"مع القوى العظيمة، تأتي مسؤوليات عظيمة"، هذه العبارة تعدّ الأشهر في تاريخ الأبطال الخارقين في العالم الغربي، وقد قالها عم الرجل العنكبوت Spider man للأخير. وهي تلخص مبدأ البطل الخارق وموقفه من الكون والبشريّة. فالمخيّلة الغربيّة، الأمريكيّة خصوصاً، أنتجت أبطالاً خارقين متنوعين خصوصاً مع تأسيس شركة مارفل لمجلات الكرتون في أربعينيات القرن الماضي، إذ عملت على إيجاد حكايات مختلفة وتاريخ شخصي واجتماعي لكل شخصية، بل وخلق عالم خيالي متكامل يحوي هذه الشخصيات، وطرح مفاهيم إنسانية أو فوق إنسانية مرتبطة بها.
فهل قدّمت المخيلة العربية بطلاً خارقاً؟ أي شخصيّة تحوي صفات خارقة جوهرية، اكتسبتها أو ولدت معها. إنسان عادي تحول بسبب ظرف ما إلى إنسان خارق يخترق النواميس الطبيعية. البحث في السرديات العربيّة، قديمها وحديثها، يجعلنا نقف أمام حقيقة قد تكون صادمة، لا يوجد في المخيلة العربيّة بطل خارق.
المقدس فقط
المفترض أن النصوص التاريخيّة تقوم بتغذية السرد والمخيلة، وتقدم نماذج للمحاكاة. فالأساطير الغربية قدمت نماذج من الممكن إعادة إنتاجها الآن وتحويلها إلى أيقونات نسعى لمحاكاتها، بل والتماهي معها، إلا أن المرجعية والأدبيات العربية لا تقدم سوى نماذج لصعاليك تحايلوا على السلطة، أو أبطال شعبيين كـعنترة العبسي أو سيف ذي يزن أو الزير سالم، الذين لا يمتلكون صفات خارقة جوهرية، بل هم يتحدون الموت أو يشاركون في مغامرات، لكنهم يبقون "بشراً"، أو متحذلقين وشطّاراً يحققون مكاسب شخصية لأنفسهم أو لطبقتهم الاجتماعية، من دون أن يكونوا "خارقين"، مثل علي بابا (لص) أو علاء الدين (شاب فقير ومتسوّل) أو الشاطر حسن، وهؤلاء لا يصلحون للمحاكاة بوصفهم "لا أخلاقيين"، ويتعاونون مع الإنس والجن، أي ليسوا خارقين.
إلى ذلك، نرى شخصيات دينية تتوحد مع الإلهي وتستمد منه القدرة، فالمخيّلة التي تحاول مراجعة السرديات العربية لإنتاج بطل خارق، نراها تقف في مواجهة تراث ديني يمنع الشخص العادي من التحول إلى خارق. فالوسيط الذي يجعلنا نتحول إلى أبطال في العالم الغربي، هو مؤسسة أو حدث أو تجربة علمية. الوسيط هو ديني، طقوس دينية، أو مرجعيات دينية في سبيل المقدس، والنماذج التي أنتجها الدين عن ذوي القدرات الخارقة، هم أنبياء، والسرد الديني يعمل بشدة في سبيل الحفاظ على قدسيتهم، فموسى ضرب ملاك الموت وفقأ عينه، كما أنه شق البحر، ولا يجوز محاكاة قدراتهم الخارقة في التعامل مع عناصر الطبيعة. والنص القرآني يؤكد أنه لا غرور ولا تجاوز لقدرة الله، ناهيك بخرق نواميسه "ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنّكَ لن تخرِق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولاً، كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروهاً " (الإسراء).
معجزة لا بطولة
إن اختراق نواميس الطبيعة أو المعجزة حكر على الشخصيات الدينية أو الأنبياء، بوصفها خرقاً لنواميس الطبيعة مع تدخل إلهي واضح في جوهر الفرد/ النبي، كالنار التي لم تحرق إبراهيم، أو الإسراء والمعراج التي قام بها النبي محمد. فالقدرة "فوق الطبيعية" التي يمنحها الله لمن يختاره، هدفها التّحدي ضد من لا يعترفون بهذا المقدس، لا خدمة أهداف البطل نفسه (كالحالة الغربيّة)، وهذا ما يجعل وجود البطل الخارق تحدياً للإله نفسه وصفاته بوصفه الأقدر والأقوى. المقدس هنا يحتكر ضمن سردياته القوى الخارقة وينسبها للوجود الإلهي، ولا تمنح إلا لمن يَتم اختيارهم، ولا تكون بالصدفة، وما عدا ذلك هو سحر، والسحر ليس خرقاً لنواميس الطبيعة بل إخفاء للأسباب "سحروا أعيُن الناس" (الأعراف)، أي تلاعبوا بالإدراك لا الناموس الطبيعي.
الطاغية ضد البطل
في الأدبيات المعاصرة وخصوصاً في المنطقة العربية القائمة على الديكتاتورية والأنظمة الأحادية، هناك "قائد خالد، عارف، عالم بكل شيء"، وفكرة البطل الخارق تشكل تحدياً للطاغية، فالأخير بوصفه فوق النظام والقانون، هو الوحيد الذي يحق له أن يتمتع بكل الصفات، وإنتاج المخيلة لبطل خارق يقف بوجه هذا الطاغية، ويعني التعالي على النظام الذي يمثله هذا الواحد العارف. فأمام الطاغية الجميع عبيد متساوون، ولا يمكن لأحدهم أن يقف متحدياً له، ناهيك بامتلاكه قدرات خارقة.
ومعلوم أن المؤسسة الدينية والسياسية تحتكر لنفسها المفاهيم المتعلقة بالبطولة، وخصوصاً الخارقة، وهي التي تمنح الشرعية لمن يمتلك قدرات كهذه، كأوسمة الشرف، وأوسمة البطولة، أو التحول إلى قديس أو صاحب كرامات. إلا أننا لا نجد بطلاً ذا مرجعية لا دينيّة ولا سياسية، فأمريكا قدمت أبطالاً خارقين يقفون أحياناً في وجه الدولة/النظام، ويتجاوزون قوانين المقدس من جهة، وقوانين الدولة من جهة أخرى، فالقدرة الخارقة التي يمتلكونها، تجعلهم أحراراً، وهذا ما يتناقض مع مفاهيم تدخل في أبيستومولجيا Epistemology المخيلة العربية المتعلقة بالسياسة والدين والمرتبطة بالعبوديّة والتبعيّة للواحد.
ضد التخيّل
يمثل البطل مرجعية ميتافيزيقية غير موجودة، نسعى إلى محاكاتها كي نصل إلى صفاتها، وندرك بالتالي في لحظة ما، حين نحاول أن نكون كسوبر مان أو باتمان، أنه وليد المخيلة، إلا أن الأمر في الحالة العربيّة معاكس، إذ هناك إيمان وسلطة دينية تفترض أن الأشخاص ذوي القدرات الخارقة، حقيقيون، واقعيون، وهم بشر أنعم عليهم الله بالقدرة، لذا فنموذج المحاكاة هنا لا يرتبط بنموذج متخيّل ميتافيزيقي، بل بحقائق تاريخية، وإنتاج بطل خارق يعني تشكيك بشرعية هذا التاريخ المقدس وصحته، ومدى حقيقة وجود هذه الشخصيات المقدّسة، وهذا ما لا يمكن القيام به في ظل السلطات الدينية والسياسية التي كانت وما زالت تحكم العرب والمخيلة العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...