باكستاني مسلم أصبح عمدة لندن! صادق خان رفع راية الإسلام والمسلمين...الله أكبر… الإسلام سيحكم العالم! هذه عيٌنة من العبارات التي انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، بعد فوز المواطن الإنجليزي المسلم ذي الأصل الباكستاني صادق خان بمنصب عمدة لندن، عاصمة المملكة المتحدة.
صادق خان هو ابن لأسرة باكستانية هاجرت إلى بريطاينا عام 1970. كان والده يعمل سائق أتوبيس، ووالدته خياطة. عاش طفولته في مسكن بسيط، مدعوم من البلدية لمحدودي الدخل. ترشح خان عن حزب العمال اليساري، لينتصر على منافسه زاك غولدسميث بفارق كبير. علماً أن زاك من أصل بريطاني، ابن رجل ثري، وكان مدعوماً من رئيس الوزراء الحالي ديفيد كاميرون. كل هذا لم يمنع خان من الفوز في الانتخابات، فإنجلترا بلد ديموقراطي علماني حر.
عمل صادق محامياً يدافع عن الأقليات وحقوق الإنسان. وحين سمعت بخبر فوزه في الانتخابات شغل ذهني سؤال محدد. ماذا لو لم يهاجر والده إلى المملكة المتحدة؟ ماذا لو وُلد صادق خان وعاش حياته في باكستان، وعمل أيضاً محامياً يدافع عن حقوق الإنسان والأقليات في إسلام آباد مثلاً بدلاً من لندن؟ للأسف كان القدر قاسياً، فلم يهملني فرصة التفكير كثيراً. إذ بينما كنت أتابع قراءة الأخبار في اليوم التالي وقعت عيناي على الإجابة.
خورم زكي... صحافي وحقوقي باكستاني، كان يهاجم التطرف الديني ويدافع عن الأقليات والمستضعفين، قتل في اليوم التالي لفوز صادق خان!
فاز خان يوم الجمعة، فكتب زكي عنه يوم السبت صباحاً، ثم لقي مصرعه في مساء اليوم نفسه، السبت 7 مايو 2016 برصاص متطرفين مجهولين. بينما كان يخرج من أحد المطاعم في مدينة كراتشي بعد عشاء مع أحد أصدقائه، هاجمه 4 أشخاص على دراجتين بخارتيين، وأمطروه بالرصاص، فأردوه قتيلاً.
خورم زكي مواليد 1976 بينما صادق خان مواليد 1970. كلاهما من أصل باكستاني، وكلاهما مسلم شيعي. كلاهما عاش يدافع عن قيم حقوق الإنسان، وكلاهما آمن أن الديموقراطية والعلمانية هما الحل. الفرق أن زكي ولد وعاش في باكستان، بينما ولد خان وعاش في إنجلترا. يوم الجمعة الماضي 6 مايو 2016 احتفل العالم كله بعمدة لندن الجديد في تجلٍ واضح لقيم المساواة وعدم التمييز. في اليوم التالي، قُتّل خورم زكي مدافعاً عن القيم نفسها التي بسببها نجح صادق خان.
آخر ما كتبه زكي على Facebook هو موقف يحتفل فيه بالنظام العلماني الديموقراطي، الذي هيأ المناخ المناسب لصادق خان ليصل إلى منصب عمدة لندن. فلولا العلمانية، وفصل الدين عن الدولة في المملكة المتحدة، لما تمكن مسلم من الفوز بمنصب عمدة بلدة، معظم سكانها من غير المسلمين. ولولا العلمانية المتأصلة في ثقافة ناخبي لندن، الذين نظروا إلى برنامج خان وليس إلى دينه، لما تمكن من الانتصار على مرشح الحزب المحافظ الحاكم.
ومن ضمن كلمات زكي الأخيرة عن خان: "صادق خان بريطاني وليس باكستانياً. الإسلام أو باكستان لم يلعبا أي دور في نجاحه. أنا أحتفل بعظمة الديموقراطية الغربية العلمانية. ففي مواجهة التكفير والوهابية الإرهابية والإسلاموفوبيا، أعطت لندن المثال ضد التمييز والتعصب. لندن المركز العظيم للحضارة الإنسانية أعطت مثالاً للعالم!". ثم يتساءل زكي: "هل يمكننا أن ننتخب أحمدياً أو هندوسياً أو مسيحياً رئيساً للوزراء؟".
كان زكي مؤمناً بالنظام العلماني الديموقراطي، الذي يضمن حقوق الإنسان. كان يكتب عن ذلك وينادي بضرورة التحول إلى هذه الأفكار بدلاً من التطرف والأصولية الدينية. طلب منه أصدقاؤه مرات ومرات أن يغادر باكستان حفاظاً على حياته، فقتل المناهضين للتطرف والأصولية الدينية أمر ليس نادراً في باكستان. لكنه رفض معللاً بأن دوره أن يبقى في البلد ليناهض فكر هذه الجماعات. وللأسف دفع هذا البطل حياته ثمناً للدفاع عن أفكاره.
فوز مواطن إنجليزي مسلم من أصل باكستاني، تربى في أسرة فقيرة بمنصب عمدة لندن، وفي اليوم التالي يقتل ناشط وصحافي وحقوقي باكستاني، فقط لأنه يدين التطرف وينادي بالعلمانية، انعكاس لأزمة كثير من الشعوب ذات الغالبية المسلمة مع فكرة العلمانية. فلطالما تحدث المسلمون في الغرب عن حقوقهم من منطلق احترام الحرية الدينية والمواطنة، في حين أن بعضهم يصوت أحياناً في بلادهم لجماعات الإسلام السياسي المختلفة لإقامة دولة دينية، تقمع غير المسلمين وتعامل أصحاب الديانات الأخرى من منطلق أهل الذمة، وليس من منطلق المواطنة التي تضمن الواجبات والحقوق المتساوية.
هنا أتذكر المقولة الشهيرة التي قالها المؤرخ والمفكر العراقي د. علي الوردي (1913-1995): "لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية". نعم، فشعوبنا تعيش انفصاماً فكرياً. شعوبنا مبهورة بالحداثة والمواطنة التي سببت تقدم الغرب. ولكنها في اللحظة نفسها، تشتاق إلى نظم سياسية كانت تكرس التمييز والطائفية باسم الدين.
فنحن لا نمانع من أن نحتفل بعمدة لندن المسلم، لكننا نرفض المواطنة التي مكنته من الفوز، نعم فنحن فصاميون. فما حدث مع اللواء عماد ميخائيل شحاته، حين تم تعيينه محافظاً لمدينة قنا، هو خير مثال. عندما هاج آلاف المواطنين وتظاهروا لعدة أيام مرددين شعارات في قمة الطائفية منها "عايزين واحد منيينا" على أعتبار أن المسيحي ليس منهم، فالأرضية المشتركة التي تجمعهم هي أرضية الدين وليس الوطن الذي يجمعنا كلنا. ثم اعتصموا وقطعوا شريط القطار، فكيف لمسيحي أن يحكم مسلمين؟ فلا ولاية لذمي علي مسلم. أليس هذا ما سمعناه مئات المرات في دروس الدين؟ حدث هذا في أبريل 2011، بعد ثلاثة أشهر من ثورة يناير التي نادت بالحرية. لكن يبدو أن الحرية عند البعض، هي حرية التمييز ضد الآخر المختلف دينياً. وللأسف، لم يهدأ المتظاهرون حتى أنصاعت الدولة المصرية وعزلت المحافظ كي تتفادى غضبهم.
في فبراير الماضي، تكرر موقف مشابه، حين تم تعيين ميرفت سيفين مديرة لمدرسة ثانوية صناعية، في مركز بني مزار في المنيا. ثارت الطالبات واعتصمن رفضاً لهذا التعيين، لأن سيفين مسيحية. ولم يهدأ الموقف إلا بعزل المديرة إرضاءً لطائفية الطالبات. بدلاً من أن تتعلم الطالبات أن المسيحي كالمسلم، وعلينا واجبات واحدة وحقوق واحدة. فقد تم عزل المديرة لترسيخ مفهوم الطائفية.
نحن لا نعرف ماذا نريد. هل نعود إلى ماضٍ زاخر بالتمييز والتعصب يفرق بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين. فيجعل من البعض مؤمناً ومن البعض ذمياً، أم ننطلق لنلحق بالحداثة؟ الفجوة الحضارية الزمنية بين فوز صادق خان ومقتل خورم زكي، فجوة تقاس بالقرون وليس بالعقود!
علينا أن نختار، إما أن نغرق في بحور الطائفية ونستمر في قتال بعضنا بعضاً، والتمييز في ما بيننا باسم الدين. وإما أن نهاجر للحداثة والعلمانية. ونتعامل كلنا على أساس العمل والكفاءة واحترام القانون فقط. فمن المضحك والمبكي أن بعض المغردين على Twitter كانوا يتباكون بعد فوز صادق خان، لأنه مسلم شيعي وليس سنياً! ففي أي زمن يعيش هؤلاء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...