"هنا السودان" أرضٌ ممتلئةٌ بالحكايات والأساطير والأغاني، تحتاج نبّاشاً ماهراً ليُخرج منها الكنوز الدفينة، و"العاج والصمغ والأبنوس"! و"هنا روائية بارعة" لا تنكش بقلمها التراب بحثاً عن هذه الكنوز فحسب، بل تحوّل التراب نفسه إلى ذهب، ناقلةً عادات البلد وتقاليده وما فيها من طقوس! و"هنا رواية" فيها كرنفالات ألوانٍ وأصواتٍ وروائح وصور، وفيها فرحٌ وحزن، حياةٌ وموت، حلوٌ ومرّ، وفيها "الحكّامة وآدمو وبابنوس".
تدور أحداث الرواية في مكان متخيّل، تثبّت الكاتبة الأردنية سميحة خريس إحداثياته في إقليم "دارفور" السوداني. تهجر مجموعة من الناس مساكنها في جبل "مَرَّة" بسبب الفقر، ويرتحلون طوال شهور، إلى أن يصلوا إلى بقعة معزولة هادئة، يتخذونها مستقراً لهم، مطلقين عليها اسم "الخربقة". "بين اقتراح ومزاح، وميل إلى الاستسهال بعد ركوب صعاب الماضي، اخترنا تلك الفسحة الرملية المستلقية بقعر جبل، اخترنا البقعة التي لا اسم لها، بيتاً ووطناً (...) وبمزاج عالٍ، وفرح وبهجة أسميناها "الخربقة"، نسبة إلى اسم اللعبة التي كانت أول نشاطنا على أرض الوطن الجديد".
تنقسم الرواية إلى تسعة فصول، تحمل الفصول السبعة الأولى منها أسماء أبطال الرواية الأساسيين، ويجري الحديث في كل فصل على لسان البطل صاحب الاسم، فتتحّول الفصول إلى ما يشبه اعترافات، بوح بالأسرار، سرد حكايات يتناسل بعضها من بعض، ولا تكتمل سيرة كل شخصية إلا باكتمال الفصول، ذلك أن كل واحدة منها تضيء جوانب مخفية في الشخصيات الأخرى، غفلوا عنها، تناسوها أو أهملوها عن قصد.
الرابط وصلة الوصل بين الجميع هي "الرسالة" أو "الحكّامة"، حكيمة "الخربقة" وكبيرتها، هي الأم الروحية للجميع، تساعدهم، تقدّم لهم النصح، وتقضي بينهم عند الخلاف. عاصرت أحداثاً كبيرة، وعاشت حياة مديدة.
بفضلها صارت "الخربقة" مكاناً يجمع بشراً من مختلف الألوان والأعراق، إذ "لا تهتم الحكامة بالألوان، فعادة ما تصنف تلك التلميحات في خانة الجهل وقلة الإيمان، واحتقار خلق الله الذي لا يليق بالإنسان الذي يستخدم عقله وقلبه ميزاناً عادلاً في الحياة"، ولذلك فإنها قبلت بـ"حوا" وابنها "أدمو"، أسود البشرة أزرق العينين، بينهم، رغم أقاويل الناس أنه "جنا حرام"، كما أنها رحّبت بـ"باسالم" الرجل الذي قدم من اليمن وافتتح دكانه واستقر معهم، وهي أيضاً من تبنّت "ست النفر" التي أنجبت بعد زواجها ابنة أطلقوا عليها اسم "بابنوس"، لشبهها بشجرة الأبنوس، "وهكذا فإن جذع شجرة الأبنوس البنية التي تحاكي لون أمي الكاكاوي الأقرب إلى حليبية ثمرة العرديب الغضة، حفظ في قلبه كما الشجرة، جسداً أسود، هو أنا".
تسلط الرواية الضوء على الصراع السياسي في إقليم "دارفور"، المتمزق بين فقر الطبيعة والصراع على الماء والطعام، وكيف تحوّلت هذه الصدامات والأطماع إلى حرب مسلحة ارتفعت فيها حدة التوترات العرقية والتصنيفات اللونية، وكيف أن الغرب يتدخل دوماً في هذه الصراعات خدمة لمصالحه وتحقيقاً لأطماعه في ثروات البلاد من "سائل أسود" وصمغ ويورانيوم. تصوّر الرواية في أكثر من موضع، المجاعات التي اجتاحت "دارفور" أكثر من مرة، وما سببته من مآسٍ، وكيف أن الإنسان يصبح قاسياً صلباً إلى درجة التحجر، فيفرح لموت أطفاله لأن موتهم يعني تخففه من مسؤولية إطعامهم في ظل عجزه وما يسببه من عذاب لا يحتمل.
تؤخّر الكاتبة طرح القضية المركزية في الرواية إلى الفصلين الأخيرين، فبعد أن تركت أبطالها يجولون على هواهم في الفصول السبعة الأولى، تتيح لراوٍ عليم بكل شيء أن يمسك زمام السرد، ليمضي بالرواية إلى مبتغاها، فترصد آثار الحروب على الأطفال، وتروي كيف تم ترحيل الأطفال إلى فرنسا لبيعهم هناك إلى عائلات فرنسية، ضمن صفقات معدّة مسبقاً، وتحت مسمى: "إنقاذ أطفال دارفور"، "رفعت العائلات الفرنسية السعيدة صور الأطفال القادمين إلى جانب اللافتات التي حملت عبارات: "أنقذوا أطفال دارفور"، "تبنّوا أطفال دارفور". في اللحظات الأولى، تعذر على الأزواج الفرنسيين الذين ابتاعوا الصغار التعرف على من سيصيرون أبناءً لهم، بدا الأفارقة السود متشابهين كما تتشابه الأرانب".
كما تطرح موضوع "تجارة الرقيق"، مستفيدة من حادثة حقيقية حصلت قبل أعوام، حين قُبض على مجموعة تهرّب الأطفال وتتاجر بهم، إذ يقوم مجموعة من الأشخاص الذين يعملون في بعثات إنسانية وطبية إلى السودان باستغلال وظيفتهم، فيرحلّون "آدمو" و"بابنوس" إلى باريس بعد فصلهما عن ذويهما، ليبيعوهما هناك إلى "بيوت دعارة"، فتتغيّر وتتبدّل مصائرهما كما تبدّلت مصائر جميع من في "الخربقة".
تضمّن سميحة خريس الرواية الكثير من الأغاني والأمثال الشعبية المنتشرة في تلك المنطقة، كما تفرد مساحة لسرد إحدى الحكايات الشعبية الشهيرة، هي حكاية "تاجوج والمحلّق"، مستخدمة لغة شفافة مرصعة باللهجة المحكية، فتغدو الرواية وثيقة فنية وجمالية عن تلك البقعة الجغرافية، تثير أسئلة وجودية كثيرة، أسئلة عن الحرية، العدالة، الحب، والحكمة. وتطرح قضايا شائكة، وتصوّر واقعاً أليماً، حيث الحروب والمجاعات تشوّه الإنسان، وحيث الأطماع المادية تقتل ما تبقى من إنسانيته.
سميحة خريس روائية أردنية، من مواليد عمان 1956، عملت في الصحافة والإعلام منذ عام 1978، حازت عدداً من الجوائز، منها: جائزة منتدى الفكر العربي/ الإبداع الأدبي عن مجمل إنتاجها عام 2008، وجائزة أبو القاسم الشابي من تونس عام 2005. لها ثلاث مجموعات قصصية، وكتاب في سيرة المدن هو "على جناح الطير". نشر لها ثلاث عشرة رواية، حوّل بعضها إلى دراما إذاعية أو تلفزيونية، وترجم بعضها إلى اللغة الألمانية والإسبانية، ومن أبرز رواياتها: "شجرة الفهود"، "القرمية"، "خشخاش"، "دفاتر الطوفان"، و"يحيى" التي ترشحت لجائزة البوكر عام 2010، ووصلت إلى مرحلة التصفيات النهائية في جائزة الشيخ سلطان بن زايد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...