"سلاطة لسان" المصريين في نقد حكامهم... ظاهرة قديمة وليست مستحدثة
السبت 9 يوليو 201612:45 م
يتسرع البعض فيقولون، غالباً بسخط، إن المصريين "اكتسبوا أخيراً"، في نقدهم لحكامهم سلاطة اللسان. في الواقع يحمل التاريخ في تفاصيله، ما يثبت أن تلك السلاطة أو الجرأة ليست إلا موروثاً مصرياً يمتد لعصور أقدم.
العصر الفاطمي
يبدأ طرف الخيط في التتبع التاريخي لتلك الظاهرة عند العصر الفاطمي، تحديداً عصر الخليفة الفاطمي الثالث المثير للجدل "الحاكم بأمر الله". فبسبب ما وصفه المؤرخون بـ"شذوذ طباعه"، وارتباط عصره بالتشريعات العجيبة والسلوك المتقلب، أخرج المصريون في مواجهة هذا الحاكم ما في جعبتهم وألقوه في وجهه. فأطلقوا سخريتهم عليه. مثلاً، حين انتقل من العبث بالقوانين المنظمة للحياة اليومية، للعبث بالمقدسات، فدخل في مرحلة تأليه نفسه وادعاء أن "روح الله" حلّت في جسده. وأنه صار يُنادَى بـ"يا واحد يا أحد" وغيره من أسماء الله. ما أشعل ثورة بين العامة ضد دعاة هذا المذهب المصنف إسلامياً "هرطقة". فعبر أهل الفسطاط عن سخطهم بكتابة عبارات ساخرة من الحاكم ومذهبه على الجدران الواقعة في طريقه. ثم ابتكروا أسلوباً جديداً للاستهزاء به. فكان يمر يوماً بشارع، وجد على جانبه امرأة ترتدي النقاب، واقفة وبيدها رقعة من الورق، فظن أنها تريد أن ترفع إليه شكوى، فتناول الورقة وقرأها ليجد أبياتاً تسخر منه بشكل لاذع، فأمر بالقبض عليها ليكتشف أن تلك المرأة هي دُمية بالحجم الطبيعي، وضعها الناس في طريقه زيادة في السخرية منه. خصوصاً أنه كان أمر بمنع النساء من مغادرة المنازل، بل بلغ حد منع صناع الأحذية من صناعة الأحذية النسائية. قرر الحاكم الانتقام من أهل الفسطاط، فأرسل كتيبة "عبيده السود" لحرق المدينة، ودارت المعارك بينهم وبين أهلها حتى تدخل رجاله من المحاربين الترك والمغاربة لوقف تلك المذبحة.العصر الأيوبي و"فاشوش قراقوش"
أما في العصر الأيوبي فكان ضحية السخرية المصرية، الوزير والقائد العسكري بهاء الدين قراقوش، رجل صلاح الدين الأيوبي ونائبه على القاهرة. لكن التنكيل بهذا الرجل كان نتيجة منافسة سياسية غير شريفة. فقراقوش، الذي كان خصياً أجنبياً مملوكاً لأسد الدين شريكوه، عم صلاح الدين، انتقل لخدمة صلاح الدين بعد وفاة العم. وكان رجلاً معروفاً بالشجاعة والحكمة والإخلاص، فاتخذه صلاح الدين مساعداً له، خصوصاً بعد استبساله في الدفاع عن عكا قبل سقوطها في يد الفرنجة، وكلفه أن ينوب عنه في تحصين مصر وبناء قلعة الجبل بالقاهرة. تقديم قراقوش في هذا المنصب الهام، استفز أحد السياسيين المصريين المسَالِمة (مفردها "مسلماني" وهو المسلم من أصول غير مسلمة) اسمه "سعد بن ماماتي"، الذي كان يرى نفسه أجدر بهذه المكانة. فوضع كتاب اسمه "الفاشوش في حكم قراقوش"، نسب فيه لمنافسه الغباء والحماقة والظلم. وجعل الكتاب عبارة عن نوادر منسوبة لقراقوش تظهر مدى طغيانه وسفاهته.يحمل التاريخ في تفاصيله ما يثبت أن جرأة المصريين في نقد حكامهم ليست إلا موروثاً مصرياً يمتد لعصور قديمةأورد الكتاب عن قراقوش مثلاً أنه كان ينشر قميصاً له بعد غسيله، انقطع الحبل وسقط القميص، فتصدق قراقوش ببعض المال قائلاً "لو كنت فيه عند سقوطه لانكسر جسدي". أو أن لصاً كان يفر من مطارده، اصطدم بامرأة حبلى، وتسبب في سقوط حملها، فعاقبه قراقوش بأن كلفه إعادة الحمل كما أسقطه. تلك السخرية كانت إظهاراً لسخطهم على فكرة أن يحكمهم غريب عن بلادهم، وفيهم من هو أجدر بالمهمة. كما أن المصريين، ورغم ترحيبهم بآل أيوب، كانوا يسخرون أحياناً من الجند الأكراد المصاحبين لهم، بحكم الأصل الكردي للأيوبين، ويتهمونهم بالغباء، حتى انتشر بينهم تعبير "استكردني" بمعنى "استغفلني".