تروي "نوال السعداوي" في كتابها "مذكراتي في سجن النساء"، تجربة اعتقالها التي دامت بضعة أشهر من عام 1981، بدءاً من لحظة القبض عليها حتى لحظة خروجها ثم زيارة صديقاتها في السجن.
ففي 6 سبتمبر 1981، وبينما كانت الكاتبة منهمكة بكتابة رواية جديدة، سمعت خبطاً على الباب، وحين قامت لاستطلاع الأمر فوجئت بقوات الأمن تريد تفتيش المنزل من دون أن يكون معهم إذن من النيابة، فما كان منها إلا أن رفضت فتح الباب، فالقانون يقضي أن يكون معهم أمر مكتوب. وأمام إصرارها على موقفها خلعوا الباب واقتحموا المنزل، "سمعت صوت انكسار الباب كأنه انفجار. أحذيتهم الحديدية تدق الأرض بسرعة كجنود جيش انطلق نحو القتال. هجموا على الشقة كالجراد الوحشي، أفواههم مفتوحة تلهث، وبنادقهم فوق أكتافهم مشهرة.”.
يتم اقتياد "السعداوي" إلى سجن النساء في القناطر، حيث تلتقي مجموعة من صديقاتها الكاتبات والناشطات، اللواتي حبسن وفقاً لقرار التحفظ الذي أصدره "السادات"، بذريعة أنهن "متآمرات ضد الوطن ومصالح الشعب" وأنهن سبب في "الفتنة الطائفية"، في حين أن الحقيقة هي أن السعداوي هاجمت بكتاباتها سياسات الرئيس "السادات"، وموالاته لإسرائيل وأميركا.
تحكي الكاتبة تفاصيل السجن بدقة، مصوّرةً كيف أنها حرصت على أن لا يتسلل الخوف إليها، فلم تعد تبالي بالحشرات التي تمر قربها وتلمس جسدها، كما عوّدت نفسها أكل الطعام السيئ، وظروف النوم غير المريحة. وكي تحافظ على معنوياتها عالية، كانت تستيقظ كل صباح لتمارس الرياضة، ولم تسمح للعجز واليأس أن يتسربا إليها، بل كان كل همّها أن تبقى إرادتها حرة برغم السجن، وأن تعيش في هذا المكان كما عاشت في أي مكان آخر. "قرار واعٍ أصدره عقلي الظاهر والباطن، أن أعيش السجن وكأنه حياتي منذ ولدت وحتى أموت. لا أمل في الغد سوى أن أفتح عيني على هذه الجدران الأربعة فأجدها أقل سواداً".
مقالات أخرى:
تسلط الكاتبة الضوء على فترة حكم "السادات"، وكيف أنها كانت فترة من الخوف والذعر الذي انتشر بين الناس، إلى درجة اعتقادهم أن أي حديث عبر الهاتف يذهب مباشرة إلى أجهزة المباحث، وتخيّلهم أن جدران بيوتهم ملأى بأجهزة التسجيل. وتتحدث عن معنى "الحكم الفردي" أو حكم الفرد الواحد، أي عندما يصبح الرئيس وحده هو مصدر كل التشريعات والقوانين. هو من بيده الحل والربط في كل شيء، يحبس من يشاء ويطلق سراح من يشاء بدون اعتراض من أحد، وبدون اكتراث للقوانين أو الدستور. فيتحوّل الكاتب والفيلسوف والطبيب والضابط إلى مجرد موظفين لا إرادة لهم، ويتحول طبيب السجن إلى "أداة بوليسية للقهر والإيلام والتشويه"، فيتخلى عن مبادئه والقسم الذي أقسمه. كما تتحول المحاكمة إلى اسم فقط، لا تمت للعدالة بصلة، وكأنها تمثيلية يتقن الممثلون فيها لعب أدوراهم، وهمّ الجميع من كتّاب وأطباء وقضاة و... إرضاء الحاكم فقط!
تسرد "السعداوي" كيف أنها سجنت بسبب الكتابة، ورغم ذلك لم تستطع إلا أن تعشق الكتابة، ولم تتخل عنها حتى في أحلك الظروف وأقساها. فحاولت بكل الطرق أن تحصل على قلم وأوراق داخل الزنزانة، لكنها لم توفق في الحصول، فالأوراق ممنوعة في عنبر السياسيات، خشية أن تسرب إحداهن رسالة إلى أهلها في الخارج. لكن ذلك لم يثنها عن الكتابة، فصارت تكتب ليلاً على ورق التواليت أو ورق السجائر: "بعد منتصف الليل، وحين يهدأ الجو، ولا أسمع إلا صوت الأنفاس النائمة المنتظمة، أنهض وأسير على أطراف أصابعي إلى الركن المجاور لدورة المياه، أقلب الصفيحة الفارغة وأجلس على قعرها. أضع الصحن الألومنيوم فوق ركبتي وأسند عليه ورق التواليت الطويلة كالشريط، وأبدأ الكتابة”.
ورغم أنها أرادت من كتابها هذا أن يكون شهادة عن تجربتها الشخصية، فإنها تفرد مساحات من الكتاب لتروي قصص النساء السجينات في عنبر "غير السياسيات" ممن استطاعت التواصل معهن. تحكي حكاياتهن بإيجاز شديد، وتحلل الأسباب التي دفعتهن إلى القتل والسرقة والدعارة وغيرها، كما تحلل ظروف السجن السيئة التي يعشن فيها، خصوصاً اللواتي كنّ أمهات وولدن في السجن، فكبر أطفالهن إلى جوارهن في ظروف غاية في الصعوبة، من حيث العناية الطبية، وعدم وجود المواد الغذائية الملائمة لصحة أطفالهن، وضيق المكان وما ينجم عن كل ذلك من مشاجرات لا تنتهي بين السجينات.
تنتهي معاناة "السعداوي" وغيرها من سجينات الرأي بعد اغتيال السادات وتسلّم "مبارك" الحكم، فيتم الإفراج عنهن بعد فترة طويلة، وبعد كثير من الرسائل التي يرسلنها إليه للحصول على حريتهن. لكن ذلك لا يمنع الكاتبة من التساؤل بعد ثماني سنوات على خروجها، وهي تعدّ مقدمة لطبعة جديدة من كتابها: "هل أنا اليوم خارج السجن؟ لماذا إذن هذا الشعور بالاختناق والانحباس؟ كانت القضبان من حديد لكنها اليوم من مادة أخرى غير مرئية".
نوال السعداوي طبيبة وكاتبة مصرية، ولدت في القاهرة عام 1930، ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، اشتهرت بمواقفها الشجاعة وآرائها الصادمة، التي تعرضت بسببها للكثير من المضايقات، وللسجن في عهد الرئيس السادات. لها عشرات الكتب في الفكر والمذكرات والرواية والمسرح والقصة القصيرة. من أشهر كتبها: "الأنثى هي الأصل"، "أوراق حياتي"، "دراسات عن الرجل والمرأة"، "كانت هي الأضعف". ومن رواياتها: "زينة"، "سقوط الإمام"، "الحب في زمن النفط"، "موت الرجل الوحيد على الأرض".
الناشر: دار الآداب/ بيروت
عدد الصفحات: 304
الطبعةالأولى: 2000
يمكن شراء الرواية على
موقع نيل وفرات أو على
موقع متجر جملون
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...