في نهاية آذار/ مارس الماضي، ضجّت الساحة الفلسطينية بخبر مقتل الشاب الغزّي محمود الحملاوي داخل أحد سجون السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، بعد تعرّضه للتعذيب الشديد على يد أشخاص اختطفوه وكان بينهم ضابط يعمل في جهاز "الأمن الوقائي".
يشرح عماد المحلاوي، شقيق الشاب الذي انتقل للعمل في رام الله قبل أربعة أعوام من مقتله بهدف تحسين وضعه المعيشي، لرصيف22 أن أخاه اختُطف في 14 آذار/ مارس 2019، على يد مجموعة يتزعمها "أحمد عطية"، موضحاً أن أفرادها اقتحموا منزل محمود واعتدوا عليه أثناء نومه وضربوه ضرباً مبرحاً بالهراوات الحديدية، على جميع أنحاء جسده وتحديداً منطقة الرأس ومن ثم جرّوه على درج البيت.
ويشير إلى أن المجموعة جرّدت أخاه من ملابسه وسط الشارع، وكان البرد قارساً، وضربته أمام المارة، ثم اقتادته إلى سيارة بيضاء فيها شخصان من جهاز الأمن الوقائي، وسلمته إلى شرطة المحافظة التي أودعته في مركز توقيف تابع لها يُدعى "بيتونيا".
وذكر أن أسرة محمود تواصلت معه خلال تواجده في المركز، وأخبرهم أنه يشكو من آلام شديدة في رأسه، وأنه طلب معاينته طبياً أكثر من مرة، ولكن طلبه قوبل بالرفض، ما أدى إلى وفاته بعد حوالي عشرة أيام من اعتقاله.
"الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" تابعت قضية الشاب وقت حدوثها وبعد مرور حوالي ستة أشهر على مقتله أصدرت تقرير تقصي حقائق أكدت فيه رواية العائلة، وبيّنت أن جهاز الشرطة استلم الشاب من المجموعة المختطفة دون اتخاذ أي إجراء بحق أفرادها، على الرغم من علمه بأنه تعرّض للتعذيب على يدها، مشيرةً إلى أن علامة استفهام حول مدى قانونية احتجاز المواطن تُطرح، وإلى مؤشر على وجود تساهل من قبل الشرطة في التعامل مع المواطنين الذين تجاوزوا القانون.
ونوّهت الهيئة إلى أن حالة الحملاوي أظهرت وجود نقص في عدد الأطباء لدى الخدمات الطبية العسكرية، ما أدى إلى عدم تغطية المناوبات فترة 24 ساعة، وإلى الاستعاضة عن الأطباء بممرضين.
وقدمت الهيئة توصياتها إلى الجهات المختصة مطالبةً بضرورة التحقيق مع الأشخاص المشاركين في "الجريمة" ومحاسبة كل مَن تورط فيها، وبتعويض العائلة مالياً، واتخاذ ما يلزم من إجراءات أخرى للإنصاف وجبر الضرر.
ليست حالة معزولة
حكايا التعذيب والإهمال الطبي المرتبطة بسجون السلطة الفلسطينية والضباط العاملين فيها لا تقتصر على هذه القصة، فالتفاصيل المرعبة التي عاشتها الشابة سهى جبارة (30 عاماً) وقت اعتقالها بتهمة جمع الأموال بطريقة غير شرعية لصالح حركة حماس نهاية عام 2018 تكشف خبايا سجون مدينة أريحا التي تسكنها الشابة.
تروي جبارة لرصيف22: "تعرّضت للضرب والشتم بألفاظ نابية دون مراعاة لإنسانيتي ولا حتى لطبيعتي الأنثوية، وكذلك تم تهديدي من قبل المحققين بالاغتصاب وبقتل زوجي وأبي"، موضحةً أنها كانت تعاني وقت اعتقالها من أوضاع صحية صعبة ودخلت في غيبوبة عدة مرات.
70 يوماً هي المدة التي قضتها الشابة في سجن أشبه بـ"المسلخ"، على حد وصفها، ولم تخرج إلا بعد أن خاضت إضراباً مفتوحاً عن الطعام مدته 27 يوماً، وذلك بعدما فشلت كل الوساطات الفصائلية والشعبية في إيجاد حلول لقضية اعتقالها.
تقول إن الضباط حاولوا كسر إضرابها في مرات كثيرة، وأنها لم تعرض على أي جهة قضائية طوال مدة اعتقالها.
قصة أخرى عاشها مازن يونس (43 عاماً) الذي ينتمي تنظيمياً إلى حركة حماس ويسكن محافظة طوباس. يروي لرصيف22 أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية اعتقلته في تموز/ يوليو 2017 فور خروجه من سجون الاحتلال الإسرائيلي التي مكث فيها معتقلاً إدارياً لمدة تزيد عن ستة أشهر، مشيراً إلى أنه تعرّض أثناء سجنه لدى جهاز الأمن الوقائي لتعذيب بدني أقسى من ذلك الذي واجهه أثناء تواجده في سجون الاحتلال.
ويسرد أن المحققين كانوا يتعمدون "شبحه" لساعات طويلة، أي تعليقه من قدميه المكلبتين بحبال قاسية، لافتاً إلى أنه فقد الوعي أكثر من مرة خلال التعذيب ولم يتلقَّ أي اهتمام طبي، لأن السجن في الأصل غير مهيأ من الناحية الصحية والطبية، على حد وصفه.
"ألم شديد في المفاصل والرأس أعيشه حتى اليوم وأزور لأجله الأطباء كل فترة، كما أنني أصرف أكثر من 100 دولار شهرياً على العلاج" يتابع، منبهاً إلى أن الأطباء أخبروه عدة مرات أن ألمه ناتج عن أسباب لها علاقة بتعذيب وضرب، لكنه في ذات الوقت يوضح أن الأطباء رفضوا تزويده بتقارير طبية تتبث حالته الصحية خوفاً من أجهزة الأمن.
اعتقالات متكررة
الشاب إبراهيم زياد (29 عاماً)، من مدينة الخليل جنوب القدس، اعتقله جهاز المخابرات أكثر من ست مرات، ويقول لرصيف22 إنه في آخر مرة تعرّض للتعذيب لمدة 40 يوماً متواصلة في أحد مراكز التحقيق داخل المدينة، مضيفاً أنه صُعق بالكهرباء بعد أن رُبطت يداه خلف كرسي صغير، كما أن الضباط كانوا يتركونه معلقاً من قدميه لمدة ساعتين يومياً.
روى أنه تعرّض لضرب أثّر على قدرته الجنسية، لذلك يتردد في فكرة الزواج حتى هذه اللحظة، ويشرح الطرق الأخرى التي عامله بها المحققون، موضحاً أنهم كانوا يحرمونه من دخول "الحمام" لأيام متتالية، إضافة إلى استخدامهم أساليب قاسية في التعذيب النفسي، فقد طلب ضابط منه في إحدى المرات قيادة دراجة هوائية مرسومة على الحائط.
أحد الطلاب الناشطين في العمل الطلابي التابع لحركة حماس في جامعة بيرزيت الواقعة في مدينة رام الله ورفض الإفصاح عن اسمه، روى لرصيف22 تجربته في الاعتقال الذي واجهه أربع مرات. يقول: "اعتُقلت خلال العام الدراسي المنصرم، خلال عودتي ليلاً إلى منزلي الذي يقع في إحدى القرى التابعة للمحافظة، فقد تعرّضت لي مجموعة من الأشخاص يلبسون زياً مدنياً، واقتادوني إلى مكان مجهول".
خمسة أيام مرّت على مكوث الشاب في ذلك المكان حيث تعرّض للإهانة الجسدية والنفسية ولم يكن يعرف الليل من النهار ولا الجهة التي اختطفته، إلى أن أخبره أحد الضباط أنه متواجد في مقر يتبع للأمن الوقائي، وأبلغه أنه سيفرج عنه بعد ساعات، وطلب منه عدم الحديث عمّا جرى معه بتاتاً لأي شخص، وحذّره من استمرار عمله مع "الكتلة الإسلامية".
المنظمات الحقوقية تدين
في تقرير لها أصدرته في أيار/ مايو الماضي، أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن "السلطة الفلسطينية" في الضفة الغربية وسلطات "حماس" في غزة تعتقلان المنتقدين والمعارضين السلميين تعسفاً، وأشارت إلى أن الربع الأول من العام الجاري شهد اعتقال السلطة أكثر من 1600 شخص بسبب التعبير السلمي، وشهد كذلك اعتقال الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس في غزة أكثر من ألف شخص، خلال أثناء احتجاجات آذار/ مارس المعارضة لحكمها.
تعرّض في سجون السلطة الفلسطينية لضرب أثّر على قدرته الجنسية، ولا يزال يتردد في فكرة الزواج حتى هذه اللحظة، وطلب ضابط منه في إحدى المرات قيادة دراجة هوائية مرسومة على الحائط... التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية
"تعرّضتُ للضرب والشتم بألفاظ نابية دون مراعاة لإنسانيتي ولا حتى لطبيعتي الأنثوية، وكذلك تم تهديدي من قبل المحققين بالاغتصاب وبقتل زوجي وأبي"... التعذيب في سجون السلطة الفلسطينية
واعتبر نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، إريك غولدستين، أنه "رغم استمرار الانقسام الشديد بين السلطة الفلسطينية وحماس، إلا أنهما متفقتان على نهج واحد يتمثل في سحق المعارضة".
بدوره، بيّن "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" في تقرير عن موضوع التعذيب في السجون الفلسطينية أنه يتلقى، إلى جانب منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية، مزيداً من الشكاوى من مواطنين ادعوا تعرّضهم للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، في سجون ومراكز توقيف فلسطينية، لافتاً إلى أن عدد القتلى داخل السجون الفلسطينية بشكل عام نتيجة التعذيب وسوء المعاملة بلغ حوالي عشرين حالة منذ عام 2007.
وتنص المادة العاشرة من القانون الأساسي الفلسطيني لعام 2003 على أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام، وعلى السلطة الوطنية الفلسطينية أن تعمل من دون إبطاء على الانضمام إلى الإعلانات والمواثيق الإقليمية والدولية التي تحمي حقوق الإنسان. وورد كذلك في المادة 13 منه أنه لا يجوز إخضاع أحد الى إكراه أو تعذيب.
مخالفات قانونية وضرورة الإصلاح
يرى الباحث القانوني محمد أبو هاشم في الاعتقالات غير القانونية والتعذيب داخل السجون الفلسطينية والإهمال الطبي، أموراً خطيرة تشكل بالمجمل انتهاكاً صريحاً لحقوق الإنسان، ومخالفة للالتزامات القانونية التي تعهدت بها دولة فلسطين حينما انضمت إلى اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية خلال السنوات الخمس الماضية، بعيد حصولها على صفة "دولة غير كاملة العضوية" في الأمم المتحدة.
ووصف التعذيب الممارَس من قبل السلطة الفلسطينية ضد المعتقلين على خلفيات جنائية وسياسية بـ"الجريمة ضد الإنسانية"، منوهاً لخطورة ذلك على صعيد المجتمع والسلطة والأمن والسلامة العامة والتماسك الاجتماعي.
وأكد لرصيف22 ضرورة استمرار الضغط على مؤسسات الأمن الفلسطينية لاتخاذ الإجراءات اللازمة للإفراج عن المعتقلين، وإنهاء كافة أساليب التعذيب، وحماية حقوق المواطنين من تجاوزات أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة.
وكانت القناة الإسرائيلية الثانية قد بثت خلال شهر آذار/ مارس 2017، تقريراً مصوراً حول التعذيب الذي تمارسه الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في سجونها، بحق نشطاء فتح من المخيمات، ونشطاء من حركة حماس.
وتضمّن التقرير عدداً من المقابلات مع أشخاص "مطاردين"، سبق لهم التعرض للتعذيب، وتحدث عن سياسية "الباب الدوار"، أي أنه في كثير من المرات تقوم الأجهزة الأمنية باعتقال الأسرى بعد إفراج إسرائيل عنهم، وبالعكس.
مصدر خاص في الشرطة الفلسطينية، وهو ضابط برتبة ملازم يعمل في جهاز الأمن الوقائي في محافظات شمال الضفة الغربية، ذكر لرصيف22 أن عملهم في الجهاز تنظمه جهات عليا في السلطة، ومعظم العمليات التي توكل إليهم ذات طبيعة خاصة.
وأشار إلى أن كثيرين من زملائه الضباط في الجهاز، وخاصة أصحاب الرتب العليا، يتمتعون بصلاحيات عالية في إدارة أمور السجون ويمارسون التغول في تفاصيل عملهم، لافتاً إلى أن جهازه يُعَدّ من الأجهزة السيادية في السلطة، ولا يخضع للرقابة الفعلية من أية جهة رسمية، كما أن علاقته بالنيابة والقضاء تختلف عن الأجهزة الأخرى الواقعة ضمن منظومة الشرطة الفلسطينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...