الدوالي المثقلة بالعنب، الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، وامتداد الكروم على مدى النظر، والتربة الطيبة. مشهدٌ يوحد معظم الأرياف السورية في شهر القطاف سبتمبر، لكنّ للخمر أهله. 15% فقط من إنتاج العنب السوري السنوي يستخدم في صناعة الكحوليات. مع ذلك تصدّر سوريا ثلاثة أنواع من النبيذ والعرق من معاملها المحلية. أمّا الخوابي المحفوظة في غرف خاصة، وطقوس "القطفة الأولى"، والغسل والعصر والتعتيق، فلم يبقى هذا كله إلا في القليل من البيوت، ومع الكثير من الحكايات. رصيف22 يصحبكم في جولة على مواطن الخمر السوري وأهله.
الصلاة إلى باخوس
"بلدي ؟!"، يسأل الرجل عن نبيذه، ومن الخزي ألا يكون. مرحباً بكم في محافظة السويداء.
تعدّ السويداء موطن النبيذ الأول في سوريا، وقد وجدت صناعة النبيذ مع أول قاطن في جبل حوران، فقد كانت السويداء من أهم مدن الحضارة الرومانية منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وتقول القصة المتداولة، التي نقلها لرصيف22 وضاح، ابن المدينة، إن سكان الجبل كانوا يعبدون الإله الإغريقي القديم باخوس، إله الخمر، وهذا ما جعل لتخمير النبيذ وصناعته قديماً، طقوساَ جماعية أقرب إلى العبادة منها إلى الصناعة العادية. يبدأ الأمر باختيار الوقت، فعلى المزارع العناية بكرومه بشكل محدد يتناسب مع تحضيرها للخمر، وحين يحين القطاف، ويصبح اسم العنب "مبروك" كما يسميه أهل السويداء اليوم، يتذوق بعض خبراء الزراعة العنب ليحسموا أمر القطاف. فالأمر جماعي، ولا يجوز أن يقطف المزارع كرمته قبل جاره، ليكون إنتاج النبيذ شبه موحدّ في القرية كلها.
يؤخذ العنب إلى الغسل، ثمّ يوضع في جرار فخارية تتسع الواحدة منها حتى 10 ليترات من الماء، في غرفٍ خاصّة. تكون أرض الغرف تربة صالحة محروثة، والجرار مغروسة في التربة، تغلق الجرار جيّداً وتسدّ فتحاتها، لئلا يتعرض العنب للهواء. بعد نحو 45 يوماً، يستخرج العنب المخمر من الجرار، ويوضع في أكياس كبيرة، وتعصره العذراوات حصراً، فيسمى العصير نبيذاً بكراً، نسبة للأبكار اللواتي عصرنه، يعاد إلى الجرار، ويترك ليتعتق.
الطقس الجماعي القديم هذا في ريف السويداء، بقي مستمراً حتى خمسينيات القرن الماضي تقريباً، ثم بنيت المعامل، وغابت العذراوات من الصورة، وأصبح "البلدي" إنتاجا فردياً في البيوت. لكنّ بعض القرى ما زالت حتى يومنا هذا تحافظ على الغرف الطينية الخاصة بتخمير النبيذ، كقرية الكفر التي تبعد 12 كيلومتراً عن مدينة السويداء، مركز المحافظة. أما المعمل الأشهر في المحافظة فهو معمل "الريان" المسمى نسبة إلى "جبل الريان"، وهو أحد أسماء جبل حوران أو جبل العرب.
ينتج معمل الريان العرق والنبيذ بشكل رئيسي، ولا يستلطف الأهالي منتجاته كثيراً، فمن المستنكر بالنسبة إلى المحليين في السويداء رؤية عنبهم يخمر بطريقة صناعية بحتة. علماً أن المقارنة بين نبيذ الريان والنبيذ البلدي المصنع في البيوت، فاشلة تماماَ. وعلى الرغم من أن سعر الليتر البلدي ما زال، مع كل أزمة العملة السورية، 300 ليرة سورية، أي دولار أمريكي واحد، فهو، بحسب الكثير من شاربي الكحول القدامى، الأفضل في سوريا.
Bargylus
لا يعرف الكثير من السوريين، غير المختصين، أن معملاً للنبيذ يدعى Bargylus في ريف اللاذقية الشمالي، يعدّ واحداً من أهم معامل التصدير في المنطقة. أنشأ المعمل عام 2003، ويملكه أخوان لبنانيان من أصل سوري. له كرومه الخاصة في مناطق الريف الشمالي، التي ترسل قطفاتها الأولى إلى لبنان ليتذوقها خبراء فرنسيون، ويصدروا أمر قطافها، فيتم حصدها، وتصنيعها وتعبئتها وتجهيزها، ثم تصدر إلى فرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص من الدول الأوروبية. الصيف الماضي، تأثرت الكروم بالحرب، فوقع العديد من القذائق قربها، وقلّ الإنتاج، إلا أنها ما زالت قائمة ولم تتوقف عن العمل خلال سنوات الحرب الخمس.
مدينة الكرمة
على كتف نهر العاصي، في ريف حماة الشمالي الغربي، مدينة صغيرة تدعى محردة. الاسم هذا، يترافق جنباً إلى جنبٍ مع اسم آخر، هو الكرمة. مدينة محاطة بالكروم، وكلّ أصحاب الأرض يزرعونها كروماً، حتّى سميت المدينة باسم عنبها، وكان اسماً رسمياً حتى أربعينيات القرن الماضي، فكانت أسماء المنشآت العامة، كناديها الرياضي مثلاً، تسمى بالكرمة. إلا أنّ الاسم بدأ بالتلاشي، حين بدأت الكروم بالانحسار وراحت تتبدل بالعمران. وبما أن المدينة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة المسيحية، كون أهلها من المسيحيين، فالأمر تقليد أهلي يبدأ في الكنيسة ويمتد إلى البيوت.
هو تقليد جماعي لم ينته حتى اليوم، مع أنه قلّ وتراجع بسبب الحرب، إلا أنه ما زال طقساً اجتماعياً يجمع الأقارب والأصدقاء، ليقوموا بصناعة العرق البلدي. إذا مشى الزائر في أواخر سبتمبر حتى منتصف أكتوبر، سيشمّ رائحتي تقطير العرق والشواء معاً بين الأحياء. منهم من يصنع كميات كبيرة ليبيعها، ومنهم من يصنع لاستخدامه الشخصي، إلا أن تقطير العرق تدرج في المنطقة أكثر من تخمير النبيذ، لأن عنب الكروم المحرداوية يصلح للعرق أكثر مما يصلح لغيره. ولا يخلو الأمر من العائلات التي تصنع النبيذ وتبيعه محلياً، ولا يزيد سعر ليتر العرق البلدي أو النبيذ البلدي كثيراً عن السويداء، فتراوح أسعاره بين 500 و700 ليرة سورية، أي بين دولارين وثلاثة دولارات أمريكية.
نحو ريف حمص الجنوبي الشرقي، تشتهر بعض القرى ذات الغالبية المسيحية بتصنيع العرق أيضاً، كقريتي صدد والحفر، ويقع هناك معمل الخمر الثاني، الذي يشتهر بالعرق أكثر من النبيذ. وهو معمل الميماس، الذي ينتج سنوياً نحو 1500 طن من مختلف المنتجات الكحولية. عام 2014 صرح المعمل عن صفقة لتصدير نحو 33 طناً من المنتجات خصوصاً من العرق إلى الولايات المتحدة، وعلى الرغم من صعوبة الأمر فما زالت مفاوضات تصدير الكحول قائمة في المعامل الثلاثة المذكورة.
نكمل الطريق إلى قرى وادي النصارى في ريف حمص، حيث إنتاج الخمر يكاد يكون شخصياً. إلا أن بعض العائلات تنتج العرق وتوزعه على المستوى المحلي الضيق جداً. ثمّ أخيراً إلى ريفي طرطوس واللاذقية، حيث يدخل كل من النبيذ والعرق في الطقس الديني السري والعلوي، ما يجعل لتصنيع الخمر المنزلي البلدي وقعاً خاصاً ومميزاً في تلك المناطق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...