يختصر عبد الله خليفة في روايته "الينابيع" تاريخ دولة البحرين خلال أكثر من قرن من الزمان، فيضيء على التحولات الكبرى التي عاشتها "بلاد المحار واللؤلؤ"، في ثلاثة أجزاء. يحمل كلّ جزء اسماً يستوحيه الكاتب من الحدث الكبير المسيطر على الجزء: "الصوت"، "الماء الأسود"، "الفيضان"، ويقسم كل واحد منها إلى عدد كبير من الفصول مشكّلاً رواية ضخمة مكتوبة بلغة أخذت روح الشعر ومجازاته.
"محمد العوّاد" هو الشخصية المركزية، تبدأ الرواية عنده وتعود دوماً إليه، مهما امتدت وتشعبت أحداثها. و"العوّاد" لقب اكتسبه بسبب ولعه بالعود والغناء، مما جرَّ عليه غضب والده، ومجتمعه، فهرب من بيته لاجئاً إلى "المحرّق"، المدينة الشهيرة ببيوت الطرب والغناء. "هذه هي المحرق، خطٌ من الدور والسفن والأشرعة، فلتشتعل أيها الجسد في فضاء الغناء".
يعتمد الروائي البحرينيّ في فصول روايته وسرد أحداثها على مستويين متوازيين، خارجي وداخلي، فينقل ما يحصل كحدث خارجي، ثم ينقل ما أثاره في دواخل الشخصيات وينقل أفكارهم ومشاعرهم وتداعياتهم حوله، متنقلاً بمهارة بين السرد والمونولوج. هكذا يصوّر لقاء "العواد" بـ"ميّ" وعشقه لها، لا كراوٍ ينقل ما شاهده فقط، بل كغواصٍ دخل بحار القلوب واستخرج منها لآلئ المشاعر الحارة. "المغني الذي ينادي القمر والناس، ارتفع على القارب، وأمسك الحشد المتمايل المهتز، وعيونه تحرق امرأة واحدة، راحت قليلاً قليلاً تنزع البرقع. أواه... يا سماء! لماذا ألقيتِ في قلبي كل هذا الحب؟ كيف سأصمد أمام هذا الوجه الناضر الممطر ورداً وشوكاً ورياحاً".
قصة الحب هذه لن تكتمل، وستكون هي محرّك كل ما سيتبع، إذ تتزوج "مي" من "الشيخ حامد" صاحب السلطة والمال، فيبقى المغني على امتداد حياته عالقاً في حبه لها، رافضاً الزواج بجارته "فيّ" رغم عشقها له، وحملها منه.
تحمل رواية "الينابيع" في طياتها الكثير من تراث البحرين والتقاليد المتبعة في أكثر من مناسبة، كالموت أو الزواج. ويشير خليفة في أكثر من موضع إلى الأطعمة الشهيرة، وعادات الأكل، ويصف طرق العيش وأساليبه، وسلوك الأفراد، والطيبة والبساطة التي يحيا بهما الإنسان الخليجي. "إنهم يتصرفون ببساطة مذهلة، يجلسون على الأرض وتندفع أيديهم في الأرز يكورونه ويقذفونه في أفواههم، ويحكون القصص والأشعار طوال الليل عند الشطآن، وفي الساحات الرملية، وكل إنسان يسلّم على الآخر الغريب ويصادقه في دقائق".
تقدّم الرواية قصة ثلاثة أجيال: "العواد" وابنه "عليّ" وحفيده "جمال"، وترصد التحولات التي طرأت على المجتمع خلال هذه الفترة الطويلة، فيحكي المؤلف عن المهنة القديمة التي اشتهرت بها البحرين وهي صيد اللؤلؤ، وكيف تغيّرت حياة الناس بعد وصول اللؤلؤ الزائف من اليابان، وحلوله محل اللؤلؤ الحقيقي. كذلك يحكي عن ممارسات الإنجليز في البلاد، عندما كانت البحرين تحت الحماية البريطانية، ويصف التحديثات التي أدخلوها، قبل أن تنشأ حركة وطنية تسعى إلى الخلاص من الاستعمار والحصول على الاستقلال.
تؤرخ الرواية أيضاً لاكتشاف النفط، وكيف أدى إلى تغيّرات جوهرية في البنية الطبقية في المجتمع، ويفرد الكاتب فصلاً من فصوله الكثيرة ليصف فيه اكتشاف "الماء الأسود" وفرح الناس بذلك. "تنفتح التربة، مثل المرأة، مثل الينبوع، ويروح نزيفٌ غريبٌ كريه في التدفق، كشيطان محبوس ألف ألف عام (...) المهندسون والموظفون يتعانقون بعضهم البعض، ويهتفون، وتصيح الآلات المعدنية مرسلةً لغتها العجيبة إلى الفضاء".
يرسم الكاتب ملامح تطور المجتمع من خلال سرده لدخول النساء في مجالات جديدة كانت بعيدة عنها، إذ تبدأ "مي" في مرحلة متقدمة من عمرها بالكتابة والنشر في الجرائد، برغم ما يرافق ذلك من اعتراضات بعض المحافظين من الأقارب. كما يصوّر هذا التطور من خلال نشوء المدن والعمارات بشكلها الحديث، إذ يفاجأ "علي" بالاختلافات الحاصلة في بلاده، بعد خروجه من السجن الذي وضع فيه بسبب اشتراكه في التمرد ضد الإنكليز. "وإذا الدرب الحبيب الذي حلم به مليون مرة وإذا به لم يكن بالاتساع الذي توهمه، وإذا بالباب القديم الخشبي المهترئ الذي تصوره اختفى وظهر باب صلد وتعالت جدران عالية، وبيت العواد غدا عمارة من عدة طوابق، تحتها دكاكين".
لا يمكن اختصار كل ما في هذه الرواية من أحداث متشابكة وشخصيات تتداخل مساراتها، وتتشعب. هذه رواية تتفجر ينابيعها فتفيض لغةً عذبة لا يشبع منها القارئ.
عبد الله خليفة قاص وروائي بحريني، من مواليد 1948، له مجموعة كبيرة من المؤلفات في أكثر من مجال. في القصة القصيرة له "لحن الشتاء"، "الرمل والياسمين"، "يوم قائظ"، "سهرة"، "دهشة الساحر"، "جنون النخيل"، و"سيد الضريح". في الدراسات النقدية: "الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي"، "نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية"، و"نماذج روائية من الخليج والجزيرة العربية".
أما في الرواية فله "اللآلئ"، "القرصان والمدينة"، "الهيرات"، "أغنية الماء والنار"، "امرأة"، "الضباب"، "نشيد البحر"، "الأقلف"، "ساعة ظهور الأرواح"، "التماثيل"، "ذهب مع النفط"، "عنترة يعود إلى الجزيرة"، و"الينابيع". بالإضافة إلى خمس روايات كتبها عن شخصيات دينية من أنبياء وخلفاء: "رأس الحسين"، "عمر بن الخطاب شهيداً"، "عثمان بن عفان شهيداً"، "علي بن أبي طالب شهيداً"، و"محمد ثائراً". كذلك أصدر كتاباً في ثلاثة أجزاء عن الفلسفة العربية الإسلامية وأبرز ممثليها: "الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...