الله، وإيصال رسالةٍ مفادها أن العباسيين كانوا أقوى عباد الله على الأرض.
عام 766 تم إنجاز المدينة الدائرية، واعتبر ذلك بمثابة نصر. واستطرد الجاحظ في إبداء إعجابه بالمدينة قائلاً: "لقد رأيت مدناً عظيمة ومن ضمنها تلك التي حكي عن بنائها المتين، لقد رأيت مثل تلك المدن في سوريا، وفي الأراضي البيزنطية، وفي ولاياتٍ أخرى، لكنني لم أر مدينة بهذا الارتفاع وهذه الدوائر المتقنة، وهذه الخصائص. كما أنني لم أر مدينة تمتلك بوابات واسعة ودفاعات أمتن من دفاعات الزوراء. إنها بالفعل مدينة الخليفة أبو جعفر المنصور". أما أكثر ما أعجب الجاحظ في تلك المدينة، فكانت هندستها الدائرية.
دمرت آخر آثار مدينة الخليفة المنصور الدائرية في بداية سبعينيات القرن التاسع عشر، حين هدم الوالي العثماني الإصلاحي مدحت باشا جدران المدينة العظيمة في مسعى منه إلى التحديث. ومنذ ذلك الوقت، اعتاد البغداديون على إقصائهم من وسط عاصمتهم. وها هو التاريخ يعيد نفسه، إذ تم منع البغداديين من دخول وسط المدينة في عهد المنصور، وبعد 12 قرناً جرى منعهم أيضاً من دخول وسط بغداد، بأمرٍ من صدام حسين.
أصبح شارع كرادة مريم، المعزز الرقابة، والذي يقع تقريباً إلى جنوب المدينة الدائرية الأساسية على الضفة الغربية، مقر نظام صدام، وغرفة عملياتٍ معدة بعناية للسيطرة على الشعب، وممارسة القتل، عبر شركات أمن جعلت الدولة العراقية تلتهم نفسها. وفي ظل الاحتلال الأميركي عام 2003، أصبحت تلك المنطقة أكثر تشدداً أمنياً، وباتت تعرف باسم المنطقة الخضراء، وهي منطقة سوريالية، تمتد على 6 أميال لا يرحب بالعراقيين فيها، علماً أنها تقع وسط عاصمتهم.
واليوم، وبعد فترة فاصلة امتدت 12 عاماً، تفتح المنطقة الخضراء أبوابها للعراقيين مجدداً، ولكن كما هي العادة في تاريخ العراق الدموي، لا يرى العراقيون في الأمر مدعاةً للابتهاج، في ظل صراعٍ داخلي يمزق البلاد. بقيت بغداد على قيد الحياة، لكن سكانها يواجهون مرّة أخرى المجهول القاتم.
نسخة مترجمة عن الموضوع الذي نشر بالإنغليزية على موقع The Guardian تحت عنوان The birth of Baghdad was a landmark for world civilisation،لـJustin Marrozzi.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...